هذه رؤية تستلهم رمزية ست قطرات مختلفات، كعناصر أساسية وشروط حيوية للنهوض
الإسلامي الحضاري. وهي مُصاغة بطريقة مكثفة مختصرة مراعاة للمساحة التي يسمح بها
هذا المقال. وبالطبع، فإن سؤال النهضة واستعادة الأمة الإسلامية مكانتها وريادتها
الإنسانية وشهودها الحضاري قد شغل المفكرين والمخلصين، على مدى الـ150 سنة
الماضية. وتحاول السطور التالية تقديم رؤية مبسطة وسهلة التناول للعناصر الأساسية
لمشروع
النهوض.
أولا: قطرة الماء:
نقطة البداية، وأصل خلق الإنسان، وسر الحياة؛ قال تعالى: "وجعلنا من
الماء كل شيء حي" (الأنبياء: 30)، وقال تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء" (النور: 45)، وقال:
"وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا" (الفرقان: 54).
هي نقطة البداية التي تحسم الجدل مع النظريات المادية، وتثبت القواعد
والمنطلقات الأساسية لوجود الإنسان، وتُعرِّفه بمكانه ومكانته ومهمته. من هذه الرمزية
ننطلق لنشهد أن لهذا الإنسان وهذا الكون خالقا، ولنوحده بألوهيته وربوبيته
وبأسمائه وصفاته، ولنعلم أننا خُلقنا من "ماء مهين" فلا نتكبر ولا
نتجبر، ولنعطي للعقل مكانته، ولا نحمله فوق طاقته. ونؤمن أن الله سبحانه خلق
الإنسان وكرَّمه، وسخّر له الكون، واستخلفه في الأرض وكلفه بتحقيق العبودية لله؛
قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون" (الذاريات: 56)، وأن عليه
أن يُحقق غاية وجوده عبودية واستخلافا ونهوضا حضاريا، وقياما بالشهادة على الناس
بالوسائل المشروعة، في رحلة الحياة إلى الدار الآخرة.
إنه الانسجام الكامل بين الإنسان وخالقه والكون من حوله، فلا اضطراب ولا
تعارض ولا تشتت ولا تخبط، ولا اصطدام مع سُنن الله في الكون.
هذه الرمزية هي الإعلان الأول والأساس للحرية التي يبحث عنها الإنسان طوال
تاريخه. فمنذ أعلن أن لا إله إلا الله، تحرر من عبودية العباد والأوثان والهوى
والمال والسلطان؛ وحاز "التكريم" الذي يستحقه.
ثانيا: الدمعة:
الدمعة رمز حسن العلاقة بالله سبحانه، ورمز أعمال القلوب، رمز الإخلاص
والصدق والتقوى والخوف من الله والتوكل عليه. رمزية رأيناها في أولئك الذين
"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" (المائدة: 83)، وفي تلك
العين التي لا تمسها النار؛ "عين بكت من خشية الله" كما في الحديث
الصحيح، وفي أولئك الذين هم "من خشية ربهم مشفقون" (المؤمنون: 57)، ورمزية
أولئك الذين استجابوا لنداء ربهم؛ "اتقوا الله حق تقاته" (آل عمران: 102)، وأمره؛
"وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (البقرة: 197).
والحضارة الإسلامية تتميز بأن لها جناحين متكاملين متوازيين: روحي ومادي؛
ورمزية الدمعة هنا تستجيب لحاجات الإنسان الروحية.
في هذه الرمزية، يشعر المسلم باستعلاء الإيمان، فلا يخاف على رزقه ولا على
حياته، ولا يخشى في الله لومة لائم، وينصر الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
ويرفض الظلم والفساد ويواجه الطواغيت. وبهذا التكوين ينتج إنسانٌ سويٌ حرٌّ عزيزٌ،
وتتوفر قاعدة مجتمعية قوية للصعود الحضاري.
وهي "دمعة صدقٍ" تبعث في صاحبها الاطمئنان حين يوقن أن "من
يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" (الطلاق: 2)، وأن
"من يتق الله يجعل له من أمره يسرا" (الطلاق: 4)، وأنه من
يتق الله يجعل له فُرقانا، وأن من يتق الله يجعل له نورا، وأن من يتق الله يُعلِّمه
الله.
