أفكَار

شرعية مرسومة بالأسطورة.. "إسرائيل" بين الدين والسياسة والإجرام

السياسي الغربي سيناصر الحق الفلسطيني فقط عندما لا يكون مستقبله السياسي رهين ضغط اللوبيات الصهيونية.. جيتي
ـ 1 ـ

في ظل العدوان على غزة منذ أكتوبر 2023 والمجاعة والأمراض والدمار الشامل في كامل القطاع، تبنت جمعية العامة للأمم المتحدة إعلان نيويورك" لتسوية قضية فلسطين "بالوسائل السلمية " منها تنفيذ حل الدولتين" و"إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة" و"توفير ضمانات الأمن الجماعي".  مع أنّ التجارب علّمتنا أنّ قيمة مثل هذا الإعلان لن تتجاوز البعد المعنوي ولن تخلّف أثرا على الأرض استبشر به الكثيرون ورأوا فيه بارقة أمل لحل القضية الفلسطينية. ولحماستهم أو لهول الوضع في القطاع لم ينتبهوا إلى ما فيه من رياء. فقد كان يعمل بحرص على مراعاة الغضب الإسرائيلي. ويتجاهل بتشديده على [الوسائل السلمية] الحق الفلسطيني في الكفاح المسلح ضد الاحتلال.

ويركز بالمقابل على ضمانات الأمن التي يرددها الإسرائيليون وفق فهم خاص الذي يمنحهم شرعية الاعتداء على حقّ الآخر في الحياة في سبيل تحقيقه. وضمن هذه الورقة نحاول أن نرصد الصورة البانورامية للكيان المحتل التي تجعلها تُحظى بمعاملة خاصّة كلّما تعلّق الأمر بجرائمها ضدّ الإنسانية ويُعطّل القانون الدّولي في سبيل إرضائها.

ـ 2 ـ

تعمل الدّعاية الصهيونية باستمرار على الترويج لإسرائيل باعتبارها وطنا قوميا لضحايا الاضطهاد والمحرقة والتطرّف. فتصوّرها حمامة سلام يحيط بها الأعداء من كلّ جانب، فلا يهددون سلميتها فحسب وإنما وجودها كذلك. وتختلق الأكاذيب فتجد من يصدّقها ويتبنّاها، كأن تجعل من مؤتمر اللاءات الثلاثة في قمة الخرطوم على خلفية نكسة 1967 عنوانا لتربص العرب العدوانيين باليهود لإلقائهم في البحر، والحال أنّ هذا المؤتمر لم يزد عن مهرجان خطابي انتهى إلى رفع شعار "لا صلح لا اعتراف لا تفاوض" دون أي إجراء عملي لتحرير الأراضي المغتصبة في حرب الأيام الستة. ولم يذكر  فيه مطلقا عزم المؤتمرين إبادة اليهود.

تعمل الدّعاية الصهيونية باستمرار على الترويج لإسرائيل باعتبارها وطنا قوميا لضحايا الاضطهاد والمحرقة والتطرّف. فتصوّرها حمامة سلام يحيط بها الأعداء من كلّ جانب، فلا يهددون سلميتها فحسب وإنما وجودها كذلك. وتختلق الأكاذيب فتجد من يصدّقها ويتبنّاها، كأن تجعل من مؤتمر اللاءات الثلاثة في قمة الخرطوم على خلفية نكسة 1967 عنوانا لتربص العرب العدوانيين باليهود لإلقائهم في البحر، والحال أنّ هذا المؤتمر لم يزد عن مهرجان خطابي انتهى إلى رفع شعار "لا صلح لا اعتراف لا تفاوض" دون أي إجراء عملي لتحرير الأراضي المغتصبة في حرب الأيام الستة. ولم يذكر فيه مطلقا عزم المؤتمرين إبادة اليهود.
وبمهارة من يهمين على المشهد الإعلامي والسياسي العالمي تجعل من ضمان أمنها "المهدّد" الحقّ في استعمال القوة، ضمن هجمات استباقية، لتدمير كل ما يمثل سببا من أسباب قوة أعدائها، وسط تواطؤ دولي. ولنا في عملية أوبرا في 7 يونيو 1981، خير مثال. فقد استهدفت بغارة جوية مفاجئة المفاعل النوويّ العراقيّ جنوب شرق بغداد وهو في طور الإنشاء، فدمرته بالكامل. وأُطلق على هذا السلوك اسم "عقيدة بيغن"، رئيس الوزراء عندئذ. فقد أوصى بأن يكون هذا السلوك نموذجًا لحماية الأمن القومي الإسرائيلي. وما هجومها الأخير على المنشئات النووية الإيرانية إلاّ تجسيد له.

