في خضمّ حرب مدمّرة قاربت العامين، ووسط انسداد الأفق السياسي
والعسكري أمام المشروع الصهيوني في كسر إرادة الفلسطينيين، يعود بنيامين نتنياهو
رافعًا شعار "إسرائيل الكبرى" في لحظة فارقة تكشف عن تحوّلات عميقة في
موازين القوى الإقليمية والدولية. فالفكرة ليست مجرّد استدعاء لأسطورة توراتية، بل
محاولة لإعادة صياغة الخرائط والكيانات على حساب منظومة "الشرق الأوسط"
التي رُسمت منذ قرن بحدّ السيف والنار. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: هل بات مشروع
"إسرائيل الكبرى" ممكنًا في ظلّ الظروف الراهنة، أم أنه مجرّد خطاب
تعبوي سرعان ما يتبدّد أمام صلابة الوقائع؟
هذا هو ما يسعى الوزير التونسي الأسبق أحمد قعلول لتسليط الضوء عليه
في هذا البحث الخاص لـ "عربي21".
مقدمات منهجية
مع استمرار حرب إسرائيل على الفلسطينيين واقترابها من دخولها سنتها
الثالثة بعد إتمام سنتها الثانية في أكتوبر المقبل، ومع عجز إسرائيل عن كسر إرادة
الشعب الفلسطيني ومقاومته، يخرج نتنياهو رافعا لشعار "إسرائيل الكبرى"
أو "الكاملة" أو "التاريخية".
وفي نفس الحين بدأت إسرائيل عمليا في انتهاج سياسة "الثور
الهائج" الذي يفترض أن ينسحب الجميع من طريقه فرارا. وهي لم تتأخر عن توسيع استهدافاتها لسوريا
واليمن وإيران وآخر جرائمها انتهاكها لسيادة
دولة قطر ومن ورائها منظومة دول الخليج
والدول العربية" وذلك من خلال عملية عسكرية تدعي أن المقصد منها اغتيال
القيادة السياسية لحركة حماس.
تشمل "إسرائيل الكبرى" التي يتحدث عنها نتنياهو في حدها
الأدنى كامل الأراضي الفلسطينية وفي حدها الذي يروج له: كامل فلسطين التاريخية،
ومعها لبنان، والأردن وأغلب الأراضي السورية، ونصف مساحة العراق، ونحو ثلث الأراضي
السعودية، وربع مساحة مصر، وجزء من الكويت.
خلاصة ما يتحدث عنه نتنياهو، هو تغيير حدود دول وأقطار تم رسمها
بالحديد والنار والدماء. وكانت تعبيرا عن موازين القوى التي أنتجتها الحروب الأوروبية
البينية وحرب أوروبا مع الشرق، وهي نفس موازين القوة التي سمحت بنشوء "الدولة
القومية الحديثة" واستقرار حدودها ومؤسساتها.
لا تخرج دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" في طبيعتها عن منتجات العلمانية الغربية. وتمثل الصهيونية إحدى الأمثلة التاريخية عن حالة الجنون وغياب العقل في التعامل مع الواقع كما أنها تمثل نموذجا لاستعمال الأساطير لتحريك الجمهور في اتجاه فرض واقع منشود وحلم منسجم مع الأساطير المختلقة.
تتناول هذه الورقة البحثية موضوع "إسرائيل الكبرى" من حيث
إمكانيته ضمن الظروف الجيوسياسية وتعرض العوائق البنيوية التي تعترض تحقيقه، كما تتناول
الفرضيات والشروط التي تسمح بتجسيده.
ينطلق البحث بتقديم رؤية الأنتروبولوجي البريطاني "أرنست
غلنر" لموضوع نشأة الدولة القومية من حيث مراحلها التاريخية وشروطها
البنيوية، وذلك لأجل تأطير "دولة إسرائيل" ضمن هذا الإطار النظري.
ويبين أن هناك صنفان من الدول القومية واحد يقوم على أسطورة الصفاء
العرقي والصهر الثقافي وثان يبني على الإرث الإمبراطوري السابق للدولة القومية.
