تمر اليوم الخميس الذكرى الأولى لمعركة "ردع العدوان" التي أطلقتها هيئة تحرير الشام في السابع والعشرين من تشرين ثاني/ نوفمبر 2024، بأهداف محدودة سرعان ما توسعت على نحو مفاجئ، ما أدى إلى سقوط نظام البعث في
سوريا في 12 يوما، بعد حكم دام أكثر من خمسة عقود.
العملية التي انطلقت في ظل ظروف إقليمية ملتهبة (العدوان على قطاع غزة)، سبقها بعام وبضعة شهور، عودة نظام
الأسد إلى الحضن العربي، واستعادة سوريا عضويتها في جامعة الدول العربية بعد سنوات من تجميدها بسبب المجازر المرتكبة منذ العام 2011.
وبالتزامن مع تطبيع العرب علاقتهم مع الأسد، كان "أبو محمد
الجولاني" يطلق منتصف العام 2023 وعودا وُصفت بـ"الخيالية" حينها في جلساته مع مهجّري حلب، ووجهاء إدلب، يخبرهم فيها بـ"إتمام الجهوزية" لمعركة "دخول حلب"، كما كُشف لاحقا أنه كان يبلغ المقربين منه بثقته بدخول دمشق رغم كل المتغيرات التي صبّت ظاهريا في صالح الأسد.
وبرغم كسر نظام الأسد عزلته السياسية والإقليمية، وتطبيع علاقاته مع جل الدول العربية باستثناء قطر، وزيارته إلى السعودية، والإمارات، اللتين دعمتا الثورة سابقا، إلا أن هيئة تحرير الشام ومن خلفها فصائل أخرى قررت المضي قدما في عملية "ردع العدوان" بأهداف محدودة.
ضربة استباقية لإعادة المهجّرين
تم الإعلان عن عملية "ردع العدوان" من قِبل الناطق باسم غرفة عمليات "الفتح المبين"، حسن عبد الغني، لتكون "ضربة استباقية مدروسة" ضد قوات النظام والمليشيات الإيرانية المقاتلة معه. وجاءت العملية رداً على التصعيد المكثف لقوات النظام وقصفها للمناطق السكنية في ريف حلب الغربي وإدلب، وهو ما وصفه بيان الإطلاق بـ"الخطر الوشيك الذي يهدد أمن المناطق المحررة ووجود المدنيين".
وأكدت الفصائل هدفها الثابت المتمثل في الدفاع عن المدنيين وإعادة نحو مليون مهجّر في الشمال السوري إلى ديارهم التي احتلتها قوات النظام، وهو ما منح المعركة غطاءً شعبياً واسعاً منذ الساعات الأولى لانطلاقها.
وتشكلت القيادة الميدانية للمعركة تحت اسم "إدارة العمليات العسكرية"، وهي هيكلية جديدة أعلنت عنها "القيادة العامة" لهيئة تحرير الشام. وقد ضمت هذه الإدارة قيادات بارزة من "هيئة تحرير الشام"، وعلى رأسها أحمد
الشرع (أبو محمد الجولاني)، بالإضافة إلى فرع من "حركة أحرار الشام الإسلامية" في إدلب، و"الجبهة الوطنية للتحرير" التي تمثل فصائل الجيش الحر المتبقية في المحافظة، وفصائل من "الجيش الوطني السوري" العاملة في الشمال (مثل الجبهة الشامية)، إلى جانب مجموعات إسلامية وجهادية أخرى كـ"أنصار التوحيد" و"الحزب الإسلامي التركستاني".
ورغم الحديث عن دور تركي في المعركة، إلا أن هيئة تحرير الشام أكدت أن التخطيط لـ"ردع العدوان" وإدارة المعركة كان محلياً خالصاً، فيما لعبت تركيا دوراً غير مباشر وحاسماً من خلال دعم فصائل الجيش الوطني السوري التي أطلقت لاحقا (غرفة عمليات فجر الحرية).
تدحرج كرة الثلج.. ماذا جرى في 12 يوم؟
تُظهر المراحل الميدانية لعملية "ردع العدوان" إيقاعاً متسارعاً للانهيار في صفوف النظام السوري، بدأ من الشمال الغربي ولم يتوقف إلا بسقوط العاصمة دمشق. وبرغم سرعة وقصر العملية التي أسقطت نظام الأسد، إلا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل.
