صحافة دولية

سمية الغنوشي: تسريبات إبستين تكشف تفكك نفوذ اللوبي الإسرائيلي وتفضح الفساد داخل واشنطن

تسريبات إبستين تفتح “صندوق النفوذ” في واشنطن - جيتي
قالت الكاتبة التونسية سمية الغنوشي، في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن التسريبات الأخيرة المتعلقة بالملياردير الأمريكي الراحل جيفري إبستين أعادت فتح الباب أمام ما حاولت مؤسسات الحكم في واشنطن إبقاءه مطويا لسنوات طويلة، ليس من باب الفضائح الشخصية كما تروج وسائل الإعلام، بل من باب “النفاذ إلى ماكينة السلطة الأمريكية” التي تشكل وفق ما تكشفه الوثائق “مثلثا غير مقدس يجمع المال والسياسة والجنس”.

وترى الغنوشي أن هذه التسريبات لا تقتصر على فضح سقوط إبستين نفسه، بل تكشف عن شبكة نفوذ أجنبية “تعلمت كيف تحكم الولايات المتحدة عبر الإغراء والاعتماد والابتزاز”، مؤكدة أن المعلومات الواردة “ليست نظريات مؤامرة ولا أوهاما معادية للسامية، بل هي ما تؤكده الوثائق وسلوك واشنطن على حد سواء”.

إبستين: واجهة لجهاز استخبارات لا مجرد محتال
وتؤكد الكاتبة أن الملفات تكشف أن إبستين لم يكن مجرد محتال بارع صعد من مدرس رياضيات متواضع إلى عالم النخبة المالية، بل كان “واجهة اجتماعية لجهاز استخباري صمم ليفسد ويبتز ويهيمن”.

وتوضح أن شبكة علاقاته لم تكن صدفة، فمساعدته الأقرب غيسلاين ماكسويل هي ابنة روبرت ماكسويل الذي ارتبط اسمه منذ عقود بالتعاون الوثيق مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. كما دفعت أموال إبستين إلى مشاريع يقودها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، الذي زاره مرارا حتى بعد إدانته في قضية تتعلق بالقاصرات، وكان يتولى إدارة شركة الأمن التكنولوجي الإسرائيلية Carbyne التي ضخ فيها إبستين جزءا من أمواله.

وترى الغنوشي أن هذه الروابط توضح أن الشبكة كانت جزءا من “منظومة تأثير أجنبية متغلغلة في مفاصل واشنطن”، وأن نفوذها وإن كان ما يزال كبيرا “بدأ يتجاوز حدوده”.

تراجع تاريخي في نفوذ أيباك… داخل الكونغرس
وتشير الغنوشي إلى أن العامين الأخيرين شهدا مؤشرات لافتة على تراجع سطوة اللوبي المؤيد لإسرائيل أيباك… لدرجة أن رحلاته السنوية لأعضاء الكونغرس باتت “تنهار”.

وفي حين شارك 24 نائبا ديمقراطيا جديدا في رحلاته عام 2023، لم يشارك هذا العام سوى 11 من أصل 33، فيما انسحب سبعة نواب في اللحظات الأخيرة رغم حجز التذاكر مسبقا. وحتى النائب الديمقراطي البارز هكيم جيفريز، المعروف بمشاركاته المتكررة، امتنع عن الذهاب.

وتضيف الغنوشي أن نوابا آخرين بدأوا بإرجاع التبرعات المرتبطة باللوبي، من بينهم عضو الكونغرس عن ولاية ماساتشوستس سيث مولتون، بينما أعلن كل من مورغان ماكغارفي وفاليري فوشي وديبورا روس توقفهم عن قبول أموال من أيباك.

وتنقل عن استطلاعات المعهد العربي الأمريكي أن الناخبين—خصوصا الشباب والديمقراطيين—باتوا يعتبرون دعم اللوبي للمرشحين “عامل خسارة انتخابية”، بعدما كان لعقود طويلة عاملا حاسما في الفوز.

