يتشكل
مشروع الانبعاث الحضاري بأسئلته الأساسية وأطره الحضارية ومقولاته التأسيسية
ومعاييره البنائية ليؤصل
ويؤسس لعلاقات ووشائج عظمى ترتبط بنسق حضاري واحد ومتفاعل؛ تشمل كليات الدين
الكبرى (القيم/
السنن/
المقاصد/ الأحكام)، ومستويات التحليل ومقتضيات النظر
المتداخل وهي تعنى أيضا باستحضار الجذور الفلسفية (العقائد والنماذج)؛ والبنى
(الهيكليات والأنظمة)؛ والتجليات (الممارسات وأنماط الحياة)؛ بمعلومية السياقات
الأهم خاصة في سياقها المعرفي (المعرفة المصدر والمنطلق)؛ وما تحمله من مقتضيات
معرفية وسياقات واقعية.
تنتظم في ذلك من خلال المعيار الذي
يمثل "اتحاد جوانب المعرفة كلها في انطلاقها من مشكاة التوحيد"؛ والواقع
الذي يشكل "منارة المعرفة الأكثر تأثيرا على حياة الناس، منطلقة من مشكاة نموذج
حضاري آخر. وحقيقة الإشكال الحضاري أن جسم وجسر المعرفة الشرعية معزول عن المعارف
الطبيعية والاجتماعية). وكذا المعرفة في السياق والتطوير؛ فإنها لا يمكنها
الانفصال والانفصام النكد بين المعيار، والواقع وتتفاعل مع مقتضيات معيارية
وسياقات واقعية تمثل إرهاصات الاستجابة الإيجابية الواعدة على مستوى المعيار (على
يد علماء متفاعلين مع واقعهم، رواد لسعيهم الحضاري، مستوفين شروطا فردية ومؤسسية صارمة
من الاستقلال والرفعة الخلقية والمهنية)؛ أما على مستوى الواقع (إشكالات في أوضاع
العلماء سواء من حيث استيفاء شروط الاستقلال وما يتعلق بها، أو من حيث البنية المؤسسية)؛
فالأمر هنا لا ينفصم وما ينبغي له ذلك عن مكانة المعرفة معياريا بارتفاع مكانة
المعرفة وأهلها في أمة حفظ الله لها ذكرها في كتاب لا تنقضي أسراره في عطائه
الفياض المتجدد..
يتأكد لنا أن أمة الإعمار والشهود لا تستغني عن حياة عقلية غنية بالتفكر والتدبر. تكون فيها تنمية المعرفة ونشرها وترقية أوضاع العلماء أولويات مجتمعية كبرى
ومن
هنا يتأكد لنا أن أمة الإعمار والشهود لا تستغني عن حياة عقلية غنية بالتفكر والتدبر.
تكون فيها تنمية المعرفة ونشرها وترقية أوضاع العلماء أولويات مجتمعية كبرى.
والواقع في هذا المقام حالة مركبة؛ من مكانة الدين السامقة وعلمائه في ضمير الأمة،
وانعكاس أوضاع التراجع الحضاري والتبعية التي تعيشها الأمة على الفكر والخطاب الديني
السائد في مساحات غير قليلة. هكذا تبدي هشاشة فكرية لا تتمايز كثيرا عما هو سائد
في الحياة الفكرية العامة، ومن ثم فإن واجب الوقت إنما يتمثل في مؤسسات علماء
بشروط جديدة؛ وخرائط معرفية متجددة.
وإذا
أردنا أن نربط مشروع الانبعاث الحضاري بمشاتل
التغيير وأصول المرجعية والتأسيس
فإنها تتمثل في مربع مهم:
المشتل
العقدي:
العقيدة وفق هذا التصور تعتبر في أهم جانب منها رؤية للعالم، رؤية لعناصر مفهوم
العمران والحضارة، رؤية تتصل بشبكة علاقات بين المفاهيم الحضارية الكبرى. العقيدة
هي التي توثق وتؤصل وتؤسس مناهج الرؤى والنظر، وهي بهذا الاعتبار تشكل تصورات كلية
متراحمة من خلال عقيدة توحيدية في تأسيس نظريات للوجود وللمعرفة والقيم جميعا.
مفهوم العقيدة الدافعة هو المركز الناظم والإيمان الدافع والدافق في حركة الحياة؛
إذ تعتبر العقيدة أهم عناصر التأسيس ضمن هذا المدخل القيمي السباعي، والعقيدة هنا
تشير إلى الرؤية التأسيسية للتوحيد والإنسان والكون والحياة.