ويخلص البحث لكون دولة إسرائيل أقرب للنوع الأول. وبناء على ذلك يتقدم البحث لفكرة
"إسرائيل الكبرى" بما هي مفهوم لدولة يمكن أن تقوم لكن في الإطار
الإمبراطوري الذي يقتضي مجموعة من
الشروط الثقافية والقيمية الضرورية للسماح بقيام
كيان دولة كبرى. ويبين أن هذه الشروط غير متوفرة في منظومة الصهيوينة ويشرح كيف
تعمل هذه المنظومة "العنصرية بالتعريف" على توفير شروط قهرية من أجل
تحقيق مقولة إسرائيل الكبرى وبناءا على ذلك يمر للتعاطي مع الإمكانات الجيوسياسية
من حيث مدى انفتاحها او انغلاقها على تحقيق مثل هذا المفهوم. ويبين ان تحقيق هذا
المفوم يحتاج لتفكيك منظومة "الشرق الأوسط" أكان ذلك من حيث بنية موازين
القوى الذي أنتجته أو من حيث تفكيك ثمار تلك الموازين والمصالح أي منظومة الدول
العربية. ويبين أن الاحتمال الوحيد الذي يسمح بقيام هذا المشروع مرتبط بمدى
استعداد الولايات المتحدة بالتضحية بشبكة علاقاتها الدولية من أجل توفير شريان
الحياة لهذا المشروع وكذلك غياب الإرادة المقاومة لعملية التفكيك هذه.
وأخيرا يعرض البحث لمسار وديناميات موازين القوى في العالم ويبين أن
إنفاذ مشروع "إسرائيل الكبرى"، حتى لو توفر له شرط النفير الأمريكي،
يواجه عوائق بنيوية تمنع إنفاذه وتجعل تكلفته عالية جدا بما يجعل السعي لإنفاذه
تسريع في تفكيك الوجود الإمبراطوري الأمريكي والغربي عموما مقابل تسريع صعود الشرق.
الدولة القومية.. مسار عقلنة الجنون
في كتابه NATIONALISM، وهو أحد كتابين صدرا للمؤلف بعد وفاته وقد
قام ابنه على تجميع مادتهما ثم نشرهما، يقوم كبير الأنثروبولوجين البريطانيين ذو
الأصول البولونية "أرنست غلنر" بتحليل تاريخي وأنثروبولوجي لتطور ونشوء
الدولة القومية خاصة في أوروبا.
بعد مسح بعض الأحداث التاريخية الخاصة بأوروبا، ينتهي
"غلنر" إلى القول بأن كل الدول التي وجدت في تاريخ أوروبا كانت وليدة
موازين القوى، لا نتيجة للطموحات القومية.
وفي تفسيره لنشوء الحس القومي يعتبر "غلنر" أن الثقافة
والحس القوميين يتأسسان في حالتين:
الأولى ـ هي ما يسميها بالنسيان، والنسيان هو نتاج عملية الإكراه
التي تمارسها المركزية البيروقراطية لتفرض عل العناصر المتعددة حالة من نسيان
لذواتها وفقدان الذاكرة وتعويضها بذاكرة متخيلة ومصطنعة، بحيث تنتهي حالة التعدد
الثقافي ويتم صهر الجميع في حالة ثقافية واحدة وذلك بحكم وسلطة مركزية واحدة تحدد
طبيعة ذاكرتها ومضمونها وهو مسار ينتهي إلى احتكار شرعية العنف والإكراه وهما
التعريفان الأساسيان لمفهوم الدولة الحديثة بالمعنى "الفيبري". ويضرب
"غلنر" على ذلك مثالا الدولة الفرنسية، التي احتاجت إلى أكثر من ألف سنة
لتكتمل فيها عملية النسيان.
الثانية ـ أما الحالة الثانية فتكون في حال وجود دولة جديدة وشابة
وطموحة إلى تأسيس دولتها القومية بسرعة، فإن الآلية المعمول بها هي عملية التطهير
العرقي والمذابح، كما وقع في البوسنة والهرسك.
الحقيقة أن مفهوم "الشرق الأوسط" جيء به من أجل فسح المجال لغرس كيان غريب على منظومة ديمغرافية وسياسية عاشت لقرون في إطار الثقافة العربية الإسلامية وأنتجت منظومة دولها المتعددة والمتعاقبة في إطار هذا الإطار الثقافي والحضاري وهو إطار يراعي الانتماء الثقافي كسلطة أعلى من الدولة بحيث أن مفهوم المواطنة ضمن هذا الإطار يمثل انتماء أوسع من الحدود السياسية للدولة بينما يتماها مع الحدود الثقافية والحضارية لهذه الجغرافيا الواسعة والمتعددة.