هو يعلم أن حسن علاقته بالله سبب أساس في نهوضه الحضاري وعمرانه للأرض؛
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" (الأعراف: 96)، وأن معصية
الله تمحق البركة وتجلب غضب الله وعقوبته؛ "ظهر الفساد في البر والبحر بما
كسبت أيدي الناس" (الروم: 41)، "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" (طه: 124)، وأن
العودة إلى الله شرط أساس في تغيير الحال إلى أحسن حال؛ "إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11).
ثالثا: قطرة الحبر:
إنها رمز العلم، رمز "أمة اقرأ"، رمزٌ لإطلاق العقل وقدراته.
إنها الرمزية التي تحسم جدل العلاقة بين العلم والإيمان في انسجام وتفاعل مثالي لا
يوجد إلا في الإسلام وحضارته. هذا الدين العظيم الذي شجع على طلب العلم واستخدام
العقل والتفكر في عشرات الآيات القرآنية؛ ورفع مكانة العالم؛ "قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: 9)،
"إنما يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر: 28).
وما أجمل حديثه صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على
أدناكم. إن الله عز وجل وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جُحرها، وحتى
الحوت، ليُصلّون على معلم الناس الخير" (حديث صحيح رواه الترمذي والطبراني).
والعلم المطلوب هو العلم النافع مع البعد عن الجدل؛ وهو علم تتفاعل فيه
علوم الشريعة مع الواقع، وتنتج فقها وحلولا لقضايا الحياة ومستجداتها.
ولذلك، فبينما عانت أوروبا في نهضتها الحديثة من سطوة الكنيسة، وتعارض
الاكتشافات العلمية مع قرارات الكنيسة ومعتقداتها، وأنتجت أزمات كبرى انتهت بسيادة
العلمانية وعزل الكنيسة؛ فإن الإسلام قدَّم منذ اللحظة الأولى معادلة مثالية رعى
فيها العلم والعلماء فأنتج
حضارة إسلامية راقية سادت العالم لقرون.
غير أن ابتعاد المسلمين عن دينهم، وجمودهم الفقهي واستغراقهم في التقليد،
كلّفهم الكثير، فتراجعت إبداعاتهم واختراعاتهم، وتجاوزهم الأوروبيون، الذين
استخدموا تقدمهم العلمي في استجماع عناصر القوَّة والنهوض والسيطرة والاستعمار،
ليجد المسلمون أنفسهم في ذيل القائمة في عصرنا هذا.
إن هذه "القطرة" هي دعوة لاستعادة زمام المبادرة، إذ لا مجال
لتحقيق "الشهود الحضاري" دون تحقيق التقدم والريادة الإنسانية.
رابعا: قطرة العَرق:
قطرة العَرق رمز العمل. وثمة انسجام قوي وتكامل في الرؤية الإسلامية بين
العبادة والعلم والعمل، إذ إن العلم يقتضي العمل، والعمل في الإسلام عبادة ما دامت
النية في سبيل الله. والشعار "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون" (التوبة: 105)، وقوله تعالى "هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في
مناكبها وكلوا من رزقه" (الملك: 15).
وهو انسجام جادٌّ يجعله شرطا لتحصيل الثقة والمصداقية؛ "يا أيها الذين
آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" (الصف: 2)،
"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" (البقرة: 44).
وهي رمزية ترفع قدر العمل ومكانته، قال عليه السلام: "ما أكل أحد
طعاما قطُّ، خيرا من أن يأكل من عمل يده" (رواه البخاري).
والعمل وكسب الرزق أيا كانت طبيعته لا عيب فيه ما دام شريفا حلالا،
"ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم" (رواه البخاري). وقال عبد الله بن
عباس رضي الله عنه: "آدم كان حرّاثا، ونوح كان نجارا، وإدريس كان خياطا،
وإبراهيم ولوط كانا يعملان في الزراعة، وصالح تاجرا، وداود حدادا". ورعى محمد
صلى الله عليه وسلم الغنم وكان تاجرا. وهذه رسالة احترام وتقدير للطبقة العاملة
ودورها الإنتاجي ودورها في الفعل الحضاري، وهي رمزية تدعو لإتقان العمل؛ "إن
الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" (رواه الطبراني وصححه الألباني)؛
وتمتدح القوي الأمين: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص: 26).