الأولى.. السيطرة على حلب وإدلب
اليوم الأول (27 نوفمبر ):
انطلقت المعارك فجرا من منطقة قبتان الجبل في ريف حلب الغربي. حققت الفصائل سيطرة سريعة على قرى وبلدات ومواقع عسكرية امتدت على مساحة تقارب 140 كم، بما في ذلك الشيخ عقيل والفوج 46، مع اغتنام آليات وأسلحة ثقيلة. ووجهت "إدارة العمليات" هدف العملية نحو توجيه ضربة استباقية مدروسة، وتوسيع المناطق الآمنة، وتأمين عودة النازحين.
اليوم الثاني (28 نوفمبر):
استُكمل التقدم في ريف حلب الغربي، لتسقط بلدات كفر حلب وكفرناها، وتم التوغل في ريف حلب الجنوبي، مع السيطرة على بلدة الزربة وأجزاء من طريق حلب - دمشق الدولي. وفي الوقت نفسه، فُتح محور جديد في ريف إدلب الشرقي، سقطت فيه بلدتا داديخ وكفربطيخ، معلنة اغتنام أكثر من 10 دبابات ومقتل أكثر من 200 عنصر من قوات النظام والميليشيات الرديفة خلال اليومين الأولين.
اليوم الثالث (29 نوفمبر):
كانت نقطة التحول الكبرى في اليوم الثالث، حيث أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" بدء الدخول إلى مدينة حلب من جهتها الغربية. وخلال الساعات اللاحقة، سُيطر على أحياء حلب الجديدة، الحمدانية، الأعظمية، مدفعية الزهراء، وقلعة حلب وساحة جامعة حلب. وفي الجنوب، تابعت الفصائل التقدم في ريف حلب الجنوبي والسيطرة على خان طومان والعيس، كما سُيطر على مدينة سراقب وكامل المناطق المحيطة بها في ريف إدلب.
اليوم الرابع (30 نوفمبر):
اكتملت السيطرة على معظم أحياء مدينة حلب، وفي خطوة ذات دلالة استراتيجية، سيطرت "إدارة العمليات" على مطار حلب الدولي بعد اشتباكات ضد قوات النظام و"قسد" التي كانت قد تمددت إليه.
كما أعلنت الفصائل السيطرة على كامل محافظة إدلب بعد تحرير مطار أبو الضهور العسكري ومدن معرة النعمان وخان شيخون، ليخرج النظام السوري تماماً من الشمال الغربي.
بالتزامن مع هذا التقدم، أطلقت فصائل الجيش الوطني السوري معركة "فجر الحرية" على محاور ريف حلب الشرقي ضد قوات النظام و"قسد"، وسيطرت على أكثر من 20 موقعاً، أبرزها مطار كويرس العسكري.
اليوم الخامس (1 ديسمبر):
في هذا اليوم، انتهى الوجود الفعلي للنظام السوري في مدينة حلب، وسيطرت "إدارة العمليات" على المنطقة الصناعية في الشيخ نجار والكلية العسكرية وسجن حلب المركزي، مع بقاء أحياء تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
وكان لافتا في هذا، إعلان "الجولاني" عن اسمه الحقيقي "أحمد الشرع" لأول مرة في مباركته دخول المقاتلين إلى حماة، كما بعث في ذات اليوم برسالة مصورة إلى رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، يؤكد فيها أن "هيئة تحرير الشام" لا تعتبر العراق ولا مواطنيه هدفا لعملياتها، في إشارة إلى تحييد المليشيات العراقية عن المعركة.
وفي ريف حلب الشرقي، واصلت غرفة عمليات "فجر الحرية" التقدم، وسيطرت على مناطق حيوية مثل السفيرة والمحطة الحرارية، كما فتحت محوراً جديداً تجاه تل رفعت، حيث سُيطر على المدينة ومطار منغ العسكري بعد مواجهات ضد "قسد". وفي ريف حماة الشمالي، انطلق التقدم وسيطرت الفصائل على جبل شحشبو، وقرى معان والطليسية، معلنة اغتيال رئيس فرع الأمن العسكري في حماة عبر طائرة مسيّرة.
الثانية.. سقوط حماة وحمص
اليوم السادس والسابع (2-3 ديسمبر):
تركزت المعارك في ريفي حماة الشمالي والشرقي، حيث سُيطر على مدن وبلدات استراتيجية مثل صوران وكرناز والرهجان ومعردس ورحبة التسليح، ليتم الوصول إلى مشارف مدينة حماة والسيطرة على مواقع عسكرية هامة مثل مدرسة المجنزرات واللواء 87.