ومن جهة أخرى يعتبر "غلنر" أن الدولة هي وليدة عملية
التحديث والعلمنة التي عرفتها أوروبا ويعتبر أن "عملية التحديث" مرت
بمرحلة نشوء "العقلانية" التي جاءت نتيجة عملية "التجديد الديني
المسيحي" الذي عرفته أوروبا الغربية أساسا وهو المسار الذي انتهى إلى المرحلة
الثانية التي توجت بعملية "العلمنة" والتي بدورها أدت للمرحلة الثالثة
والتي تتمثل في نشوء "الرومنطيقية"، باعتبارها حركة أدبية، ثم لونا
فكريا يركز على الخصوصية العرقية، وعلى قيمة الشعور مقابل العقل. ويعتبر المؤلف أن
هذين المتغيرين، الخصوصية والشعور/العاطفة، هما المؤسسان للحس القومي، الذي يركّز
على الثقافة الخاصة وينبذ الغرباء.
خلاصتان
هناك خلاصتان أود الاحتفاظ بهما من تحليل "ارنست غلنر"
وهما أن الدولة القومية نتجت عن طبيعة موازين القوى، أي أنها كانت تعبيرا عن
مخرجات الحروب التي سادت في أوروبا. وبالتالي فإن حدودها رسمتها البندقية والمدفع
قبل أن يرسمها مسار تطور العقلانية والحداثة الغربية.
النقطة الأساسية الثانية في تحليل "غلنر" هو ما نبه إليه
بخصوص الدور المركزي "للرومنطيقية" وللحركة الأدبية التي أطرت ما عبر
عنه لاحقا بفكر وفلسفة الفكر القومي الأوروبي والغربي عموما. وهذا ما يسمح للخلوص
بالقول بأن المحرك الأساسي للشعوب وللتاريخ ليس عامل العقل أولا بل إن المحرك
الأساسي للشعوب ولقواه القاهرة يتمثل في المنظومة العاطفية الرومنطيقية التي على
أساسها تبنى منظومات عقلية ومعرفية تبرر وتدفع لتحرك البندقية والمدفع من أجل فرض
وضع جديد ورسم حدود تعرف الذات الجماعية للشعوب.
ومهما بدا من تناقض بين هذه المعطيات شرط العقلانية وشرط غياب العقل
فإنه من البين أن العقل كما يقول "هيغل" يأتي متأخرا للقيام بتبرير
وتنميط الواقع بما يسمح بقبول مخرجاته التي نتجت عن ما يمكن وصفه بحالة غياب العقل
أو الجنون.
لا أريد الإغراق في تعداد الحالات التي كان الجنون حاكما فيها ومحركا
للتاريخ والتي على إثرها جاء العقل مبررا ومرسخا لذلك الجنون أو مجرما له وحاكما
عليه بالجنون والإجرام بحسب نهايات مسار الأحداث والطرف الذي انتصر، بحيث لا يكون
الفرق بين ما يمدحه هذا العقل وينمط فعله إلا ما انتهى إليه مسار الحرب التي شنها
فانظر ما فعله "الإسكندر المقدوني"، و"يوليوس سيزر"
و"جنكيس خان" وكذلك "نابليون بونابارت" ثم "أدولف
هتلر" و"بينيتو موسوليني" وغيرهم من الشخصيات التي تتحدث عنها
الذاكرة الغربية وانظر أخيرا ما فعلته المنظومة الغربية في شعوب العالم وآخرها
وليس نهايتها اصطناع كيان في قلب العالم "اسمه دولة إسرائيل"
الصهيونية \ دولة إسرائيل:
لا تخرج دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" في طبيعتها عن
منتجات العلمانية الغربية. وتمثل الصهيونية إحدى الأمثلة التاريخية عن حالة الجنون
وغياب العقل في التعامل مع الواقع كما أنها تمثل نموذجا لاستعمال الأساطير لتحريك
الجمهور في اتجاه فرض واقع منشود وحلم منسجم مع الأساطير المختلقة.
والسؤال الذي نريد أن نتعاطى معه في هذا البحث متعلق بدعوة نتنياهو
لما سماه بإسرائيل الكبرى أو إسرائيل الكاملة، ما مدى امكانية تحقق هذه الأسطورة؟ وكيف
يمكن أن تتحقق؟ ولماذا جاءت الدعوة لها ضمن السياق الحالي للصراع الصهيوني العربي
الاسلامي؟
الدولة القومية والدولة الإمبراطورية \ نهاية الشرق الأوسط:
رغم استقرار منظومة الدولة القومية الحديثة في الغرب أساسا إلا أن
تطبيقاتها لم تنحصر في نمط واحد. إذ بينما انتجت بعض التجارب منظومات قامت على
أساس فرضية الأصل الواحد والعرق المتميز من مثل الدولة الفرنسية وألمانيا وإيطاليا
وعدد من الدول الاسكندنافية إلا أن عددا غير قليل من الدول ولعلها هي الأكثر عددا
والأكثر ديمغرافيا حافظت على التعدد الثقافي والعرقي من مثل المملكة المتحدة
والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والهند والصين إذ أن أغلب
هذه الدول لم تقم على أسطورة الأب المؤسسة والعرق المتميز.