وكذلك
توسيع دائرة الفكر العقدي وموضوعه بما يغطي الحاجة الأيديولوجية لعالم المسلمين
اليوم، فيصبح من مهامه الاستدلال على قضايا تشريعية عملية، وبما تشكله العقيدة من
تكوين قاعدة تأسيس أشبه ما تكون بفلسفة تشريعية تؤصل عناصر بنية الشريعة في
استنادها العقدي. وكذلك من الضروري توسيع دائرة الفكر العقدي وموضوعه بما يغطي
الحاجة الأيديولوجية لعالم المسلمين اليوم، فيصبح من مهامه الاستدلال على قضايا
تشريعية عملية، وبما تشكله العقيدة من تكوين قاعدة تأسيس أشبه ما تكون بفلسفة
تشريعية تؤصل عناصر بنية الشريعة في استنادها العقدي. وكذلك من الضروري الجمع بين
الأصول العقدية الإسلامية وبين الحلول التشريعية الاجتهادية المتعلقة بالحياة
العلمية.
ومن
أهم الموضوعات التي يجب أن تدرج في نطاق الفكر العقدي الحديث موضوع الإنسان من
منظور كلي عام، وهو الموضوع الذي يتناول بالبحث مبدأ الإنسان وقيمته الذاتية،
ومنزلته في الكون وغاية وجوده، ومصيره، فهذه المسائل لم تنل الاهتمام في الفكر
الكلامي الموروث إلا أن تكون جزئيات متفرقة ربما في ثنايا موضوعات أخرى. وهي اليوم
تمثل مطلبا أساسيا في التأصيل العقدي، وذلك بالنظر إلى ما يشكوه العالم الإسلامي
من مظاهر عديدة لامتهان الإنسان وإهانة لكرامته وإهدار لقيمته وفاعلياته، وبالنظر
إلى ما تنقلب فيه حياة المسلمين، على غير وعي بالمهمة التي خُلق من أجلها الإنسان
وعليه أن يسعى في تحقيقها، وذلك إما غفلة عن التعاليم الإسلامية، أو انسياقا بفعل
التأثير الفلسفي الغربي في هذا الخصوص.
المشتل
القيمي:
ذلك أن معظم ما يحرك النظر للقيم وأدوارها وإمكانات توظيفها إنما يُرد إلى سببين
مهمين، قد يفعل أحدهما وقد يتفاعلان. يقع في مقدمتهما سبب يتعلق بواقع القيمة الذي
يسير نحو التهميش لعناصر التأثير القيمي في حركة الحياة تدبيرا وتأثيرا وتغييرا
وتقويما. أما السبب الثاني فيتعلق بأخطاء التنظير التي تكمن في تصورات كلية من
الواجب إعادة النظر في مكوناتها وعناصرها ومتعلقاتها، وما يترتب عليها من إلزامات،
واعتبار مدخل القيم إطارا مرجعيا بما يوضح المفاصل الكامنة خلف تهميش قضية القيم
في البحث والدراسة، سواء على مستوى الدراسات العربية أو الإسلامية من ناحية أو
الدراسات الغربية وتصوراتها ومتعلقاتها من ناحية أخرى.
إن
هذه المعاني تجعل كثير من عناصر المنظومة المفاهيمية للقيم الإسلامية حينما ترتبط
بالمجال السياسي-الأمة- العالم، مهمشة غير مجسدة على أرض الواقع، ذلك أن الواقع
يسهم بقدر أو بآخر في إضفاء حجة وحجية للقيمة، فبدت معادلة الحق-القوة، تنقلب وفق
علاقات شائهة إلى معادلة القوة-الحق، والتي ولدت زراري من الوهن باسم معادلات
جديدة حول الواقعية وحول فن الممكن، دون معالجة فن الإمكان والتمكين، وبدا الأمر
يتحرك ضمن علاقات جبرية ذات خطوط حتمية تفرز أنماطا من سلوك الجبرية الدولية إن صح
هذا التعبير، وبدت ردود الفعل كلها أو معظمها تتحرك صوب "الإذعان" أو
الموافقة أو الانصياع.
معادلة
الحق القوة تعني في جوهرها أن القوة تابعة للحق تتأكد به وتحميه وليس معنى القوة
مهملة فيه، ولكن القوة ضمن هذه المعادلة تسبق الحق كأحد أهم عناصر حمايته والذود
عنه؛ أسبقية زمن، وأسبقية مقدمات، ومقدمات الواجب واجبة تستمد كيان حجيتها منه ومن
القدرة على بلوغه والقيام عليه وحمايته. ومن هذا الاعتبار يمكننا أن نرى محفزات
الأمة في طوفان الأقصى؛ وميزان الحق والقوة والقيمة والمصلحة. إن اجتهاد الفاعل
الحضاري الإسلامي يتمثل أول ما يتمثل في كيف تكون مصالحه ومبادئه وقيمه، وكيف تكون
قيمه هي مصالحه المعتبرة لا المتوهمة وفقا لأصول المرجعية التأسيسية التي تشكل
ميزان الفعل والفاعل الحضاري على حد سواء.
