شهد
العالم خلال العقدين الأخيرين تحولات
عميقة في طبيعة المشاركة السياسية، نتيجة تصاعد حضور الوسائط الرقمية وانتشار
منصات التواصل الاجتماعي، التي أعادت تعريف الفضاء العمومي وأساليب التعبير
والمساءلة السياسية. ولم يكن المغرب بمعزل عن هذه التحولات، إذ ظهر جيل شبابي جديد
يتميز بوعي سياسي واجتماعي يتشكل في فضاءات رقمية حرة، بعيدا عن الهياكل التقليدية
للأحزاب والنقابات والجمعيات، ومتمتعا بمرونة وسرعة في التفاعل مع الأحداث
والقضايا المجتمعية.
هذا الجيل، الذي يمكن الإشارة إليه مجازا
بـ"جيل مجرة ديسكورد"، لا يعتمد على الشعارات التقليدية أو الانتماء
المؤسساتي، بل يستند إلى التفاعل اللحظي، والسخرية، والتماثل العاطفي كأدوات
لممارسة السياسة ومساءلة السلطة، كما يتشكل سلوكهم السياسي في سياق مرن وتجريبي،
حيث تتحول الفضاءات الافتراضية إلى منصات للتعبير، والنقد، والتأثير الاجتماعي
والسياسي.
يهدف هذا المقال إلى تحليل المحددات العميقة
للسلوك السياسي لشباب مجرة ديسكورد، وفهم التوتر القائم بين فضاءاتهم الرقمية
الرمزية وبين بنية النظام السياسي التقليدي، عبر تفسيرات سوسيولوجية تستند إلى
مفاهيم الثقافة السياسية، السلوك السياسي، والفضاء العمومي الرقمي.
1 ـ المحدد الثقافي.. من الوعي الأيديولوجي
إلى الوعي التجريبي
يتشكل وعي جيل "مجرة ديسكورد"
السياسي في ظل انهيار المرجعيات الإيديولوجية التقليدية وتآكل الثقة في الشعارات
الكبرى التي كانت تشكل البنية التوجيهية للأحزاب والنقابات والجمعيات، لم يعد
السؤال بالنسبة لهذا الجيل "ما المرجعية السياسية؟"، بل أصبح "ما
الجدوى والفائدة؟"، في تحول يعكس نقلة نوعية من الثقافة السياسية المبنية على
الالتزام الإيديولوجي إلى ثقافة التجربة والممارسة المباشرة.
نحن أمام تحول بنيوي في المخيال الجمعي للشباب: لم تعد الوطنية مشروعا تعبويا، بل صارت حالة وجدانية ظرفية، مرهونة بمدى قدرة الوطن على ضمان شروط الحياة الكريمة، إنها فردنة للحلم الوطني ورقمنة للانتماء، تؤشران إلى مرحلة ما بعد الوطنية الكلاسيكية.
ينبع هذا الوعي من تجربة الحياة اليومية
للشباب: البطالة المستمرة، محدودية الفرص، التعرض للتمييز الاجتماعي والمجالي،
والانكشاف المستمر للامساواة عبر المنصات الرقمية، التي تمنحهم رؤية فورية وواقعية
للواقع الاجتماعي، فيتحول السلوك السياسي من كونه فعلا مؤطرا بالهياكل المؤسساتية
التقليدية إلى رد فعل أخلاقي ووجودي، يعكس رفض الظلم، والسعي وراء العدالة،
ومساءلة الذات والجماعة بشكل مستمر.
فتتحول السياسة بالنسبة لهم إلى فضاء
للتجربة والتفاعل النقدي، ليس بمعناها التقليدي المرتبط بالانتماء الحزبي أو
السلطة، بل كأداة لمساءلة القيم، واختبار المواقف، وبناء خبرة معرفية وتجريبية
متواصلة، لهذا يصبح الوعي التجريبي حلقة وصل بين التجربة الفردية والفاعلية
الجماعية، فيتحوّل السلوك السياسي إلى فعل مستند إلى الملاحظة الدقيقة، والتقييم
النقدي، والاستجابة الأخلاقية للواقع الاجتماعي، متحررا من قيود الالتزام
الأيديولوجي الجامد والانخراط التنظيمي التقليدي.