وبينما خرج وزير دفاع النظام حينها العميد علي محمود عباس ببيان مصور يعلن فيه أن ما حدث في حماة مجرد "إعادة تموضع" للجيش، كانت قوات المعارضة تتقدم داخل المدينة وتحكم السيطرة عليها.
بالتزامن مع ذلك، واصلت "فجر الحرية" عملياتها شرقي حلب وسيطرت على كلية المشاة ومناطق واسعة.
اليوم الثامن والتاسع (4 و5 ديسمبر):
في اليوم الثامن، استمر تقدم المعارضة في ريف حماة مع انهيار شبه تام لقوات النظام وفرار جنودها.
وفي اليوم التاسع دخلت قوات "إدارة العمليات العسكرية" إلى مدينة حماة من جهتها الشرقية، لتعلن السيطرة عليها بالكامل وتحرير مئات الأسرى من سجنها المركزي. تلا ذلك السيطرة على مطار حماة العسكري وجبل زين العابدين، وأعلن النظام السوري انسحاب قواته رسمياً.
مع سقوط حماة، بدأت في الجنوب السوري فصائل محلية بتشكيل "غرفة عمليات الجنوب" وإطلاق معركة "كسر القيود" في درعا والقنيطرة، ومعركة "الحسم" في السويداء، مما أدى إلى انهيار صفوف النظام في تلك المحافظات.
اليوم العاشر (6 ديسمبر):
واصلت "إدارة العمليات العسكرية" تقدمها في ريف حمص الشمالي، حيث سُيطر على مدن تلبيسة والرستن، واستكمال بسط النفوذ على معظم المناطق في الريف الشمالي.
وفي الجنوب، أعلنت فصائل "غرفة عمليات الجنوب" السيطرة على جميع المخافر الحدودية ومعبر نصيب الحدودي، وتحرير أكثر من 40 حاجزاً و42 مدينة وبلدة في درعا، وسط انسحاب وانشقاق المئات من عناصر النظام.
اليوم الحادي عشر (7 ديسمبر):
وصلت "إدارة العمليات العسكرية" إلى أطراف مدينة حمص، بعد سيطرتها على الفرقة 26 وكلية الهندسة وحاجز ملوك الاستراتيجي. بالتزامن مع ذلك، أعلن "جيش سوريا الحرة" العامل في التنف عملية عسكرية في البادية، بينما أعلنت "غرفة عمليات الجنوب" تحرير كامل محافظتي درعا والقنيطرة، والوصول إلى مداخل دمشق الجنوبية.
كما أعلنت "غرفة عمليات فتح دمشق" سيطرتها على مواقع استراتيجية في ريف دمشق الغربي، وبدأت قوات النظام بالانسحاب من غوطتي دمشق الشرقية والغربية. وفي السويداء، أعلنت "معركة الحسم" السيطرة على مواقع عسكرية هامة، بما في ذلك قيادة الفرقة 15 ومطار الثعلة.
في ذات الوقت، نشرت رئاسة الجمهورية السورية آخر بيان لها في حقبة الأسد، زاعمة أن بشار الأسد لم يهرب، ويمارس عمله من دمشق كالمعتاد.
الثالثة.. سقوط النظام
اليوم الثاني عشر: (8 ديسمبر):
في الساعات الأولى من فجر يوم الأحد، 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" السيطرة الكاملة على مدينة حمص وتحرير آلاف المعتقلين من سجنها المركزي، ونجاح قواتها في اقتحام سجن صيدنايا المركزي.
وفي تمام الساعة 04:45 فجرًا، أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" بدء دخول قواتها إلى العاصمة دمشق، لتعلن عند الساعة 06:16 تحريرها بالكامل، مؤكدة هروب بشار الأسد وسقوط النظام رسمياً بعد 12 يوماً من انطلاق المعركة.
بالتزامن مع ذلك، دخلت قوات "غرفة عمليات الجنوب" المدينة من المحور الجنوبي، وبدأت "إدارة العمليات" بدخول مدينة دير الزور.
أُعلن في ذات اليوم عن هروب الأسد إلى العاصمة الروسية موسكو التي منحته حق اللجوء، كما كُشف على الملأ عن كارثة سجن صيدنايا، المسلخ البشري الذي عذّب فيه النظام المخلوع وقتل عشرات آلاف السوريين.
واجتمع الشرع مع محمد الجلالي آخر رئيس حكومة في عهد نظام الأسد، والذي أعلن هو الآخر عن سقوط النظام رسميا، وكان هدف الاجتماع النقل السلمي للسلطة للمحافظة على مؤسسات الدولة من الانهيار.
