يؤكد مركز
الحضارة للدراسات الذي احتضن فكرة المنظور الحضاري؛ على أنه "لم
تأتِ فكرة المنظور الحضاري في العلوم الاجتماعية من فراغ، بل سبقتها مقدمات مهمة
تتعلق بالتجديد في نظرية المعرفة وفلسفة العلوم والمنهاجية البحثية العامة. فقد
أدت الأزمة الفكرية التي عصفت بالأمة في القرنين الأخيرين إلى تجدد الوعي بالتصور
الإسلامي للمعرفة والعلم والمنهج، والتراث العلمي والفكري الإسلامي، في مقابل ما
جدَّ على فلسفة العلوم في الغرب من تنظيرات وتطويرات، خاصة في ظل مقولات الوضعية
والمادية والجدلية التاريخية والعلمانية والفصل بين الغيب والشهادة وبين الديني
والدنيوي.
لقد نشأت الأكاديميا العربية والإسلامية الحديثة في كنف حالة استعمارية
واستشراقية، وحالة استيراد واستهلاك مباشر للمنتج الغربي في نظرية المعرفة
والمناهج والمضامين في كافة أفرع العلوم والمعارف الإنسانية والاجتماعية بدعوى
عالمية هذا المنتج. انشغل مفكرو ومثقفو العالم العربي والإسلامي بالصراع مع من
يعادون
التراث ويرمون العقل الإسلامي بكل النقائص ويدعون لتبعية شاملة للغرب؛ كي
تتأخر جهود البناء والإبداع والتجديد في هذا المضمار."
لقد جاءت مقولة ومدرسة "إسلامية المعرفة" التي رعاها المعهد
العالمي للفكر الإسلامي (1983) لتواجه هذه الأزمة الفكرية بطرح يجمع بين
الحُسنيَيْن والواجبَيْن: قراءة الكتاب المسطور (الأصول المرجعية وما ينبثق عنها
من اجتهادات)، وتدبر الكتاب المنظور (الوجود والواقع والمجالات الحياتية). هذا
الجمع بين القراءتين لم يكن بالأمر الهيِّن،
المنظور الحضاري يتأسس على النظرية الإسلامية من الناحية المنهاجية، ويعتمد طريقتها ويعتبر ضوابطها في معالجة الواقع وفقهه أهم عناصره، كمقدمة أساسية لتنزيل الحكم الشرعي بعد استنباطه من النصوص الدالة عليه، بما يحقق التكامل مع المنظور الأصولي القائم على منهاجية الاجتهاد
فالعين الناظرة في الواقع تجد أن
نظارة الغرب بفلسفته ورؤيته للعالم مفروضة عليها بحكم سيادتها على الفكر العالمي،
بينما العين المتطلعة إلى التراث الإسلامي وأصوله تلقى صعوبات جمة في مراحلها
المختلفة.
وتعتبر جهود الأستاذين الكبيرين الراحلين: د. حامد ربيع في الفترة
(1970-1987) ود. منى أبو الفضل في الفترة (1975-2007)، في قسم العلوم السياسية-
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، نقلة كبرى في وضع منهاجية
العلوم السياسية على هذا الطريق: استيعابا، ومراجعة ونقدا، وتواصلا مع الأصول
الإسلامية وتراثها، وفتحا لباب الاجتهاد والتجديد في ذلك.
وفي رحم هذا التجديد الذي قام عليه الأستاذان الرائدان تولدت فكرة المنظور
الحضاري المقارن؛ سواء في تنظيرات د. حامد ربيع لمفهوم السياسة بين الخبرات
الحضارية، أو مراجعاته لتراث السياسة في النماذج الحضارية التاريخية والحديثة، أو
تطويره لنظرية القيم، أو مدخله الرصين إلى التراث السياسي الإسلامي مصدرا لمعرفة
وحركة سياسية معاصرة، أو في تنظيرات منى أبو الفضل للمنظور التكاملي: الحضاري
التنموي، في دراسة النظم السياسية العربية، وتطويرها لمقولة الأنساق المعرفية
المتقابلة بين الشرق والغرب، ومقولة الأمة القطب، أو مساهمتها المهمة عن مصادر
التنظير السياسي الإسلامي: مقومات ومقدمات. وبناء عليه سارت عملية تشييد المنظور الحضاري في أفرع العلوم السياسية وفي
مجالات أخرى.
