قضايا وآراء

ماذا دُبّر لغزة في ليل شرم الشيخ؟

"كان هؤلاء تواقين لتوقف الحرب؛ لكن ليس لدواع إنسانية أو أخوية، بل لتوثيق مشهد رفع الراية البيضاء فوق أسوار القطاع"- البيت الأبيض
من المؤكد أن صور ومقاطع الفيديو التي تنضح فرحا لأهالي قطاع غزة وهم يستقبلون خبر وقف إطلاق النار؛ أعادت للروح بعضا من الهدوء بعدما نالها من العذاب أثناء الحرب الهمجية، إلا أن الغصة والقلق كانا حاضرين بقوة، لا سيما في ظل "الغموض" الذي يغلف تفاصيل ما حصل في شرم الشيخ المصرية.

طبعا لا مجال للتعليق على "الزفة الإعلامية" لجحافل نظام السيسي المحترفة في تحريف الحقائق وتزييفها في واضحة النهار، وسعيهم الحثيث لاستغلال "اللقطة" وتصدير "وهْم النفوذ" الأقليمي والدولي، مع العلم أن الحقيقة المرة تقول بأن غزة المحاصرة المجوّعة من "جار السوء" هي من كسرت عزلة النظام المصري ومنحته الفرصة "لتمثيل" بطولة لا أثر لها على أرض الواقع؛ هذا من جهة، وعلى الضفة المقابلة هناك "نخب" إعلامية سقطت فريسة للإحباط واليأس بعدما كانت تأمل في رؤية غزة مستسلمة راكعة أمام الاحتلال وأزلامه.

كان هؤلاء تواقين لتوقف الحرب؛ لكن ليس لدواع إنسانية أو أخوية، بل لتوثيق مشهد رفع الراية البيضاء فوق أسوار القطاع تماهيا مع حلم السفاح نتنياهو ومن يسيرون في فلكه؛ لكن صلابة المقاومة ووعي أهل غزة وإيمانهم الراسخ والقوي أصابهم بالذعر

نعم كان هؤلاء تواقين لتوقف الحرب؛ لكن ليس لدواع إنسانية أو أخوية، بل لتوثيق مشهد رفع الراية البيضاء فوق أسوار القطاع تماهيا مع حلم السفاح نتنياهو ومن يسيرون في فلكه؛ لكن صلابة المقاومة ووعي أهل غزة وإيمانهم الراسخ والقوي أصابهم بالذعر وأظهرهم في تلك الصورة المبهجة لكل حر وشريف. لكن نعود للسؤال الأهم والعريض: ماذا دُبّر لغزة في ليل شرم الشيخ؟ ولماذا هذا الارتباك السائد بالمقارنة مع "وضوح" ما أطلق عليه المرحلة الأولى؟ ولماذا الأطراف العربية لا تصرح إلا بعد الحصول على الضوء الأخضر من إدارة البيت الأبيض لتحذو حذوها كالببغاء؟

ملامح المرحلة الثانية:

حتى وكل الأطراف تبدو "متكتمة" على ما جرى في الغرف المغلقة في شرم الشيخ؛ يمكن للمتابع فرز الملامح الجديدة لما تم التخطيط له هناك، وبالأخص بإلقاء نظرة بسيطة على فحوى ما يبث في الإعلام الإماراتي والسعودي وخلفهما المصري بدرجة أقل؛ حيث تغيرت النبرة بشكل مستفز، وتبدو التعليمات صريحة بالتركيز على زرع بذور الفتنة بين مكونات المجتمع الغزاوي، والمجاهرة بدعم مليشيات ياسر أبو شباب وحسام الأسطل وأشرف المنسي ورامي حلس.

فبعد "فشل" محاولات إعادة عجلة الحرب بفيتو أمريكي (لحدود اللحظة على الأقل)، صارت كل المجهودات تصب في خانة تأجيج الصراع محليا، والحديث عن "مشروع غزة الجديد" الذي بدأ الترويج له في الإعلام الأمريكي والغربي إجمالا، وتحديدا بعد حديث صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر عن "غزتين"؛ الأولى مهمشة ومنسية ولن تطالها المساعدات ولا يد الإعمار، وهي تحت حكم حركة المقاومة حماس، وأخرى تُعرف بما وراء الخط الأصفر، ستكون "مزدهرة" وستتوجه إليها الأنظار والأموال العربية والغربية؛ فهل أقنعت الإدارة الأمريكية الكيان الصهيوني بجدوى "الخطة الجديدة" بعد استحالة تحقيق النصر العسكري والقضاء كليا على المقاومة؟

غزة الجديدة:
التجارب علمتنا أن هذا الإصرار المريب على لعب دور حمائم السلام يخفي وراءه خططا بديلة لا تقل خطورة عن أصوات وأزيز الطائرات والصواريخ التي هطلت على القطاع الصامد وأبنائه

المؤكد أن هناك شبه إجماع على التوجه الجديد؛ حيث نرى "حماسا" عربيا واضحا من لدن أطراف تحركها أحقاد لم تعد تخفى على أحد، مقابل انخراط إعلامي غربي واسع في المشروع، وفتح الباب أمام كل "الأسماء الجديدة" الساعية لتقديم نفسها بوجه "متسامح" وتتوق لبناء "غزة الجديدة" و"المسالمة" التي تفتح "حضنها" للآخر دون ضغائن وأحقاد؛ فهل سينجحون في الوصول لهدفهم الوضيع بالحيلة بعد أن مرغت كرامتهم في الوحل في ساحات الوغى؟ ولماذا لا تتحلى الأنظمة العربية بالشجاعة اللازمة للإفصاح حول ما "اتفقوا" عليه مع "عرّابهم" أبو إيفانكا في شرم الشيخ؟

آمنّا وصدقنا أنهم صنعوا "المعجزات" ونجحوا في إيقاف الحرب الغاشمة على القطاع الأبي؛ فلماذا كل هذا التردد في الكشف عن الأهداف الحقيقية وراء "الصفقة" مع سيد البيت الأبيض؟ ولماذا يقبلون بـ"الاعتذار" عن طيب خاطر حين يصدر من مجرم لا يتردد في احتقارهم والكشف عن نواياه في بسط سطوته على حدودهم، ونراهم يتصارعون بينهم البعض حول أتفه الأسباب؟

طبعا الأجوبة عن هذه الأسئلة ستظل معلقة حتى إشعار آخر؛ لكن الزمان كفيل بفضح المتواطئين ومكافأة المخلصين الصادقين. والتجارب علمتنا أن هذا الإصرار المريب على لعب دور حمائم السلام يخفي وراءه خططا بديلة لا تقل خطورة عن أصوات وأزيز الطائرات والصواريخ التي هطلت على القطاع الصامد وأبنائه؛ لكننا على يقين تام بأن من نجح في قهر كل هذه الأساطيل وتأدبيها لن يعجز عن إحباط كل المخططات القذرة التي تحاك في الغرف المظلمة وتصاغ تحت شعارات وردية ونغمات حب وسلام ووئام.

في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وأهل غزة هاشم سيواصلون رسم البطولات في الحرب و"السلم" المزنر برؤوس الأفاعي السامة التي غادرت جحورها..