2 ـ المحدد التواصلي.. من الخطابة إلى
التفاعل
يمثل Discord نموذجا بارزا لتحول أشكال التواصل السياسي
بين الشباب، إذ تنهار المسافة التقليدية بين المرسل والمستقبل، وتُستبدل البنية
الهرمية بمنطق أفقي قائم على المشاركة والتفاعل المباشر، لا يقتصر الخطاب السياسي
في هذا الفضاء، على نقل الرسائل أو توجيه
الرأي، بل يتحول إلى منتدى تفاعلي جماعي
يُعيد تعريف القوة والشرعية الرمزية، حيث يشارك الجميع في صياغة المعنى وإعادة
تشكيل الخطاب السياسي والاجتماعي.
يشهد Discord صعود التفاعل اللحظي، النقاش الجماعي،
والسخرية السياسية كوسائل مركزية للتعبير والمساءلة، تتحوّل النكتة والميم (mème) إلى أدوات
رمزية لتفكيك السلطة وإعادة إنتاج المعنى السياسي، بما يجعل الشباب ليسوا متلقين
سلبيين فحسب، بل فاعلين قادرين على تشكيل النقاش العام وممارسة نوع من المقاومة
الرمزية.
يعكس هذا التحوّل مرحلة ما بعد المؤسسات في
ممارسة السياسة، حيث تتحول السياسة إلى فضاء تجريبي، نقدي، ومعرفي، قائم على
التفاعل اللحظي والتجربة المشتركة بدل الالتزام الصارم بالقواعد المتعارف عليها في
التنظيمات، ففي هذا الإطار يمارس شباب مجرة Discord السياسة بأسلوب يمكن توصيفه
بـ"اللاجدّية الجادّة"، إذ تُستخدم السخرية، الميمات، والتفاعل المباشر
كأدوات فعّالة للمساءلة، وبناء فهم جماعي للواقع الاجتماعي والسياسي. ومن ثم،
يستعيد الفضاء الرقمي دوره باعتباره منصة حيوية لتجربة السياسة وإعادة تشكيلها، ما
يتيح لهذا الجيل إعادة تعريف المشاركة السياسية وفق منطق التجريب، النقد،
والابتكار الرمزي.
3 ـ المحدد النفسي ـ الاجتماعي.. من
الانتماء إلى التماثل
يعيش شباب مجرة ديسكورد أزمة انتماء مزدوجة،
تتجلى أولا في ضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها الرسمية، التي يفقدون فيها القدرة
على الاعتراف بالفاعلية والتمثيل. ثانيا، تنبثق هذه الأزمة من غياب تمثيل حقيقي
لهؤلاء الشباب داخل الأحزاب السياسية التقليدية أو قوى المعارضة، حيث يجدون أن
الهياكل التنظيمية والمؤسساتية غير قادرة على التعبير عن تطلعاتهم أو مشاغلهم
اليومية.
مواجهة لهذا الفراغ، ينخرط هؤلاء الشباب في
جماعات افتراضية قائمة على التماثل العاطفي، حيث يتلاقى الأفراد على شعور مشترك
بالرفض، التمرد، والسخرية، بدل الالتزام بهياكل تنظيمية صارمة أو برامج أيديولوجية
محددة، هذه الجماعات الافتراضية تُوفر لهم مساحة أمان نفسية واجتماعية، تُتيح
التعبير عن الغضب، الإحباط، والتمرد بشكل جماعي، وتعيد صياغة معنى الانتماء على
أساس التجربة المشتركة والمشاعر المتقاربة بدل الانتماء المؤسساتي.
وبالتالي، يتحول السلوك السياسي لديهم من
التزام أيديولوجي تقليدي إلى تجربة جماعية مرتبطة بالشعور المشترك بالاحتجاج
والمساءلة، فتصبح السياسة فضاء للتفاعل النفسي والاجتماعي، حيث يُمارس الضغط
الرمزي على السلطة والمجتمع من خلال السخرية والنقد الجماعي والمشاركة اللحظية،
فتُعيد الجماعات الافتراضية إنتاج الفعل السياسي خارج الأطر الرسمية.