المشتل
المقاصدي:
والمقاصد من القواطع في الدين، ذلك أنها تشير إلى الكليات الضرورية من حفظ الدين
والنفس والعقل والنسل والمال، وهذه المقاصد استقرئت حصرا من نصوص الشريعة وفق
ترتيب معين. وقد أشار الشاطبي إلى قسمتها ما بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، ولا
يغيب عن البال أن هذه الأمور الخمسة إنما تتغيا في جملتها تحقيق مقصد نهائي واحد،
هو التوحيد ومقتضاه في العبودية لله تعالى.
إن
معرفة مقاصد الشريعة وتحريها مقدمة لازمة لعملية الاجتهاد، ولا يصح لمجتهد أن يقوم
بها دون ذلك، لأنها تعينه على تمام فقه الحكم والواقعة والتنزيل جميعا، كما أنها
تحقق المقصود الكلي في ربط حركة الاجتهاد بالمقصود الأساسي وهو التوحيد وتحقيق
مطلق العبودية لله، وبالجملة تحقيق ما يمكن أن نسميه "حفظ الأمة"
وكيانها وهويتها من خلال حفظ الكليات الخمس (دين ونفس ونسل وعقل ومال)، التي تشكل
أعمدة الأمة ومجالات حركاتها، وذلك بفهم الرتب، والتدرج فيما بينها من ضروريات
وحاجيات وتحسينيات، وفي إطار ربط ذلك بمجموعة من القيم الإسلامية الأساسية، وهو ما
يحقق الربط بين هذه العناصر جميعا لتحقيق مقتضى الأمانة للإنسان واستخلافه بحراسة
الدين وسياسة الدنيا به، وهو أمر يضفي على عملية الاجتهاد أهمية فوق أهميتها،
ودوره ووظيفته في حفظ الأمة بلوغا لمرضاة الله بالتزام شرعته ونهجه وإقامة دينه.
اجتهدنا
بتوفيق من الله في تأسيس وتعيين قواعد العشرية المقاصدية كمدخل للتفعيل والتشغيل؛
الأولى منها لكل أمر عناصر ومكونات، ومقدمات ومستلزمات، وقواعد وأصول ومقومات.
والثانية؛ إذا تعددت المجالات، وتنوعت معايير التصنيفات، فربط هذه التنوعات أولى
بكليات الضرورات. والثالثة؛ إذا كثرت الواجبات وتزاحمت القضايا وجب التفكير في
الأولويات. والرابعة؛ نظرية الحفظ في ستة عناصر أساسية: حفظ ابتداء، وحفظ بقاء،
وحفظ بناء، وحفظ أداء، وحفظ نماء وارتقاء، وحفظ انتهاء؛ وهو سلبي بدفع المضرة
والمفسدة، وإيجابي بجلب المنفعة والمصلحة، وهو حفظ في الوعي والسعي: حفظ ببذل
عناية، وحفظ بتفقد ورعاية، وحفظ ببلوغ غاية. والخامسة؛ الموازين أربعة: ميزان
الأضرار والمصالح، والضرورات والحاجات. والسادسة؛ الوعي بالواقع بوقائعه وأحداثه
وحادثاته ونوازله، وبنوعيته أصل ومكمل، وبإنسانه كلي وجزئي، وبمكانه عام شامل وخاص،
وبزمانه حال ومؤجل وبإمكان التدارك وعدم إمكانه إنسانا ومكانا وزمانا. والسابعة؛
تحرير وتحقيق وتحريك المناطات، هي فن إدراج الجزئيات في الكليات. والثامنة؛
التفكير بالمآلات نواتج ومترتبات، وآثارا وتأثيرات؛ وتدبيرا وتخطيطات واستشراف
مستقبليات، وأهم دواعي بناء الاستراتيجيات وصياغة السياسات، والارتباط بين
المدخلات والمخرجات، وتأسيس الأبنية والمؤسسات، واستثمار الإمكانات والقدرات؛ من
فن الممكن إلى فن المكانة والتمكين، وأصول التعامل بالسنن وعيا وسعيا. والتاسعة؛
ارتباط الوسائل بالمقاصد من أوجب الواجبات، ومقدمات الواجب (في التفكير والتدبير
والتسيير والتغيير والتأثير) من القيام بالواجب (من وسائل وآليات من أساليب
وأدوات، من أبنية ومؤسسات، من قواعد وإجراءات). والعاشرة؛ النموذج المقاصدي لا
يعمل في فراغ، فلا بد له من وسط حاضن وسياق محيط، ولا يبلغ فاعلية إلا بالقيم
السارية والأخلاق العاملة الفاعلة.
