تتجه
مصر نحو مراجعة "وثيقة سياسة ملكية الدولة"، التي أصدرتها بالعام 2022، ونتج عنها التخارج الرسمي من ملكية
أصول عامة وطرح شركات حكومية بالبورصة وأمام مستثمرين استراتيجيين، وسط انتقادات معارضين وخبراء لسياسات رئيس النظام عبدالفتاح
السيسي.
والاثنين، وخلال اجتماع اللجنة العليا لـ"الوثيقة"، أعلن رئيس "مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار" بمجلس الوزراء أسامة الجوهري، عن تعديل يولي "استثمارات القطاع الخاص بالشركات المملوكة للدولة أولوية مقدمة على بيع الأصول"، متوقعا أن يعزز ذلك من جاذبية الأصول والعائد عليها.
التعديلات الجديدة تضع كذلك "قيودا على تأسيس شركات جديدة مملوكة للدولة"، وتضع "حدودا بين أدوار الدولة بصفتها مالك أو منظم أو صانع للسياسات"، وتعمل على "تحسين استقلالية وجودة وتنوع مجالس إدارة الشركات المملوكة للدولة"، وصياغة "سياسة واضحة لتوزيع أرباحها"، وفق بيان مجلس الوزراء.
جدل التعديلات.. ومخاوف مصرية
الاجتماع الذي حضره رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، و8 وزراء: (التخطيط، والكهرباء، والتنمية، والمالية، والإسكان، والزراعة، وقطاع الأعمال، والاستثمار)، والمدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي نهى خليل، يأتي بعد 3 سنوات من تدشين تلك الوثيقة، ما يثير التساؤل حول أهداف الحكومة من التعديل عليها.
مراقبون رأوا أن تحديثات الوثيقة القائلة بأن "يكون الاستثمار الخاص في الشركات العامة مقدم على بيع الأصول"، خطوة جيدة، تقلل مخاوف المصريين من خسارتهم للأصول العامة والشركات الحكومية، وتزيد من قيمة الأصول في الوقت ذاته.
وهنا يقول الخبير
الاقتصادي مجدي حسين، لـ"عربي21"، إن "تفضيل الاستثمار المشترك أو الشراكة مع القطاع الخاص على البيع الكامل للأصول يعد خطوة إيجابية نحو تحقيق كفاءة تخصيص الموارد دون الإخلال بمبدأ الملكية العامة".
وأضاف: "البيع النهائي للأصول رغم قدرته على توفير سيولة قصيرة الأجل، يمثل تفريطا بأصول استراتيجية تمثل رصيدا إنتاجيا طويل الأجل للدولة، في المقابل، فإن الاستثمار المشترك يسمح بجذب خبرات القطاع الخاص وتحسين الأداء التشغيلي دون التخلي عن السيطرة الكاملة أو فقدان الملكية الوطنية للأصول".
على الجانب الآخر انتقد البعض تحديث الوثيقة القائل بـ"وضع قيود على تأسيس شركات جديدة مملوكة للدولة؟"، مؤكدين أن فيه إضعاف لكيان الدولة وتقليل من قدراتها، في الوقت الذي تتعاظم فيه أعمال ومليكات واستحواذات كيانات اقتصادية أخرى، في إشارة لما يطلق عليه اقتصاديون امبراطوريتي "الجيش"، و"الإمارات".
ويلفت خبراء إلى خسارة اقتصاد تعاني موازناته السنوية عجزا ماليا وصل إلى 26.1 تريليون جنيه العام المالي (2024/2025)، لنسب كبيرة من الإيرادات السابقة لشركات حكومية جرى التخارج منها، بجانب مطالبتهم الحكومة بوقف تملك الأجانب لأصول هامة واحتكار صناديق الثروة السيادية الخليجية لقطاعات حساسة.