يمثل شباب "مجرة ديسكورد" في المغرب ظاهرة سوسيولوجية وسياسية نوعية، تكشف عن تحول عميق في البنية الرمزية والثقافية للمشاركة السياسية، فهم جيل أكثر وعيا بالسياقات الاجتماعية والسياسية، لكنه أقل انتماء للمنظومات المؤسسية التقليدية؛ أكثر جرأة على مساءلة السلطة، لكنه أقل قابلية للانضباط التنظيمي؛ يمتلك قدرة لافتة على التأثير عبر الوسائط الرقمية، لكنه يزداد ابتعادا عن قنوات المشاركة الكلاسيكية.
يمكن فهم هذا التماثل العاطفي آلية لإعادة
تشكيل الانتماء السياسي: فهو يتيح للشباب ممارسة الفعل الجماعي بوعي نقدي، وبناء
شبكة رمزية للتضامن والرفض، توازن بين الاحتجاج الفردي والتأثير الجماعي، وتخلق
شكلا من الفاعلية السياسية غير المؤطرة، تعتمد على التفاعل النفسي، المشاعر
المشتركة، والتجربة الرمزية، أكثر من الاعتماد على الهياكل التقليدية.
4 ـ المحدد الرقمي.. السيادة على المعلومة
وتحولات المعنى السياسي
يستمد شباب مجرة ديسكورد معارفهم السياسية
من الفضاء الرقمي المفتوح، لا من الوسائط الرسمية أو قنوات الإعلام العمومي، إنهم
لا يتعاملون مع المعلومة بوصفهم مستهلكين سلبيين، بل فاعلين رقميين يمتلكون قدرة
عالية على صناعة المعرفة السياسية بطرقهم الخاصة والبسيطة، وذلك من خلال إعادة
إنتاجها، تفكيكها، والتعليق عليها جماعيا وفوريا، فالمنصات الرقمية لم تعد قناة
اتصال فقط، بل فضاء لإعادة تعريف الخبر السياسي، ومجالا لإنتاج سرديات بديلة،
تتجاوز الخطاب الرسمي والمؤسساتي.
لكن هذه السيادة الرقمية لا تخلو من مفارقة
بنيوية عميقة؛ فهي من جهة تُتيح تمكينا سياسيا غير مسبوق، يمنح الشباب أدوات
مستقلة للملاحظة والتحليل والنقد والتأثير، ويُعيد توزيع السلطة الرمزية في المجال
العمومي لصالح فاعلين غير مؤطرين تنظيميا. ومن جهة ثانية، تُسهم هذه السيادة في
تفكك المعنى السياسي بفعل تدفق المعلومات بلا سياق، وتضخم العواطف والانفعالات
الجماعية التي تسبق التحليل العقلاني أو التنظيم الفعلي.
نتيجة لذلك، تتحول السياسة في وعي هذا الجيل
إلى سلسلة من الأحداث اللحظية المتتابعة، أكثر من كونها مشروعا تراكميا أو رؤية
استراتيجية محكومة بسياقات واتجاهات محددة تنسجم مع المرجعيات المؤطرة لها، لهذا
يصبح الفعل السياسي أقرب إلى استجابة آنية لمثيرات رقمية (خبر، هاشتاغ، فضيحة، بث
مباشر...)، تُنتج موجات تعبئة سريعة، لكنها مؤقتة ومفتتة، يعكس هذا النمط من
التفاعل تحولا عميقا في بنية الثقافة السياسية، حيث تتراجع المرجعيات الكبرى لصالح
الزمن اللحظي، ويغدو التفاعل العاطفي والرقمي أحد أهم محركات السلوك السياسي.
يمكن القول إن المحدد الرقمي يعيد تشكيل
العلاقة بين المعرفة والسلطة، ويؤسس لفضاء عمومي مواز يُمارَس فيه الفعل السياسي
خارج الوسائط التقليدية، بآلياته الخاصة ولغته الخاصة وإيقاعه الزمني المختلف.