 ولنا في قضمها للأراضي العربية وسعيها المستمر لتغيير الجغرافيا والديموغرافيا في آن واحد مثال آخر لمعنى الأمن الإسرائيلي الذي لا يتحقّق إلا بتدمير الآخر. فقد قامت باحتلال المنطقة العازلة في جبل الشيخ بين سوريا ولبنان واحتلت هضبة الجولان وأقامت جدار الفصل في الأراضي الفلسطينية. وفي هذه الحالات جميعا ظل المجتمع دولي يسلّم بالأمر الواقع في صمت، وإن تكلّم بارك ما تفعله وبحث لها عن المبرّرات.

ـ 3 ـ

ولا يمكننا أن نستحضر جرائم إسرائيل الكثيرة دون أن نلمس القرائن التي تؤكّد الشراكة الغربية الكاملة. فقد ظلّ إعلامه يلمّع واجهتها الخادعة. فيروّج لها باعتبارها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، مستندا إلى مقاييسه الخاصّة كاعتمادها لـ"لديمقراطية" التمثيلية في تشكيل الكنيست، واختيار أعضائه من خلال انتخابات عامة "حرة" وسيادة القانون الذي يحمي المواطنين ويضمن الحريات المدنية و النظام القضائي المستقل الذي يحمي الحقوق الدستورية (مع أنّ الدستور الموعود في وثيقة الاستقلال 1948 لم ير النور أبدا).

ولا يمكن أبدا أن يكون الغرب ضحية لمقاييسه الشكلانية السطحية أو للقوانين الإسرائيلية التي تحظر التمييز على أساس العرق والدين والمعتقدات السياسية. فالوقائع التي تسفه أحكامه تجري أمامه يوميا. منها ما يتعلّق بالعنصرية ضد المواطنين العرب أو ضد بعض الطوائف الإثنية خاصّة ضد يهود الفلاشا السود أو ضد اليهود المزراحيين (وهم المنحدرون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى أو ضد السفارديين (وهم المنحدرون من شبه الجزيرة الأيبيرية ثم استوطنوا شمال إفريقيا بعد سقوط غرناطة عام 1492). ومؤسساتها تجد على الأرض المبرّرات الكافية لتنفيذ سياسات عنصرية على مستوى التعليم، والسكن، والحياة الاجتماعية. فتبرر إنشاء المستوطنات وتقدّم الحوافز والتسهيلات لتشجيع هجرة الإسرائيليين إليها، مثلا بالتوسع الطبيعي لهذه التجمّعات السكنية وتمنع بالمقابل، مواطني القدس الشرقية العرب، من بناء المنازل وتهدم بلدياتها ما ينشئ منها باعتبارها إنشاءات غير القانونية.

ـ 4 ـ

لا نحتاج إلى كدّ الذهن لبرهنة على أنّ الصورة الحقيقية مختلفة تماما. وورقتنا هذه ترمي إلا إلى تملّي ما يقع خلفها من الظلال.

تحتفي وثيقة الاستقلال الإسرائيلية، بـ[ـالصحوة] في عصرنا الحاضر بعد تاريخ طويل من الاغتراب.

وليس ما يوصف بالصحوة غير جرائم العصابات الصهيونية، شأن عصابة هاشومير التي اختصت بحراسة الأراضي التي اشتراها اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تمهيدا للاستيلاء على كامل فلسطين. وظهرت للعلن بعد أن كانت ذات بعد سري  حاملة لاسم "بار جيورا"، رافعة شعار "بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار تقوم يهودا". أو شأن عصابات الهجاناه وإرجون وبيتار وشتيرن وبلماخ التي يقودها الضابط إسحاق رابين والمستعربين. فقد كانت هذه العصابات تؤازر الاحتلال البريطاني لقمع الثورة الفلسطينية في ثلاثينات القرن الماضي وتحمل السلاح بإذن منه "لأنها تمثّل الأقلية المستهدفة التي تحتاج إلى الدّفاع عن النّفس".