إصرار حكومي.. وتجارب سيئة
وتواصل
الحكومة المصرية توجهها نحو بيع الأصول، الأمر الذي تمثل في إقرار "مجلس النواب" حزيران/ يونيو الماضي، لقانون "إنشاء وحدة مركزية لحصر ومتابعة وتنظيم الشركات المملوكة للدولة"، ونقلها إلى "صندوق مصر السيادي"، و"وحدة الطروحات"، تمهيدا لطرحها.
وفي إطار تنفيذ الوثيقة، وفي شباط/ فبراير 2023، أعلنت الحكومة عن خطة لبيع حصص في 32 شركة مملوكة للدولة بحلول آذار/ مارس 2024، لكنها قررت لاحقا، وفي حزيران/ يونيو الماضي التوسع في قاعدة الشركات المستهدفة لتشمل ما بين 40 إلى 60 شركة، بينها 5 تابعة للجيش.
وتثير التجارب الحكومية المصرية السابقة والحالية حول الإصلاح الاقتصادي، لدى المصريين مخاوف كثيرة، خاصة وأن ذلك الحديث يأتي بعد نحو 34 عاما من إطلاق حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 1991، والذي ارتبط في العقل الجمعي لدى المصريين ببيع شركات الدولة مصحوبة بعمليات فساد مالي وإداري.
كما يتخوف المصريون من هذا الملف بشكل خاص كون صندوق النقد الدولي هو من دعا الحكومة المصرية عام 2021، إلى "تحقيق مركزية ملكية الدولة في كيان واحد"، والخروج من باقي الاقتصاد.
ماذا تقول الوثيقة؟
قررت حكومة مصطفى مدبولي الأولى منتصف 2018، طرح 23 شركة مملوكة للدولة، في توجه أزعج كثيرين، لكنه ورغم مردوده غير الجيد وتعثر العديد من الصفقات أعاد طرح الفكرة في حزيران/ يونيو 2022، عبر وثيقة سياسة ملكية الدولة .
الوثيقة التي صادق عليها السيسي، 29 كانون الأول/ديسمبر 2022، وتزامنت مع اتفاق القاهرة وصندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة3 مليارات دولار هو الرابع في عهد السيسي؛ حددت مجالات تخارج الدولة، والتي ستستمر فيها مع القطاع الخاص، والتي ستزيد فيها استثماراتها.
وتقضي الوثيقة بأن تتخلص الحكومة من استثماراتها وملكياتها في 79 نشاطا منها: "الاستزراع السمكي"، و"الثروة الحيوانية"، و"المجازر"، و"التشييد"، و"الإنتاج التليفزيوني والسينمائي"، و"تجارة التجزئة"، و"صناعات السيارات"، و"الأجهزة الكهربائية"، و"الأثاث"، و"الجلود"، و"الأسمدة"، و"الزجاج".
وتُبقي على استثماراتها في 45 نشاطا، مع الاتجاه لتخفيضها ومشاركة القطاع الخاص، منها: "الأسمنت"، و"الحديد"، و"الألومنيوم"، و"اللحوم"، و"الطيور"، و"الأعلاف"، و"الألبان"، و"السجائر والدخان"، و"محطات توليد الكهرباء".
وفي توجه ثالث، تشير الوثيقة لقرار الدولة الإبقاء على استثماراتها في 27 نشاطا مع الاتجاه لزيادتها مستقبلا، مثل: "البنية التحتية"، و"القطاعات ذات الأبعاد الاستراتيجية والاجتماعية"، مثل "التعليم"، و"الصحة".
ومشاركة القطاع الخاص بـ"تجارة الجملة"، و"محطات إنتاج مياه الشرب"، و"شبكات توزيع المياه"، و"إنشاء الأرصفة، والبنية التحتية في النقل البحري"، و"السكك الحديدية"، و"مترو الأنفاق"، و"النقل الجوي"، و"صناعات السفن"، و"خدمات التليفون الأرضي والاتصالات"، و"البث الإذاعي والتلفزيوني".