5 ـ المحدد القيمي.. السياسة مساءلة أخلاقية
لا ينطلق جيل مجرة ديسكورد في مواقفه من
برامج حزبية أو أطر إيديولوجية منظمة، بل من إحساس عميق بالعدالة باعتبارها معيارا
للفعل السياسي ومحركا أساسيا للسلوك الجمعي، هذا الجيل لا يثور لأن جهة سياسية
تعبّئه، بل لأنه يشهد إهانة للكرامة الإنسانية، أو ظلما لشرائح مجتمعية ضعيفة، أو
خرقا فادحا للعدالة الاجتماعية، تتحول السياسة في مثل هذه اللحظات لديه إلى فعل
أخلاقي جماعي، لا إلى صراع تقليدي على السلطة أو تقاسم النفوذ.
تتأسس هذه الرؤية القيمية على ما يمكن وصفه
بـ"الضمير الجمعي الرقمي"؛ أي حس جماعي بالعدل والظلم يتشكل ويتغذى في
الفضاء الافتراضي، ويتجاوز حدود الانتماءات الإيديولوجية أو الانقسامات التنظيمية،
فالموقف السياسي عند شباب المجرة لا ينبع من انحياز لتيار أو حزب، بل من تماثل
وجداني وأخلاقي مع المظلومين والمهمشين، ومن إحساس فوري بالمسؤولية الأخلاقية تجاه
قضايا العدالة الاجتماعية.
هذا التحول يجعل من السلوك السياسي لهؤلاء
الشباب مساءلة أخلاقية مستمرة للسلطة والمجتمع في آن واحد، حيث تتحول الفضاءات
الرقمية إلى ساحات مفتوحة للرقابة الرمزية والنقد الأخلاقي، تُمارس فيها السلطة
السياسية تحت ضغط الضمير الجمعي لا تحت منطق التفاوض الحزبي التقليدي.
وبهذا المعنى، فإن المحدد القيمي يشكل بنية
تحتية رمزية للفعل السياسي لدى هذا الجيل، إذ يربط بين الاحتجاج السياسي والتمثل
الأخلاقي للعدالة، ويمنح السلوك الاحتجاجي مشروعية رمزية عالية لا تستمد قوتها من
التنظيم أو القوة المادية، بل من قدرتها على التأثير في الوعي العام واستدعاء الحس
الأخلاقي الجمعي.
6 ـ المحدد البنيوي.. الفجوة مع الوسائط
الكلاسيكية
تتجلى إحدى أبرز الإشكاليات البنيوية في
العلاقة بين جيل مجرة ديسكورد وبنية النظام السياسي في الفجوة العميقة بين منطق
الوسائط الكلاسيكية ومنطق الوسائط الرقمية، فالدولة والأحزاب السياسية والإعلام
العمومي لا زالوا يشتغلون ضمن نموذج اتصال هرمي ينتمي إلى ما قبل عصر الرقمنة، حيث
تتدفق الرسائل من أعلى إلى أسفل، وتُضبط حدود الخطاب، وتُحتكر السلطة التأويلية من
طرف الفاعلين الرسميين والمؤسساتيين.
في المقابل، يعيش هذا الجيل في زمن السيولة
الرقمية واللامركزية، يعاد صياغة الخطاب السياسي بشكل أفقي وتفاعلي، وتتحول
المعلومة من منتَج رسمي إلى مادة جماعية للتداول والنقاش والسخرية وإعادة التشكيل،
هذه المفارقة البنيوية لا تخلق اختلافا في الوسائط فقط، بل تؤسس لاختلاف في منطق
إنتاج المعنى ذاته: فبينما يشتغل السياسي بمنطق الانضباط الخطابي والمؤسساتي،
يتفاعل الشاب بلغة الميم والتهكم والرد السريع، محولا الخطاب السياسي من نص رسمي
إلى مادة رمزية للتفكيك والمساءلة.