كواليس الانتصار
كشفت القيادات العسكرية، وفي مقدمتها الرئيس الحالي أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وزير الدفاع المرهف أبو قصرة (أبو الحسن 600 سابقا)، أن العملية التي أسقطت نظام الأسد لم تكن وليدة الصدفة، بل نتاج تخطيط استراتيجي استمر لأربع سنوات، أعاد بناء القوات وفق عقيدة جديدة كانت الإجابة على التحديات الثلاثية (النظام، إيران، وروسيا).
تغيير العقيدة العسكرية
قال الشرع وأبو قصرة في تصريحات أعقبت سقوط الأسد إن هذا النجاح لم يكن ممكناً لولا التخطيط الاستراتيجي الذي بدأ بعد حملة النظام في 2020. فقد كشف اللواء أبو قصرة أن الإعداد للعملية استند إلى تغيير جذري في العقيدة العسكرية، جاء كرد فعل مباشر على تطور المشهد القتالي منذ عام 2015. وأوضح أن الثورة مرت بثلاث مراحل قتالية: الأولى (2011-2012) ضد النظام فقط، والثانية (2013-2014) ضد النظام وإيران، أما المرحلة الثالثة فقد بدأت بدخول روسيا في 2015، حيث تحول العدو إلى جيوش نظامية مدربة.
هذه التحديات الثلاثية فرضت على الفصائل الخروج من حالة التشكيلات "الهجينة" إلى بناء ألوية عسكرية منظمة، تعتمد على العلم العسكري والتدريب المتقدم لتتمكن من مواجهة التقنية الروسية والقوة النظامية.
وتم إنشاء الكلية العسكرية عام 2021، التي ألحق بها القادة العسكريون لدورات مكثفة (ستة أشهر)، بالاستعانة بضباط ذو كفاءة عالية، مما رفع الكفاءة القتالية بشكل كبير.
كما ركزت القيادة على التفوق التقني من خلال تطوير الصناعات الحربية المحلية وتوحيدها. فتم إنتاج المصفحة محلياً وتطوير منظومة قتالية كاملة للقتال الليلي، بالإضافة إلى طائرات "شاهين" المسيّرة التي استخدمت بنجاح لضرب تجمعات الضباط وقيادات النظام، ومنظومات التشويش، ومنع النظام من التقاط أنفاسه ليلاً أو نهاراً.
تحييد الروس
لم يقتصر نجاح عملية "ردع العدوان" على التفوق الميداني والتقني، بل ارتكز على قرار استراتيجي حاسم لضمان تحييد العامل الروسي. ولاحقا كشف الرئيس أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني عن مفاوضات مباشرة أجريت مع الجانب الروسي بالتزامن مع التقدم الميداني، وتحديداً عند وصول القوات إلى حماة.
وأسفرت هذه المفاوضات عن التزامات متبادلة، كان أبرز نتائجها أن "ابتعد الروس عن المعركة وانسحبوا تماماً" عند وصول القوات إلى حمص. وأكدت القيادة أن القصف الجوي الذي جرى في تلك الفترة كان يتم في سياق "اتفاق جرى بيننا وبينهم"، مشددة على أن الروس "وفوا بهم إلى هذه اللحظة" ولم يتدخلوا سلبياً.
وكشفت القيادة السورية عن خيار عسكري استراتيجي كان متاحاً أمام قواتها، وهو استهداف قاعدة حميميم، حيث كانت طائرات الاستطلاع "شاهين" ترصد أجواء المطار، لكن خيار الاستهداف المباشر رُفض خشية دفع روسيا إلى الدخول "بزخم أكبر في المعركة".
وبدلاً من المواجهة المباشرة، اعتمدت القيادة على تكتيك تشتيت الطيران الروسي وتحمل بعض القصف المحدود. وقد انعكست سرعة تقدم القوات في المعركة على الطيران الروسي، حيث "أصبح لديه مجهولية في مواقع العدو من الصديق"، مما أدى إلى أن القصف الروسي لم يكن "مركزاً منه" وخسر فعاليته.
هذه التفاهمات الاستراتيجية قامت على إدراك القيادة بأن تمسُّك الروس ليس بشخص النظام، بل بمصالحهم الاستراتيجية والتاريخية. وقد جرى الاتفاق على أن دخول القوات إلى دمشق "لا يعني خروج لروسيا من سوريا"، وهو ما مكّن من فتح العلاقات والتواصل مباشرة بعد السيطرة على حلب، والتوصل إلى تفاهمات تضمن مصالح الطرفين بشروط مختلفة عن الوضع السابق.