كتاب عربي 21

ترامب وريفيرا غزة

"ما قيمة الحجارة إذا دُمر الإنسان؟"- الأناضول
لا الأرض أرضه، ولا الشعب شعبه، ولا السماء سماؤه، ولا البحر بحره..!! فماذا يريد ترامب من غزة؟!

هكذا، بعقلية فوقيّة متغطرسة يطرح ترامب مشروعه لليوم التالي لغزة، ويحاول أن يفرض وصاية أمريكية على قطاع غزة لمدة عشر سنوات، واستملاك أراضيه، ووضع أبنائه في بيئة طاردة لدفعهم للهجرة؛ مع تعويضات شكلية. ولن تكون هناك إدارة فلسطينية، ولا حتى من سلطة رام الله، وإنما ستخضع لإشراف إسرائيلي أمريكي، ثم تُسلم إدارتها لسلطة عميلة وفق المقاسات الإسرائيلية.

باسم من يُقرّر ترامب؟ ولمصلحة من؟ ومن الذي أعطاه حقّ التصرف في الأرض والإنسان؟ يبدو أنّ العقل الأمريكي الاستعماري تحت إدارة ترامب والعقل الصهيوني الإلغائي لا يريان في الفلسطيني (وكذلك العربي والمسلم) سوى ذلك الشرقي المتخلف، ذي الشخصية الهامشية التي تفتقد أي هوية قومية أو حضارية، ويريانه حيوانا أو مخلوقا اقتصاديا، وحلُّ مشكلته يكون في إطار اقتصادي، وأنه لا يملك وعيا قوميا ولا انتماء وطنيا، ويريانه حالة عابرة على فلسطين، وحقوقه فيها عرضية مؤقتة ووجودها كغيابها؛ وبالتالي فإن فكرة "أرض بلا شعب" هي تطبيق لعقلية ترى أن أبناء فلسطين غائبون عنها لا وجود لهم، حتى لو كانوا يعمرونها منذ آلاف السنين. وقد سبق للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله أن أسهب في وصف هذه العقلية.

هيئة الوصاية الكبرى:
الديكور والشعارات التي قد تبدو جذابة للبعض حول ريفيرا غزة، وحول إعادة إعمارها، لا تجيب عن سؤال جوهري؛ فإذا كان ترامب يريد حقّا إعمار غزة، فلماذا كانت وما زالت الإدارة الأمريكية هي الشريك الأساس في تدميرها؟!

يتحدّث المشروع عن حلٍّ في إطار اقتصادي، فيما يُعرف باسم "صندوق إعادة إعمار غزة والتسريع الاقتصادي والتحول" أو باختصار "هيئة الوصاية الكبرى" (Great Trust)، والمكتوب في 38 صفحة، عن تحويل غزة إلى 6-8 مدن تعمل بالذكاء الصناعي، وتشمل أبراجا سكنية وشواطئ سياحية ومناطق صناعية وبنى تحتية حديثة. لكن حكومة ترامب غير ملتزمة بتمويل المشروع، لأنّه سيعتمد على استثمارات خاصة وحكومية.. والخطة وضعها صهاينة (إسرائيليون وأمريكان) بالتعاون مع مجموعة بوسطن الاستشارية.

ويتحدث المشروع عن تعويض مفروض على أصحاب الأراضي (دونما حقٍّ بالرفض) بإعطائهم رموزا رقمية تسمح لهم باستبدالها للحصول على شقق في المدن الجديدة أو مبالغ مالية. وسيتم تشجيع أهل غزة للهجرة من القطاع مقابل مبالغ مالية بسيطة وإعانات معيشية مؤقتة، أما المقيمون المتبقون في غزة فسيُحشرون في معازل أقرب إلى "معسكرات اعتقال" ويسكنون في بيئة طاردة.

سؤال التدمير والإعمار:

الديكور والشعارات التي قد تبدو جذابة للبعض حول ريفيرا غزة، وحول إعادة إعمارها، لا تجيب عن سؤال جوهري؛ فإذا كان ترامب يريد حقّا إعمار غزة، فلماذا كانت وما زالت الإدارة الأمريكية هي الشريك الأساس في تدميرها؟! ولماذا زوّدت الاحتلال الإسرائيلي وعلى مدى السنتين الماضيتين بأكثر من 90 ألف طن من الأسلحة والمتفجرات التي تساوي نحو ستّ قنابل نووية مثل تلك التي ألقيت على هيروشيما في اليابان؟! ولماذا وفّرت الغطاء للاحتلال للاستمرار في حملته الدموية المتوحشة التي دمرت بشكل كلّي أو جزئي أكثر من 350 ألف منزل، ومعظم المستشفيات والمدارس والمساجد والبنى التحتية، ومنعت أي قرار دولي يلزم دولة الاحتلال بوقف الحرب؟!

إنّ تعويض الدمار الذي أحدثه الإسرائيلي وحليفه الأمريكي هو حقّ شرعي وقانوني لأهل غزة، دونما مَنٍّ أو أذى، ودونما أدنى حقوق أو مزايا مترتبة لمن ارتكب جرائم التدمير وشارك فيها؛ ولا يمس بأي شكل الحقوق الوطنية والقانونية الكاملة لأبناء غزة.