إن هذه الفجوة الاتصالية تجعل إمكانيات
الحوار بين الطرفين محدودة، إن لم تكن مستحيلة، إذ لا يلتقيان على أرضية رمزية
مشتركة، فحين يتحدث السياسي بلغة "المواطنة والمسؤولية"، يرد الشاب بلغة
ساخرة، تُفرغ الخطاب من جديته وتعيد إنتاجه بشكل معاكس، فيصبح التفاعل بين الطرفين
محكوما بالتصادم الرمزي أكثر من التفاهم، ويغدو الخطاب السياسي الرسمي عاجزا عن
النفاذ إلى وعي هذا الجيل، أو التأثير في تمثلاته.
تمثل هذه الفجوة أحد أعمدة أزمة الشرعية
التواصلية، إذ تكشف عن حدود النماذج الاتصالية التقليدية في التأثير داخل فضاء
عمومي جديد تسوده السرعة، التفاعلية، والسيولة، لأنها ليست فجوة تقنية فقط، بل
فجوة رمزية وقيمية تعبر عن انتقال أعمق في الثقافة السياسية نفسها، من فضاء سلطوي
مركزي إلى فضاء رقمي أفقي مفتوح.
7 ـ المحدد الرمزي.. من الحلم الوطني إلى
الحلم الذاتي
يعد التحول الرمزي أحد أهم المفاتيح لفهم
التحولات العميقة في تمثلات جيل الشباب المعاصر تجاه السياسة والانتماء، فبعد أن
كان الوطن يختزل في المخيال الجمعي كفضاء للعيش المشترك، ورافعة لمشروع سياسي
جماعي ذي حمولة قيمية وتاريخية، أصبح اليوم يُنظر إليه من طرف جزء واسع من الشباب
باعتباره منصة وظيفية مؤقتة، تُقاس قيمتها بقدرتها على تمكين الفرد من تحقيق
طموحاته الخاصة، لا بقدرتها على احتضانه كمواطن منخرط في مشروع وطني جامع.
هذا التحول من "الانتماء" إلى
"المنفعة" ليس وليد ظرفية آنية، بل هو نتاج تراكمات تاريخية وبنيوية،
يمكن رصدها على مستويين متكاملين:
إن جيل ديسكورد ليس خارج السياسة، بل يمارسها بلغته الخاصة، بأدوات جديدة، وبخيال سياسي مختلف. وأي مشروع وطني مستقبلي لا يأخذ هذا التحول بعين الاعتبار، لن يكون إلا تكرارا لماض لم يعد له جمهور.
ـ على المستوى النفسي ـ الاجتماعي: يشعر
الشباب أن العقد الرمزي الذي كان يربطهم بالدولة قد تفكك، فالدولة لم تعد قادرة
على تمثيل طموحاتهم أو ضمان حد أدنى من الأفق الاجتماعي والسياسي، وهو ما ولّد
أزمة ثقة حادة جعلت الحلم الفردي يتغلب على الحلم الجماعي، فأصبح النجاح الذاتي،
سواء عبر الهجرة أو العمل الحر الرقمي أو صناعة المحتوى الافتراضي، أكثر واقعية
وإغراء من أي مشروع وطني يُقدَّم في الخطاب الرسمي.
-ـ على المستوى
الرمزي ـ السياسي: كانت الرموز الوطنية (العلم، الخطاب السياسي، المدرسة، الإعلام
العمومي...) تشكل في الماضي بنية رمزية موحدة تضمن الحد الأدنى من التماهي الجمعي،
غير أنها فقدت اليوم قدرتها على إنتاج المعنى، وبفعل التغيرات الرقمية، لم يعد
الشباب يتلقى المعنى من الأعلى، بل يصنع معناه في شبكاته الافتراضية الخاصة، وهكذا
تحوّل الحلم الوطني إلى سردية رسمية معزولة عن المتخيل الاجتماعي الفعلي.
ـ على مستوى العلاقة بين الفرد والدولة: لم
يعد الرابط بين الطرفين قائما على الانتماء الوجداني أو التماهي الهوياتي، بل على
منطق نفعي، ظرفي، فالشباب يقيس قيمة الدولة بقدرتها على توفير الشغل، والحرية،
والحماية الاجتماعية، وإذا لم يتحقق ذلك، فإن الانسحاب الرمزي أو الفعلي يصبح هو
الخيار الأبرز، وهو ما يفسر تزايد نزعات الهجرة الجماعية و"الهجرة
الصامتة" نحو الفضاء الرقمي.