جملة
من القواعد تجعل التفكير والتدبير ومشاتل الحركة والتغيير أمرا ممنهجا في التفعيل
والتشغيل.
فالمقاصد
دوافع وروافع وجوامع ومنافع وتدافع، والشريعة ومقاصدها حكمة في معرفتها ووعيها
ومغزاها؛ رحمة في سلوكها ومعناها؛ عدل في قيمها ومنظوماتها ومبناها، وهي مصلحة في
مقصدها ومبتغاها. وهي مبتدأ المرجعية، وأصول الشرعية، وسنن التدافع والدافعية،
وحركة الجامعية، ومناط الاجتهاد والتجديد والفاعلية، وهي وحي ووعي وسعي؛ نظريا
وتطبيقا، منظومية، ومنهجية، وشبكية، وعملياتية، وحركية ديناميكية، وسياسات وخططا
استراتيجية.. المقاصد مسكونة بالسنن، والسنن مسكونة بالمقاصد.
جوهر الفعل الحضاري محكوم بالقانون السنني العام الذي لا يتبدل ولا يتحول، بينما تجليات الفعل الحضاري وأشكاله شديدة التنوع، قابليتها للتحول والتبدل، والتغير والتغيير كبيرة ومتسعة
المشتل
السنني: تسلمنا منظومة المقاصد للمدخل السنني، لقد حمل القرآن في آياته وكشف ودلّ على كثير
من سنن التحضر وقوانين حركة التاريخ والاجتماع. ولعل قضية السنن هي واحدة من
الحقائق المبثوثة في الأصول، والتي لم تلق -على أهميتها الكبيرة- اهتماما في
الدراسة والجمع والتأليف إلا فيما ندر، ثم اتضح لبعض أولي العزم ممن يهتمون
بالمنظور الحضاري؛ ضرورة أن يولى لموضوع السنن اهتمام أكبر، فأفرد له البعض
مؤلفات، إن لم تكتمل في عناصرها، إلا أنها أسهمت في تأصيل مناطق لا بأس بها في هذا
الباب، وقد أسهموا بهذا الجهد التأصيلي في تأسيس لبِنات ضمن الرؤية السننية التي
تشكل جزءا لا يتجزأ من عناصر تأصيل منظور حضاري.
إن
تأسيس علم للسنن أصبح من الضرورات التي تحقق عناصر التوازن في فهم الواقع بكل
تطوراته وامتداداته. السنن وفق هذه الرؤية قانون الله العادل في الخلق، المؤثر في
حياة الناس، لا يحابي أحدا، فالأمم تدور مع فعلها الحضاري إن سلبا وإن إيجابا، إن
قوة وتمكينا، وإن وهْنا وهوانا. فبمقدار فعلها ووعيها وتفاعلها وتفعيلها للسنن؛
بمقدار ما تعطيها السنن من نتائج تتناسب والفعل الحضاري، "وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ"؛ إن في الآخرة وفي سابقتها في الدنيا.
فكل
المجالات الحضارية وحركات الفعل الحضاري خاضعة لحقائق السنن وفعلها. وللسنن جملة
من الأهداف، أهمها الهدف التربوي والتعليمي. الفعل الحضاري إشارة إلى عناصر
التغير، والسنن إشارة إلى عناصر الثبات. جوهر الفعل الحضاري محكوم بالقانون السنني
العام الذي لا يتبدل ولا يتحول، بينما تجليات الفعل الحضاري وأشكاله شديدة التنوع،
قابليتها للتحول والتبدل، والتغير والتغيير كبيرة ومتسعة.
مشاتل
التغيير في أفق الإدراكات والتصورات من ناحية، والممارسات والتصرفات من ناحية
ثانية، والوسائل والأبنية والآليات على قاعدة من الأصول ومرجعية التأسيس، مسألة
مهمة، وتفعيلات وتشغيلات متمة، إنها في المبتدأ والمنتهى معامل التغيير الراشد
والفاعل، والتجديد المتكامل، وبيان المسار المستقيم والعادل.
x.com/Saif_abdelfatah