دعاية واسعة ونتائج هزيلة
ويطرح البعض التساؤل حول نتائج عمل الحكومة من خلال تلك الوثيقة طيلة 3 سنوات، وهل وفرت طروحات الحكومة وعمليات خصخصة شركاتها وتخارجها منها التدفقات المالية بالعملات الأجنبية بما يغطي الفجوة التمويلية الكبيرة التي تعاني منها البلاد، وتوفير التزامات الدولة تجاه خدمة ديون بلغت 168 مليار دولار، منتصف 2025.
الهدف الحكومي المعلن، إثر إطلاق الوثيقة تمثل في "زيادة الاستثمار إلى ما بين (20-30 بالمئة) من الناتج المحلي الإجمالي، ورفع النمو الاقتصادي إلى ما بين (7-9 بالمئة)، الأمر الذي لم يتحقق حيث سجل الاقتصاد المصري نموا قدره 4.4 بالمئة خلال (2024-2025).
وفق نشرة "انتربرايز" الاقتصادية المحلية: "جمعت الدولة 48 بالمئة من مستهدفها لبرنامج الطروحات البالغ 2.12 مليار دولار للفترة من آذار/ مارس 2022 إلى تموز/ يوليو 2025، حيث باعت الدولة حصصا في 19 شركة بيعا مباشرا للحصص والطروحات العامة الأولية، لتجمع نحو 9.5 مليار دولار.
وتشير بيانات أكثر تفاؤلا أن عمليات الخصخصة وطرح الأصول وتخارج الدولة منها جلب نحو 2.5 مليار دولار مليارات دولار6. 4 بين (2023 و2024).
في المقابل، بلغ إجمالي التزامات مصر لسداد الديون الخارجية والفوائد حوالي 2.29 مليار دولار في 2024، فيما تشير تقديرات رسمية أن إجمالي التزامات مصر من خدمة الدين الخارجي في عام 2025، يبلغ 2.43 مليار دولار، تشمل أصل القروض وفوائدها.
ماذا تبقى بحوزة الدولة؟
وفي أيلول/ سبتمبر 2025، كشفت تقارير مجلس الوزراء أن عدد الشركات المملوكة للدولة انخفض بمقدار 148 شركة بين آب/ أغسطس 2024 وآب/ أغسطس 2025 مع البيع والدمج وإعادة الهيكلة، حيث انخفض عدد الشركات المملوكة للدولة من (709 إلى 561 شركة)، ليقل عدد شركات قطاع الأعمال العام وحدها من 317 إلى 146 فقط.
وفي أيلول/ سبتمبر 2024، كشفت تقارير حصيلة تنفيذ وثيقة سياسة ملكية الدولة حتى آب/ أغسطس 2024، أن هناك 33 جهة حكومية بينها في (18 وزارة و9 محافظات) لديها 709 شركات، تتنوع بين 18 قطاعا اقتصاديا، بعدما تم إجراء حصر على ملكية الشركات الحكومية.
وأكد التقرير، أن نحو 158 شركة تبلغ نسبة مشاركة الدولة بها أكثر من 75 بالمئة، في حين يبلغ عدد الشركات التي تسجل نسبة مشاركة الدولة بها أقل من 25 بالمئة نحو 80 شركة.
كما يبلغ عدد الشركات التي تمتلك الدولة فيها حصة بين 50 و75 بالمئة، قرابة 41 شركة، ونحو 42 شركة تمتلك الدولة حصصا بها بين 25 و50 بالمئة، ونحو 54 بالمئة من الشركات المشمولة بالحصر تحقق أرباحا، مقابل نحو 4.42 بالمئة تحقق خسائر.
رسالة حكومية إلى الصندوق
وفي قراءته، تحدث الخبير الاقتصادي المصري عبدالنبي عبدالمطلب، لـ"عربي21"، عما جاء من تغييرات حكومية على وثيقة ملكية الدولة، ورؤيته لما بالتغييرات من جوانب إصلاح لبعض بنود رفضها البعض في الوثيقة، ودور تلك التغييرات في تحجيم دور الدولة وتعميق انفصالها عن قطاعات هامة واستراتيجية.