وتذكر أن سياسيين وإعلاميين باتوا يواجهون ممثلي اللوبي مباشرة، ما أفقده "هالة الحصانة" القديمة، مستشهدة بمواقف محرجة واجهها السيناتور كوري بوكر عندما سئل إن كان نتنياهو "مجرم حرب"، إضافة إلى توتر غافين نيوسوم وجوش شابيرو عندما طرحت أمامهم أسئلة عن تأثير اللوبي على السياسة الأمريكية.

وتلفت إلى أن الأمر لم يقتصر على الديمقراطيين، إذ بدأ جمهوريون مثل تاكر كارلسون ومارجوري تايلور غرين وتوماس ماسي يهاجمون اللوبي علنا، في مشهد كان “مستحيلا قبل سنوات قليلة”.

وتنقل الغنوشي عن كاتب يهودي تقدمي قوله: “لم يعودوا يخافون من أيباك… بل يخافون من الارتباط بأيباك.” وترى أن مقطع الفيديو الذي نشره اللوبي مؤخرا، وفيه يصر على أنه “ممول من أمريكيين”، يعكس “حالة ذعر واضحة لا قوة”.

شرعية تتآكل… لكن النفوذ الخارجي ثابت
وتؤكد الغنوشي وجود مفارقة في المشهد الأمريكي: إذ بينما ينهار نفوذ اللوبي داخليا ويتراجع الدعم الشعبي له، يبقى تأثيره على السياسة الخارجية الأمريكية مستقرا وقويا.

وتوضح أن الرأي العام يتغير بسرعة، لكن "المؤسسات لا تتغير بالوتيرة ذاتها"، ولذلك تبقى قرارات واشنطن الخارجية “منحازة بالكامل لمصالح إسرائيل”، رغم تمرد قواعد الحزب الديمقراطي ورفض كثير من نوابه التمويل أو التعاون مع اللوبي.

وتقول إن نتائج هذا النفوذ “كارثية خارجياً”، مشيرة إلى أن سياسات الولايات المتحدة في العراق ولبنان وغزة وإيران جاءت منسجمة مع “الحسابات الاستراتيجية لإسرائيل”، لا مع المصالح الأمريكية، “وبتكلفة باهظة على الولايات المتحدة نفسها”.

وتذهب الغنوشي إلى أن الداخل الأمريكي يعاني تآكلا ديمقراطيا عميقا، حيث تحولت الانتخابات إلى “مزادات علنية”، وأصبح النواب “أصولا سياسية قابلة للاستثمار”، فيما يعاد تشكيل الرأي العام عبر مؤسسات إعلامية “تمولها الجهات نفسها التي تمول الطبقة السياسية”.

وتقول إن الحياة السياسية الأمريكية أصبحت “أداء مسرحيا” تديره نخب “تجعلها حياتها الخاصة رهائن سهلة للتحكم”.

ترامب: النموذج الأكثر وضوحا
وترى الكاتبة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقدم “أوضح مثال على هذا النموذج”، إذ بنى خطابه على شعار “أمريكا أولا”، بينما كانت ارتباطاته—وفق الغنوشي—“مرتبطة بقوة بنفوذ خارجي يقدم إسرائيل على أمريكا”.

وتضيف: “كان شعار أمريكا أولا مجرد مسرح… أما الحقيقة فكانت دائما إسرائيل أولا.”

وتختم الغنوشي بأن الولايات المتحدة باتت أمام سؤال لم يعد ممكنا دفنه أو تجاهله: من يحكم فعليا؟
هل هم الممثلون المنتخبون؟ أم الشبكة التي تمول حملاتهم، وتمتلك أسرارهم، وتستغل نقاط ضعفهم؟

وتسأل: كيف يمكن لدولة أن تدعي السيادة وقادتها “بهذه السهولة يبتزون”؟ وكيف لقوة عظمى أن تقود العالم وهي عاجزة عن إصلاح نفسها؟ وتؤكد أن الولايات المتحدة ستضطر عاجلا أو آجلا للإجابة بالفعل لا بالشعارات، على سؤال جوهري: لمن تنتمي الحكومة الأمريكية؟ للشعب… أم لتل أبيب؟