ـ إعادة تشكيل الرأسمال الرمزي: لم تعد
الدولة تحتكر إنتاج الرموز والمعاني، فبدل أن تكون الوطنية أفقا موحدا، أصبحت إحدى
السرديات المتنافسة داخل فضاء مفتوح متعدد المعاني، ولم يعد جيل الشباب يعيش في ظل
رمزية وطنية صلبة، بل في سياق رمزية سائلة (وفق تصور Zygmunt Bauman تتشكل فيها
الانتماءات وفق الطلب، وتتبدل بتغير الفرص والسياقات.
ـ نتيجة هذا التحول: يؤدي هذا الانزياح من
الحلم الوطني إلى الحلم الذاتي إلى تراجع الفاعلية السياسية التقليدية، فالشباب لا
ينخرطون في الأحزاب أو المنظمات الوسيطة، بل في مسارات فردية أو جماعات افتراضية
لا تسعى إلى التمثيل السياسي بقدر ما تعبر عن الاغتراب الرمزي، إنها تحولات تؤشر
إلى تصدع الرابط الجمعي وإعادة تشكيله وفق منطق فرداني رقمي، يعيد تعريف السياسة
نفسها.
في المحصلة، نحن أمام تحول بنيوي في المخيال
الجمعي للشباب: لم تعد الوطنية مشروعا تعبويا، بل صارت حالة وجدانية ظرفية، مرهونة
بمدى قدرة الوطن على ضمان شروط الحياة الكريمة، إنها فردنة للحلم الوطني ورقمنة
للانتماء، تؤشران إلى مرحلة ما بعد الوطنية الكلاسيكية.
يمثل شباب "مجرة ديسكورد" في
المغرب ظاهرة سوسيولوجية وسياسية نوعية، تكشف عن تحول عميق في البنية الرمزية
والثقافية للمشاركة السياسية، فهم جيل أكثر وعيا بالسياقات الاجتماعية والسياسية،
لكنه أقل انتماء للمنظومات المؤسسية التقليدية؛ أكثر جرأة على مساءلة السلطة، لكنه
أقل قابلية للانضباط التنظيمي؛ يمتلك قدرة لافتة على التأثير عبر الوسائط الرقمية،
لكنه يزداد ابتعادا عن قنوات المشاركة الكلاسيكية.
هذا الجيل لا يكتفي بالتموقع على هامش الحقل
السياسي، بل يعيد -دون إعلان مؤسسي- صياغة
معناه وحدوده ووظائفه، فهو ينقل السياسة من فعل مؤسسي مغلق إلى فعل تفاعلي مفتوح،
ومن الانتماء الحزبي الممأسس إلى الشعور الجمعي المتحول، ومن الصراع على السلطة
إلى مساءلة أخلاقية دائمة تتغذى من الحس العام بالعدالة والكرامة، وبالتالي لم يعد
الفعل السياسي مرادفا للانخراط في الأحزاب والنقابات، بل أصبح يتجسد في الفضاء
العمومي الرقمي كحيز لإنتاج المعنى وإعادة توزيعه.
إن تجاهل هذه الدينامية الجديدة أو اختزالها
في مجرد موجة عابرة من "التمرد الافتراضي" يشكل خطأ استراتيجيا، لأنه
يعمق الشرخ بين الدولة والمجتمع، ويُفقد الفضاء العمومي طاقته التجديدية.
بالمقابل، فإن استيعاب هذه الظاهرة يقتضي إعادة هندسة الفضاء العمومي على أسس
تفاعلية، رقمية، ديمقراطية، تسمح بإدماج هذه الفئة في إنتاج القرار العمومي لا في
استهلاكه فقط.
إن جيل ديسكورد ليس خارج السياسة، بل
يمارسها بلغته الخاصة، بأدوات جديدة، وبخيال سياسي مختلف. وأي مشروع وطني مستقبلي
لا يأخذ هذا التحول بعين الاعتبار، لن يكون إلا تكرارا لماض لم يعد له جمهور.
*باحث في سلك
الدكتوراه تخصص علم الاجتماع السياسي ـ المغرب