سؤال التهجير والاستيطان:

كيف تكون خدمة قطاع غزة بتهجير أهله؟ وحشرهم في معازل أمنية تمهيدا لطردهم، أو إيجاد الظروف القاسية الدافعة لطردهم؟ ماذا سيجني أهل غزة من إعمار أرضٍ تعطى لغيرهم ويتحكم فيها أعداؤهم، ويستمتع بخيراتها وأرضها وشواطئها مستوطنون وصعاليك وانتهازيون وتجار حروب، ويكون الفلسطيني فيها "غريب الوجه واليد واللسان"، فيُنتزع الوطن منه، وتُنتزع هويته؛ وتأخذ طابعا مصطنعا مزورا إسرائيليا أمريكيا غربيا؟!

كيف يمكن خدمة منطقة من خلال تدمير الهوية الوطنية لأهلها، وإلغاء كيانيَّتهم وحقّهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم؟

وما قيمة الحجارة إذا دُمر الإنسان؟ وما قيمة البنايات والاستثمارات والمصانع والشواطئ إذا استحوذ عليها مجموعة لصوص، وحُرم أصحابها منها؟

وإذا كان ترامب (والإدارة الأمريكية) قلبه على غزة، فلماذا وفّر الغطاء للمجازر الإسرائيلية المتواصلة التي أبادت نحو 64 ألف فلسطيني وجرحت أكثر من 160 ألفا آخرين؟ ولماذا وفر الغطاء للتجويع الإسرائيلي الممنهج لسكان القطاع؟!

حلُّ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي:

من الواضح أن ترامب منشغل بحل مشكلة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وليس بحل مشكلة أهل غزة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، هو معني بمكافأة المحتل المجرم وبمعاقبة الضحية.. هو معني بسحق المقاومة ونزع أسلحتها، معني بتهجير السكان، معني بالسيطرة الإسرائيلية المستقبلية على القطاع. هذه هي "عدالة" الإدارة الأمريكية بعقليتها الفوقية الاستعمارية، وبروحها "المسيحية الإنجيلية".

ما يجب أن يفهمه ترامب:

لا يفهم ترامب ولا يريد أن يفهم حقيقة الصراع بين عدو مستعمر استيطاني إحلالي توسعي، وبين شعب يريد تحرير أرضه وأمة تريد أن تنهض وتتوحد من جديد.

لا يفهم ترامب ولا يريد أن يفهم طبيعة أهل المنطقة، وعمقهم الحضاري الضارب في التاريخ، وحيويتهم وعزتهم وكرامتهم، وأن الظروف الاستثنائية البائسة القاهرة والأنظمة الضعيفة الفاسدة المستبدة، لا تُخضعهم، وإنما تدفعهم للتحدي والثورة والنهوض.

ما يجب أن يفهمه ترامب أن "الإنسان" في هذه المنطقة غير قابل للإخضاع، وأنه لن يتنازل عن حريته واستقلاله، وأنه يرفض استبدال استعمار بآخر، أو أن يحل الأمريكي مكان الإسرائيلي

لا يفهم ترامب ولا يريد أن يفهم كيف صمدت غزة ومقاومتها 23 شهرا متواصلة في أداء أسطوري تاريخي، بالرغم من كافة أشكال البطش والدمار والتجويع؛ ولماذا ما زالت الأغلبية الساحقة ترفض نزع سلاح المقاومة ورفض التهجير، بل وتصطف أغلبية واضحة إلى جانب خط المقاومة.

لم يسأل ترامب نفسه لماذا عاد أكثر من 500 ألف غزي إلى شمال قطاع غزة المدمّر في أقل من أسبوع من بدء سريان الهدنة في كانون الثاني/ يناير 2025.

باختصار، ما يجب أن يفهمه ترامب أن "الإنسان" في هذه المنطقة غير قابل للإخضاع، وأنه لن يتنازل عن حريته واستقلاله، وأنه يرفض استبدال استعمار بآخر، أو أن يحل الأمريكي مكان الإسرائيلي.

* * *

خطة ترامب لقطاع غزة هي خطة إسرائيلية بامتياز، ولكن بروافع وديباجات وأغطية أمريكية؛ وهي شاهد وقح على رؤية استعمارية عدائية دونية لأبناء المنطقة، لا تتعامل معهم كبشر، وتلغي حقوقهم الوطنية والدينية والتاريخية. وهي خطة قوبلت برفض فلسطيني شامل. كما لقيت رفضا عالميا حتى من الدول الأوروبية.

وقد تبنّت البلدان العربية خطة أخرى لإعمار غزة بتكلفة 53 مليارا، ولكنها تحافظ على أهل قطاع غزة وترفض تهجيرهم، وتعطي مهمة إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية أو للجنة إدارية مؤقتة متوافق عليها فلسطينيا من تكنوقراط ومستقلين. وقد أيدت الدول الأوروبية الرئيسية خطة البلدان العربية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا.

وأخيرا، فالشعب الفلسطيني سيقاوم خطة ترامب، وسيُسقطها كما أسقط عشرات خطط التهجير طوال السبعين سنة الماضية.

x.com/mohsenmsaleh1