المنظور الحضاري في فقه الرؤية الإسلامية يعني ضمن
ما يعني ضرورة إعادة النظر في مفهوم الحضارة الذي يعكس الحضور والفاعلية، وفق
معانيها اللغوية، ويعتبر الشروط المعنوية في تحقيق مقتضى الشهادة على الناس، بل هو
يعني جملة أنه لتغيير أوضاعنا الحضارية في ضوء الرؤية الإسلامية لابد أن تكون
مصطلحاتنا الحضارية تعبر تعبيرا دقيقا عن حقائقها وطبيعتها ووحدتها الداخلية
ومنظومتها المتميزة؛ لأن في ذلك وضوح الرؤية واستقامة المنهج، ولأن
التغيير
الحضاري في أي مجتمع إذا قاده التلفيق بين مجموعات اصطلاحية، تنتمي إلى منظومات
(حضارية) مختلفة، فإن ذلك التغيير يفقد التخطيط الموجه ويدخل في إطار الفوضى في
الفكر والممارسة، بما يؤثر في كيان المجتمع كله. وفوضى الاصطلاحات من جهة أخرى
دليل عدم الأصالة، وبرهان عدم وجدان الذات وفقدان للخصوصية الحضارية.
تتمثل اللبنات الأولى للمنظور الحضاري الإسلامي
والمقارن في علوم الاجتماع والإنسان فيما يعرف بالرؤية الكلية. والمقصود بالرؤية
الكلية التصورات الأساسية للباحث عن الظاهرة الكونية والإنسانية والاجتماعية،
وتعريفاتها التي يتبناها للعلاقة بين الكون والحياة، والغيب والشهادة، والطبيعة
وما وراءها، والمادة والمعنى، والمصلحة والقيمة، والعالم والأمم، وموضع الإنسان من
كل ذلك. وينبثق عن هذه التصورات الكلية مكونان مهمان وأساسيان: ما يسمى برؤية
العالم الممتدة من الوجودي وحتى السياسي، وكذلك النسق أو النموذج المعرفي؛ الذي يعني
ما قبل العلم وتعريف الباحث للمعرفة والعلم وغاياتهما ووسائلهما والطرائق المختلفة
لتحصيلهما. والمنظور الحضاري إذ يتعلق
بالاستخلاف والتغيير فإنه يطمح أن يضبط عملية هداية الإنسان، وأن ينظمها منهجا
واتجاها وغاية، وأن يحافظ بذلك على تفرده في الجماعة المهتدية، وبالتالي فهو يطمح
أن يجعل أسس تربية الإنسان وأهدافها متفقة مع تكريمه واستخلافه في الأرض.
والمنظور الحضاري يتأسس على النظرية الإسلامية من
الناحية المنهاجية، ويعتمد طريقتها ويعتبر ضوابطها في معالجة الواقع وفقهه أهم
عناصره، كمقدمة أساسية لتنزيل الحكم الشرعي بعد استنباطه من النصوص الدالة عليه،
بما يحقق التكامل مع المنظور الأصولي القائم على منهاجية الاجتهاد، وما يرتبط بذلك
من تنزيل الأحكام على الوقائع تنزيلا إسلاميا متكاملا يكون مطابقا لمفهوم الهداية؛
حيث ينبغي أن يؤدي إلى مستوى الإحسان في الأداء، ذلك المستوى الذي تبلغ به الشخصية
الإنسانية مرضاة الله.