ونحن إذا ما اعتبرنا الكيان المعبر عن نفسه بالدولة الإسرائيلية فإنه
ينتمي إلى صنف دول أسطورة الصفاء العرقي، وفي هذا الصدد تواجه هذه الدولة عدة
تناقضات داخلية بين مفهوم الدولة القومية التي تقوم على الصفاء العرقي والصهر
الثقافي وبين الحاجة للتوسع من أجل ضمان البقاء.
إن الفكرة الصهيونية إن أرادت أن تحافظ على حياتها فليس لها إلا أن
تقبل بالتواجد كدولة أقلية ضمن أغلبية مختلفة. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن
مفهوم "الشرق الأوسط" أو ما نادى به "بيريز" بالشرق الأوسط
الجديد. والحقيقة أن مفهوم "الشرق الأوسط" جيء به من أجل فسح المجال
لغرس كيان غريب على منظومة ديمغرافية وسياسية عاشت لقرون في إطار الثقافة العربية
الإسلامية وأنتجت منظومة دولها المتعددة والمتعاقبة في إطار هذا الإطار الثقافي
والحضاري وهو إطار يراعي الانتماء الثقافي كسلطة أعلى من الدولة بحيث أن مفهوم
المواطنة ضمن هذا الإطار يمثل انتماء أوسع من الحدود السياسية للدولة بينما يتماها
مع الحدود الثقافية والحضارية لهذه الجغرافيا الواسعة والمتعددة.
مقابل ذلك، يُستعمل مصطلح "الشرق الأوسط" باعتباره يشير
إلى أن مركز العالم هو الغرب، الذي يحدد جغرافية العالم بالنسبة إليه. وهو تعريف
ينزع عن المنطقة الصفة الحضارية والثقافية التي تعرف نفسها بها فهو بالتالي يجردها
من أسس اجتماعها السياسي والحضاري. وهذه العملية التي كان من المفروض أن تسمح
بإيجاد كيان غريب في مضمونه الثقافي عن المحيط العربي والإسلامي للمنطقة أي الكيان
الصهيوني ودولته كما كان من المفروض أن يدفع الدول الناشئة عن هذا المفهوم أن تصنع
لنفسها أساطيرها المؤسسة وتسعى لفرضها على شعوب المنطقة وهو الأمر الذي فشلت فيه.
كما أن شعار الشرق الأوسط هو الذي سمح "لبيريز" بطرح "دولة إسرائيل"
كدولة قائدة للمنطقة وضامنة لاستقرار أنظمتها ما اعترفت هذه الأنظمة بإسرائيل وهو
المسار الذي انتهى ليس فقط إلى الفشل، بل إلى تهرية منظومة الدول العربية وهو
المسار الذي أدى إلى اندلاع أول ثورة عربية في تونس ثم إلى بقية الثورات العربية ومنها لطوفان الأقصى
وسقوط نظام بشار في سوريا.
إذا كان مفهوم الشرق الأوسط يفسح المجال لبناء كيان الدولة الإسرائيلية
وإذا كان مفهوم الشرق الأوسط الجديد يقدم هذه الدولة كشرط لتواصل وبقاء أنظمة هذه
الدول ففي أي إطار يمكن تنزيل مفهوم إسرائيل الكبرى؟
يتناقض مفهوم إسرائيل الكبرى تناقضا جوهريا مع مفهوم الشرق
"الأوسط الجديد" كما يتناقض مع ما تدعو إليه العديد من الدول بما في ذلك
عدد من الدول العربية من حل الدولتين.
إن فكرة إسرائيل الكبرى تنقض كليا مفهوم "الشرق الأوسط".
فهي من جهة تنقل المركز الذي بالنسبة إليه تعرف المنطقة من "الغرب" إلى
قلب الشرق "دولة إسرائيل". كما أنها من جهة ثانية لا تقبل بفكرة وجود
دول ذات سيادة مستقلة عن المركز الإسرائيلي. وبتعبير آخر إن فكرة إسرائيل الكبرى
هي مفهوم ينقل إسرائيل من مجرد حلم دولة قومية لليهود إلى دولة مركز وثقل جيو
استراتيجي ذو امتدادات امبراطورية.
فهل تستطيع الصهيونية التحول عن طابعها العنصري والانتقال لمنظومة
الدول ذات البنية الإمبراطورية؟ وهل تستطيع أن تتحول إلى مركز لموازين القوى في
المنطقة مستقل عن المركز الغربي؟