وقال إنه "تم إعداد الوثيقة كبرنامج عمل للحكومة في إطار اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، بهدف إظهار أن الدولة تنوي بالفعل التخارج من المشروعات والشركات التي تتواجد فيها خلال 3 سنوات، ولم يتم هذا التخارج".
المسؤول المصري السابق بوزارة الصناعة والتجارة، أوضح أنه "قبل هذه التعديلات، كانت هناك توصيات هامة من جانب لجان (الحوار الوطني) بأن يتم إعادة ومراجعة بنود الوثيقة، حتى تواكب الحاضر".
في اعتقاده يرى أن "التعديلات التي أدخلت على الوثيقة هي رسالة إلى صندوق النقد الدولي، بأن مصر في طريقها لإعطاء فرصة أكبر للقطاع الخاص، والتخلي أو تنفيذ برنامج التخارج أو الطروحات أو الخصخصة".
وفي رؤيته بين أن "الهدف الأساسي من هذا التعديل، هو إخبار الصندوق بأن القاهرة لن تتوسع مجددا في إقامة أو إنشاء شركات جديدة مملوكة للدولة".
برنامج عمل بلا أهداف
وفي إجابته على سؤال "عربي21": هل نجحت سياسة ملكية الدولة في تحقيق أهدافها؟، قال عبدالمطلب: "لم يكن هناك أهداف لهذه الوثيقة، ولكنها كانت مجرد برنامج عمل أو تعهدات حكومية لإتمام اتفاق التمويل المطلوب من صندوق النقد بقيمة 3 مليارات دولار، والذي تم رفعه في آذار/ مارس 2024, إلى 8 مليارات دولار".
وأكد أنه "لم تكن هناك نوايا حقيقية لدى الدولة بأن يكون لديها تشريعات وقواعد وإجراءات وقوانين تسمح بالحد من الملكية العامة وتسمح بانطلاق القطاع الخاص".
وأضاف: "لم توجد نية لتوسيع ملكية الدولة أو زيادة شركاتها أو إنشاء أخرى جديدة، ربما ذلك لم يكن موجودا؛ لكن حتى هذه اللحظة في اعتقادي أن فكرة تخارج الدولة من مشروعاتها هو شيء نظري، ومن الصعب أن تنفذ الدولة هذه البنود التي اتفقت عليها".
مناورة في مرحلة صعبة
وخلص للقول: "نحن في مرحلة اقتصادية صعبة؛ ومصر رفعت أسعار الوقود الشهر الجاري رغم انخفاض أسعاره عالميا، لكنه من الواضح أن صندوق النقد الدولي لم يعط أية إشارة بأنه سيقبل هذا التصرف باعتباره أحد أشكال الإصلاح وتنفيذ التعهدات مع الصندوق".
وتابع: "صحيح هناك تصريحات قليلة الحدة من الصندوق، لكن مازالت ذو تأثير، ورئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، تقول إنه مازال مطلوب من مصر الإسراع في برنامج الطروحات والخصخصة، وأن يكون لديها سعر صرف مرن".
ويرى الخبير المصري، أن "المشكلة أنه حتى إذا قامت مصر بإعداد وثيقة جديدة، وبرنامج عمل جديد أكثر تطورا والتزاما مما هو موجود بالوثيقة، لا أعتقد أن ذلك سيكون كافي في وجهة نظري، وأن الصندوق سيشترط على الأقل تنفيذ جزء من برنامج الطروحات".
وعن دور الوثيقة في دعم القطاع الخاص في مصر، أوضح أنه "لكي يحقق الهدف والمخطط له في الناتج القومي الإجمالي ونتحدث هنا عن 65 بالمئة؛ فهذا يحتاج إلى ثقة كاملة من مجتمع الأعمال في مجتمع الإدارة ومجتمع الحكم، ما يعني أن يعمل القطاع الخاص وهو واثق بأن ما سوف يدشنه من أعمال واستثمارات لن يكون لها منافس في نفس القطاع أو ذات المجال يهدد أرباحها".