إلا أن منهاجية الاجتهاد لا تهمل أن الفرد والجماعة
عرضة للانحراف في حاجة دائمة لبذل الجهد الواعي للمحافظة على الاتجاه الصحيح
والعودة إليه لدى أي انحراف، وإذا بلغ الانحراف مداه فإن انهيارا شاملا سيتهدد
الجماعة في كيانها الفكري والسياسي، ثم في وجودها وكيانها الاجتماعي الحضاري وفي
مشاعرها وشعائرها، وليس لأية جماعة تزيد عن كونها جماعة إنسانية مسئولة ومستخلفة،
فإذا التزمت بالهدى التزاما واعيا شاملا فإنها ستواجه متطلبات المسؤولية وتتقدم في
معارج الهدى لا معارج التقدم التكنولوجي، أو المعرفي والاقتصادي فحسب، وأي تراجع
عن هذا الالتزام يهدد بإزالتها مهما كان مستوى تقدمها المادي الشكلي.
بل إن هذا المنظور يجعل أمر تجسيد الأفكار
والمفاهيم الإسلامية تجسيدا نقيّا مستمرا متحركا في الاتجاه العالمي، مرتبطا
بمرضاة الله وتحقيق خيرية الأمة والاضطلاع بوظيفة الشهادة على العالمين.
الساحة الحضارية تشكل في ذاتها مجال التغيير، وهي
إذ تفرض اعتبارها في عملية التغيير فإنها في ذات الوقت موضوع التغيير والتقويم،
والساحة التاريخية والفعل التاريخي في إطارهما إنما يتضمنان عناصر ثلاثة ذات أهمية
قصوى، تشكل في ذات الوقت عناصر عملية التغيير، وذلك يتأسس على معادلة مالك بن نبي
من أن الحضارة = إنسان+ تراب+ وقت. فمشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية:
مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت، ولكي نقيم حضارة لا يكون ذلك بأن
تكدس المنتجات وإنما بأن تحل هذه المشكلات الثلاثة من أساسها.
وإذا كان الإنسان في حكم تعاليم الإسلام مخلوق
مكرّم بالعقل والبيان والإرادة، وكانت الدنيا هي الإطار المكاني لنشاط الإنسان على
اختلاف مجالاته ولعبادة ربه في كل حالاته، فإن الوعي بالإطار الزماني لنشاط
الإنسان له قيمته الحضارية الكبرى، إلى جانب قيمتي الإنسان والمكان. ووفق الرؤية
الإسلامية في أصالتها لا يمكن أن تؤدي عناصر الفعل الحضاري (الزمان- المكان-
الإنسان) فعاليتها في عملية التغيير إلا برابط بينها جميعا، يشكل مقوما أساسيا
للعلاقة الاجتماعية، ألا وهو الاستخلاف.
المنظور الحضاري ينطلق من فكر متجذر في إطار مرجعي
معياري، ومنضبط بمنهج موضوعي متناسق، وهو خطاب واقعي عملي يواجه مشكلات الإنسان
والحضارة، كما أنه فكر يمتد شمولا باتجاه استيعاب الآخرين عالميّا وإنسانيّا.
وبعبارة أخرى، لكي تؤدي الأمة دورها الحضاري العالمي حاملة لأمانة الإظهار العالمي
للدين، ينبغي أن يرتفع وعيها للعلم والفكر والإنسان والحضارة إلى مستوى عصر
"العالمية" و"الحضارة الشمولية" بأدواتها المنهجية والمعرفية
والثقافية والتكنولوجيا الرقمية. إن هذا الارتفاع يعني التحول الكبير في الرؤية
والمنهج والمشروع الحضاري. إن نوعية المشكلة الراهنة تستدعي وجود رؤية ومنهج نوعيّ
لإدراك طبيعة ووظيفة العلم والفكر والإنسان والحضارة في عصر "العالمية".
إنها المواقف الحضارية حينما تتسم بالشمول، وتتحلَّى بكل فاعلياتها، وفي مقامها
تأخذ المقاومة مكانها ومكانتها.