ثم تولّت أعمال القتل والتدمير وتهجير السكان من قراهم وزرع الألغام في أسواق حيفا والقدس قبل النكبة وبعدها. فنفّذت عمليات إرهابية عديدة وارتكبت المجازر وتدمّر البيوت ونهبت المكتبات الشخصية. ولم يسلم البريطانيون أنفسهم منها بعد أن أضحت تطالب بإنهاء الانتداب وتسلّم الدولة تنفيذا لوعد بلفور.  فاستهدفت قطارا في ضواحي القدس في 1946. وفجرت الجناح الذي يضم قيادة شرطتها في فندق الملك داوود. وفي العام 1947 فجرت نادي الضباط البريطاني في القدس واختطفت جنديين وعلقتهما مشنوقين في حقل بلاتانيا.

واليوم تواصل عصابات المستوطنين بتشكيلاتها المختلفة العبث في الأراضي الفلسطينية بحماية الجيش الإسرائيلي وتمثل رأس الحربة في قضم الأراضي العربية لفرض الأمر الواقع لاحقا. وغالبا ما يمثل ساسة إسرائيل أنفسهم عرّابيها وحماتها.

ـ 5 ـ

وليست دولة إسرائيل وحدها وريثة للصوصية وعمل العصابات. فالفكر الصهيوني الذي أسهم الحاخامات يهودا بيباس، وتسفي هيرش كاليشر، ويهودا في تطويره وقامت على أساسه دولة إسرائيل منغرس في بدوره في هذه اللصوصية والإجرام. فوثيقة استقلالها تختتم بالوعد بأن "تكون دولة إسرائيل مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية ولجمع الشتات.. مستهدية بنبوءات أنبياء إسرائيل" . وما اختيارها عدم الاستناد إلى دستور مكتوب وموثّق إلاّ لرغبتها في طمس خلفياتها الدينية التي ترى أنّ الربّ قد قطع لليهود دون سواهم عهده بأن يكونوا مباركين وسط الأمم وأن يمنحهم أرض كنعان وما جاورها. فتكون الأرض المقدسة ملكا أبديا تحت سلطتهم، في آخر الزمان مقابل عبادته والتزامهم بتعاليمه. ويسخر لهم العرب لبناء إسرائيل بأيديهم لفائدتهم. فقد جاء في سفر التكوين، فَأَجَابَ إِسْحَاقُ وَقَالَ لِعِيسُو: «إِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ سَيِّدًا لَكَ، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِ جَمِيعَ إِخْوَتِهِ عَبِيدًا، وَعَضَدْتُهُ بِحِنْطَةٍ وَخَمْرٍ. فَمَاذَا أَصْنَعُ إِلَيْكَ يَا ابْنِي؟»" (تك 27: 37 وتربط نبوءاتهم انتهاء الشتات ومقدم المسيح المنقذ بتشتيت العرب وتخريب أراضيهم. فمن نبوءات الحاخام أليعازر (منذ ألفي سنة) وبعل هاتوريم (ألف وخمس مائة عام) أن نسل إسماعيل سينتكس وبانتكاسته يسمو اليهود ويأتي المسيح الذي بشر به جل أنبياء إسرائيل.

ـ 6 ـ

لا دستور مكتوب يوثّق ما نقول رغم وعد وثيقة الاستقلال بأن يكون جاهزا [في موعد لا يتأخر عن مطلع تشرين الأول عام ‎1948]. ولكن سياسيي إسرائيل جميعا يعلنون ذلك في خطاباتهم ويضبطون أهدافهم الإستراتيجية من منطلقه وبناء عليه يتخذون قراراتهم. يكفينا أن نعرض وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للهجوم المدمر على قطاع غزة في أكتوبر 2023 بكونه تحقيقا لنبوءة إشعياء، واعدا بتحقيق المجد لشعبه وبالانتصار في الحرب على الفلسطينيين "أبناء الظلام" الذين يهاجمون الإسرائيليين "أبناء النور".. قائلاً: "سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سبباً في تكريم شعبكم، سنقاتل معاً وسنحقق النصر". فيتقمّص شخصية اليهودي المخلص الذي سيحكم الأرض ويحقق السلام والعدل كما جاء في قول إشعياء نبي مملكة يهوذا الجنوبية. ثم أعاد الموقف نفسه في منتصف أوت 2025 مؤكدا كونه في "مهمة تاريخية وروحية" وأنه "مرتبط بشدة برؤية إسرائيل الكبرى".