وهي "قطرةٌ" تشير إلى رفض الكسل والاتكالية والتسول للمقتدرين،
فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، و"اليد العليا خير من اليد السفلى" (حديث
متفق عليه)، و"لَأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيكف الله
بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" (رواه البخاري).
وهي "قطرة" تأمر بالتفاعل الإيجابي مع الحياة حتى آخر لحظة؛
"إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها" (حديث صحيح).
وهي قطرة تُنبئك أن "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس" (رواه
الطبراني وحسنه الألباني)، و"أن الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في
سبيل الله" (رواه البخاري)، وأن السير في حوائج الناس خير من اعتكاف شهر في
المسجد النبوي، كما في حديث الطبراني الذي صححه الألباني.
وبالتالي، فهي "قطرة" تُعلِي قيمة العمل، وتفتح فرص الإبداع
الفردي والجماعي وتشجع الإنتاج، وتتجاوز "صراع الطبقات" إلى تكامل
الطبقات وتكافلها، وتبني المجتمع على الحب لا على الحقد، وتكرّم العامل وتعطي
"الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وترفض استغلاله؛ وتمنع الاحتكار والكسب
الحرام والربا. إنه النموذج الإسلامي للعمل والإبداع، فإذا كانت الرأسمالية تركز
على فكرة "الحق" الفردي والاشتراكية والشيوعية تركزان على فكرة
"العدل" الجماعي والمجتمعي، فإن الإسلام يجمع بانسجام وتوازن معادلة
الحق والعدل في منظومة واحدة متكاملة.
خامسا: قطرة العطر:
إنها رمز التقدم الإنساني، وريادة العالم، وتحقيق الشهود الحضاري؛ رمز
الجمال والإبداع عندما يتفاعل المسلم بالشكل الصحيح مع حركة الحياة.
إنها تلك الراحة النفسية العميقة، والشعور بالرضا والطمأنينة، والسعادة
الداخلية، التي "تَعبق" بالتوازن والانسجام والتكامل بين المتطلبات
الروحية والمادية. إنها الترديد الحضاري لقوله صلى الله عليه وسلم "إن الله
جميل يحب الجمال" (رواه مسلم).
وهي التي تجدها في اهتمام الإسلام والحضارة الإسلامية بالنظافة؛ وبجماليات
العلاقات الاجتماعية والتواصل الاجتماعي، وبحسن الخلق، واختيار أطيب الكلام وحفظ
اللسان، وإفشاء السلام، والبشاشة والابتسام عند اللقاء، والحياء والعفاف، ورعاية
الفقراء والأيتام والمساكين والعجزة والكبار، والاستيصاء بالنساء خيرا. وهي التي
تجدها في الزكاة وأنظمة الوقف والتكافل الاجتماعي التي حفل بها التاريخ الإسلامي.
وبالتأكيد لم يكن المجتمع الإسلامي مثاليا، ولكنه حقق في حضارته الكثير من
هذه المعاني، وقدَّم أفضل "العطور" والنتائج قياسا بكل الحضارات
البشرية. هذا الجمال تجده في فن العمارة الإسلامي الذي ما زالت آثاره تُبهر
العالم.
في الإسلام ليس الدين جزءا من الثقافة التي هي إحدى منتجات الحضارة كما في
الرؤية الغربية، ولكن الإسلام هو صانع الحضارة؛ فهو الذي أعاد صياغة العقل البشري
بما يجعله قادرا على الإبداع الحضاري الإنساني. ولذلك تميزت الحضارة الإسلامية عن
غيرها بذلك الانسجام والتوازن بين الروح والمادة، وبالعالمية التي تجاوزت الحدود الجغرافية،
وبالإنسانية التي شملت كافة الأجناس والأعراف والقوميات، كما استوعبت مختلف
الأديان والمذاهب والطوائف، وبالانفتاح على مختلف الحضارات والثقافات والاستفادة
منها. وهذه "جمالية" استثنائية تمتعت بها الحضارة الإسلامية. وهي
الجمالية التي تحتاجها البشرية في عصرنا بعد فشل النموذج الغربي وسقوطه القيمي
والإنساني، حيث يتقدم البديل الحضاري الإسلامي لملء هذا الفراغ.