إن الأمة الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية
النهضوية الحضارية، ولهذا، فمن الطبيعي أن تعيش لحظة الانتكاسة والضعف والقهر، وأن
تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها ولحظة الإرهاص النهضوي،
ولحظة ما بعد النهضة والتحول الحضاري الكبير باتجاه التحضر والاندماج من جديد في
نسق الحركة الحضارية العالمية الحديثة. إن معظم المشاكل التي تواجهها النهضة اليوم
هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة
والأفكار، وهي استجابة تدل على معاني النهضة والنهوض والمدافعة والممانعة
والمقاومة، واستصحابا لتعزيز عملية الانتقال الحضاري، يجب تفعيل مجموعة من المُمَكِّنَات:
تنشط عمليات الانتقال الحضاري وتستنفر روادها من خلال "مُحفِّزَات" تعمل بمثابة أحداث استثنائية أو جِسام. هذه الأحداث قد تكون مفاجئة أو تراكمية، وتكشف بشكل مكثف عن أوضاع بنيوية عميقة الجذور كانت غائبة عن وعي عامة الناس
1. تماسك حواضن تمكن من الاستفادة من تنوع الأماكن وعطاءاتها ومعطياتها (سواء
كانت مناطق ذات جذور تاريخية عميقة، أو مناطق تجمعات مهاجرة، أو مواضع ثروات خاصة،
أو ميادين جهادية فريدة) عبر قراءة واعية لمحددات تلك الأماكن، وخصائصها التاريخية،
والجغرافية، والاجتماعية.
2. وإبداع أدائيات وابتكار وتصميم وتشغيل أنظمة وهيكليات وآليات جديدة ومفيدة
في مجالات حيوية متنوعة، تشمل التواصل الكثيف والمركز أو الواسع، وتنظيم المجموعات،
وتجميع المعلومات، والبناء، والتدافع.
3. إتاحة موارد لتوفير الموارد البشرية والمادية اللازمة للقيام بالمهام التأسيسية
المتعلقة ببلورة وتنزيل التعريف الجديد للمهمة الدينية للأمة.
ومن هنا علينا أن نفرد بابا يتعلق بالفقه العميق للسياقات الواقعية والديناميات
المحفزة؛ إذ يتم تتبع مدى تهيئة سياقات الحياة الإنسانية للانتقال الحضاري من منظورين
متكاملين ومتداخلين. هذه السياقات تنقسم إلى ثلاثة نطاقات:
1. سياق الغرب (الآخر)؛ الذي يكرس أوضاع هيمنة حضارية لم يسبق لها مثيل.
2. سياق الأمة؛ الذي يتميز بأوضاع حرجة، مثل تفكك الروابط الإنسانية، وفرض تعريفات
مشوهة للدين، وتصاعد العدوان على فلسطين، وقمع طموحات الشعوب نحو الحرية والكرامة،
وتفاقم دوامات الفشل الدولتي والاجتماعي.
3. سياق الإنسانية كلها التي تشكل النطاق الأوسع.
وكذلك تنشط عمليات الانتقال الحضاري وتستنفر روادها من خلال "مُحفِّزَات"
تعمل بمثابة أحداث استثنائية أو جِسام. هذه الأحداث قد تكون مفاجئة أو تراكمية، وتكشف
بشكل مكثف عن أوضاع بنيوية عميقة الجذور كانت غائبة عن وعي عامة الناس. تستنفر هذه
الأحداث القوى الفاعلة، خاصة في المراحل الأولى للانتقال. من أمثلة هذه المحفزات، المواقف
الاستعمارية الواضحة والصلبة، أو تكتل الكتلة الحضارية الغربية، التي تكشف عن الصدام
الوجودي والحضاري مع الأمة، وتفضح القيم الحقيقية الكامنة في الحضارة السائدة وعمق
عدائها لمقدسات الأمة وإنسانية الإنسان.
المنظور الحضاري مظلة جامعة وحركة معرفية ناظمة؛ تراكمت فيه الجهود لتشكل في
ذاتها أهم المشاتل المعرفية لمشروع
النهوض الدافع للأمة، والتغيير المستقبلي
القادم. والله تعالى أعلى وأعلم.
x.com/Saif_abdelfatah