ـ 7 ـ

ما تلحّ عليه هذه الورقة أنّ إسرائيل قد تجاوزت كل معايير الدولة الدينية التي تجعل من الدين مرجعها الأساسي في تشريعاتها وسن قوانينها وفي إدارتها للشأن العام كما هو الأمر بالنسبة إلى إيران أو دولة الفاتيكان. وتتحوّل إلى طائفة روحانية مجرمة. ولأن إسرائيل تغلّف إجرامها بالقيم الروحانية اخترنا هذه الترجمة الحرة للعبارة الفرنسية (secte satanique) أو الإنجليزية (satanic sect) بدلا من (طائفة شيطانية). ونريد بها معنى الجماعة المنظمة من أفراد يتشاركون عقيدة مشتركة، فيكون لها غالبًا، قائد كاريزمي، يفرض سيطرته النفسية أو الجسدية على أعضائها، ويفقدهم استقلاليتهم وينتهي بهم إلى انحرافات دينية وأخلاقية وأضرار صحية واجتماعية.

اليوم تواصل عصابات المستوطنين بتشكيلاتها المختلفة العبث في الأراضي الفلسطينية بحماية الجيش الإسرائيلي وتمثل رأس الحربة في قضم الأراضي العربية لفرض الأمر الواقع لاحقا. وغالبا ما يمثل ساسة إسرائيل أنفسهم عرّابيها وحماتها.
وقادة هذه الطائفة في الحالة الإسرائيلية هم السياسية عامّة، بما في ذلك الطرف العلماني. فهم ينصبون أنفسهم قادة روحانيين يدافعون عن الخير ضد الأشرار. ويجعلون من النّاخبين والجنود أتباعا مخلصين يرتكبون أبشع الجرائم ضدّ المدنيين الفلسطينيين بضمير مطمئن إلى أنّ ما يقترفونه هو الخير المحض. وجميع هؤلاء الساسة يتنافسون في استغلال هذه الخلفيات الدينية المحرّفة التي تجعل من اليهود شعب الله المختار المبارك الذي سيبني دولته على أنقاض نسل إسماعيل ويصوب عداءه نحوهم باعتبارهم خدما وعبيدا لا أكثر. ويوظف مختلف الأمم من أجل تحقيق أغراضه. وجميعها توجه الوقائع قسرا لتتطابق مع أساطيرهم ومعتقداتهم.

ـ 8 ـ

كثيرا ما تستغل هذه الطوائف حرية التعبير والتنظّم التي تتمتع بها الجماعات في المجتمعات الغربية لبث أفكارها المدمّرة. ولكن حالما تمثّل تهديدا فعليا لحياة الأفراد أو لأمنهم يطبق عليها القانون وتلاحق عناصرها قضائيا. والأمثلة كثيرة جدا تجود بها نشرات الأخبار في كل حين وتجعلها الأفلام الوثائقية التي تقدّم مادة مثيرة على منصّات الإنترنت، موضوعا لها هذه الأيام. أما إسرائيل فتدوس على القانون الدّولي وترتكب جرائمها لا في الغابات أو الغرف المعزولة كما هو الحال بالنسبة إلى مختلف الطوائف الروحية وإنما على مرأى من العالم وبمباركة منه أحيانا. وذلك لأنها تحوّلت طائفة روحية عظمى يتجاوز كيانها جسد الدّولة ليشمل لويبات المال والإعلام والسياسة. فتتحكم في مصير قادة العالم وملاّك ثرواته. فيشمل إجرامها العالم العربي والإسلامي بأسره وما جرائمها في حمام الشط في تونس وفي لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران وقطر إلاّ دليل على ذلك.

في ظل ما نسمع من تصريحات هنا وهناك قد يتساءل البعض "هل انتبه السّاسة الغربيون إلى طبيعة هذه الطائفة الروحانية المجرمة"؟ لا نعتقد أبدا أن المسألة مسألة انتباه بقدر ما هي مسألة مصالح. فصورة إسرائيل الحقيقية لا تخفى على أحد. والسياسي الغربي سيناصر الحق الفلسطيني فقط عندما لا يكون مستقبله السياسي رهين ضغط اللوبيات الصهيونية. وهذا هو رهاننا الحقيقي. على أنّ تعميمنا هذا لا ينفي تمرّد الشرفاء منهم على المنظومة السياسية الدولية القائمة.