سادسا: قطرة الدم:
قطرة الدم هي رمز "الجهاد في سبيل الله"، وهي متعلقة ببذل الجهد
واستفراغه لتكون كلمة الله هي العليا، إذ لا بدّ للحق من قوة تحميه. وهي ركن أساس
لحماية أمة الإسلام ودولتها، ودفع العدوان، وتبليغ الدعوة الإسلامية، فهي
"جهاد دفعٍ وجهاد طلبٍ".
والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو ماضٍ إلى يوم القيامة، والمؤمن القوي
خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وعلى المؤمنين أن يُعدُّوا ما استطاعوا من
قوة، حتى لا يقعوا تحت استعمار وسطوة أعدائهم. وكرامة المؤمن وعزته تأبى أن تذل
لعدو أو لظالم أو أن تُستباح حرماته.
والمنظومة الحضارية التي تسعى لإحقاق الحق والعدل والحرية والكرامة
الإنسانية، لا بدّ لها من قوة قادرة على تنزيل ذلك على الأرض على شكل دولة وسلطان
له هيبته واحترامه ومكانته. ولذلك، كان التحريض على الجهاد والقتال خطا أساسيا في
التربية القرآنية للمؤمنين. كما كان هناك التحذير من ترك الجهاد، فقال عليه السلام:
"ما ترك قوم الجهاد إلا عمَّهم الله بالعذاب" (صحيح رواه الطبراني). وما
ترك قومٌ الجهاد إلا ذلُّوا، وبالتالي، يظل الجهاد شرطا للنهوض الحضاري.
وقد جاءت "قطرة الدم" لترمز لذروة العطاء، وللتضحيات العظيمة
التي تصاحب الجهاد؛ وحاز الشهيد في الإسلام على أعلى درجات التكريم، بعد الأنبياء
والصديقين، في الفردوس الأعلى.
والجهاد المقصود هو ضد الوقوع في الظلم، وضد إرهاب الأبرياء والمدنيين، ولا
يجوز الإكراه في الدِّين، فالحرية الدينية مكفولة. ولذلك كانت الفتوح الإسلامية
محل ترحيب الشعوب المستضعفة الواقعة تحت ظُلم حكامها، ورأى المؤرخون أن المسلمين
كانوا هم "أرحم الفاتحين" في المسيرة التاريخية للبشرية.
وقد أسيء إلى مفهوم الجهاد في عالمنا الحديث والمعاصر، وعمل الأعداء
والخصوم على تشويهه، كما أن بعض المسلمين أساؤوا استخدامه. وقد انتشر
"الوهن" بين المسلمين (حب الدنيا وكراهية الموت)، وانتشرت أشكال اللهو
والترف، وغاب فقه الإخشوشان وصناعة الرجال؛ حتى صارت بلاد المسلمين تحكمها أنظمة
فاسدة مستبدة؛ بينما تعيش حالة تغوّل استعماري غربي حولها إلى "بقرة
حلوب" يتم استنزافها لصالحهم. ولذلك، جاءت المقاومة في فلسطين لتعيد لهذا
المفهوم الكثير من بهائه.
* * *
هذه القطرات السِّت تبرز العناصر الأساسية للنهوض الإسلامي الحضاري وشروطه؛
وهي خطوط عامة، تسعى لأن تفتح آفاقا لبناء رؤية متكاملة لمشروع النهضة، وتنزيله
على الأرض في برنامج عملي ذي دينامية فعالة قابلة للتنفيذ.
* ملاحظة أصل المقال مداخلة أُلقيت قبل نحو ربع قرن في الجامعة الإسلامية
العالمية بماليزيا، وللحق فإن الأخ العزيز د. جمال بادي كان له فضل اقتراح إضافة
"قطرة العطر" إلى الورقة، فله جزيل الشكر.
x.com/mohsenmsaleh1