تحل
الذكرى الثانية لطوفان الأقصى في لحظة
فارقة من التاريخ الإقليمي والدولي، حيث تتقاطع التحولات الجيوسياسية العميقة مع
اهتزاز منظومات الهيمنة التقليدية، وتراجع مقولات الردع المطلق والهيمنة الأحادية
أمام صعود فواعل جديدة تعيد صياغة المشهد العالمي من أسفل إلى أعلى.
لم يكن السابع من أكتوبر عملية عسكرية
محدودة في الزمان والمكان، بل مثّل انفجارا بنيويا في بنية الصراع العربي ـ الإسرائيلي،
وصدعا في جدار "الستاتيكو" الإقليمي الذي طال أمده، لقد دشّن
الطوفان
مرحلة ما بعد الجمود، حيث أُعيد تعريف مفاهيم القوة والشرعية والردع، وتحوّلت
المقاومة من حالة دفاعية إلى فاعل إستراتيجي قادر على إعادة توزيع موازين النفوذ،
وكشف حدود التفوق العسكري حين يواجهه وعيٌ مقاوم يمتلك المشروعية والإيمان والقدرة
على الصبر الاستراتيجي.
إن طوفان الأقصى لم يكن حدثا عابرا في
الجغرافيا
الفلسطينية، بل إشارة افتتاحية لتحوّل تاريخي طويل المدى، تتجاوز
تداعياته حدود الصراع إلى بنية النظام الإقليمي ذاته، مُعلنة بداية مرحلة جديدة
تُكتب فيها معادلات السياسة والأمن والشرعية بمداد جديد عنوانه: "ما بعد
الستاتيكو".
شكل الطوفان كسرا حادا في السردية الصهيونية التي قامت لعقود على فرضية "التفوق الأمني المطلق" و"الردع الدائم"، إذ تهاوت هذه السردية أمام مشهد اقتحام الحواجز والأسوار المحصّنة، ليتضح أن الردع لا يقوم على فائض القوة المادية، بل على توازن الإرادات وقدرة الوعي المنظم على تحويل الضعف إلى أداة اختراق.
ضمن هذا السياق المتحوّل، يبرز طوفان الأقصى
بوصفه نقطة انعطاف تأسيسية في تاريخ الصراع، إذ لم يكتف بإعادة خلط الأوراق
الميدانية، بل أعاد بناء إدراك جماعي جديد حول معنى القوة، وحدود
الاحتلال، وأفق
المقاومة، لقد أحدث الطوفان تصدعا في البنية الذهنية للنظام الإقليمي والدولي على
حد سواء، وفتح مسارا جديدا يعيد صياغة العلاقة بين الشعوب وقضاياها المركزية، وبين
الوعي الجمعي والممارسة السياسية.
من هنا، تكتسب قراءة هذا الحدث في بعده
التكويني والبنيوي أهمية مضاعفة؛ لأنه لا يُقاس بنتائجه العسكرية المباشرة، بل
بقدرته على تأسيس وعي جديد ومعادلات جديدة في فهم القوة والشرعية والسيادة، وهو ما
يجعل من "الطوفان" ليس رد فعل فقط، بل لحظة تأسيس لتاريخ جديد في بنية
الصراع ذاته.
أولا ـ الطوفان حدث تأسيسي
إن القيمة الإستراتيجية لطوفان الأقصى لا
تختزل في تفاصيله العملياتية أو في نتائجه الميدانية الآنية، بل تتجسد في دلالاته
البنيوية على مستوى إعادة تشكيل الصراع ذاته. لقد كان الطوفان لحظة كاشفة أعادت
ترتيب عناصر القوة والشرعية والمعنى في الوعي العربي والإسلامي، مُخرجا القضية
الفلسطينية من هوامش التجاهل السياسي إلى مركز الفعل الدولي، ومن سردية
"الاحتواء الإنساني" إلى منطق "التحرر الوجودي".
شكل الطوفان كسرا حادا في السردية الصهيونية
التي قامت لعقود على فرضية "التفوق الأمني المطلق" و"الردع
الدائم"، إذ تهاوت هذه السردية أمام مشهد اقتحام الحواجز والأسوار المحصّنة،
ليتضح أن الردع لا يقوم على فائض القوة المادية، بل على توازن الإرادات وقدرة
الوعي المنظم على تحويل الضعف إلى أداة اختراق.
بهذا المعنى، لم يكن الطوفان حدث عسكريا، بل
فعل تأسيسي في هندسة وعي جديد بالصراع، أعاد تعريف مفاهيم النصر والهزيمة، والقوة
والردع، والشرعية والمقاومة، فاتحا بذلك أفقا جديدا لتحوّل تاريخي طويل المدى
تتجاوز آثاره حدود الجغرافيا إلى عمق الإدراك الجمعي للأمة والعالم.
ثانيا ـ إعادة تعريف عناصر القوة
من أبرز الدروس البنيوية التي أفرزها طوفان
الأقصى أن مفهوم القوة لم يعد يُقاس بميزان العتاد أو التفوق التقني فحسب، بل بات
ظاهرة مركبة تتقاطع فيها الإرادة بالوعي، والشرعية بالقدرة على إدارة التناقضات
ضمن رؤية إستراتيجية متماسكة.
لقد كشفت التجربة أن القوة في ميدان الصراع
الحديث، لا تستمد معناها من امتلاك أدوات السيطرة، بل من القدرة على توجيهها ضمن
مشروع ذي بوصلة قيمية وتاريخية واضحة، فالمقاومة الفلسطينية أظهرت مستوى نوعيا من
الوعي الاستراتيجي المتكامل؛ حيث امتزج الإيمان العقائدي بالتخطيط العقلاني،
وتداخل البعد المحلي للميدان بالرمزي الكوني للقضية، فغدت المقاومة بذلك فاعلا
استراتيجيا متعدد المستويات، يجمع بين الفعل الميداني والتأثير المعنوي، وبين
تكتيك اللحظة ورؤية المدى البعيد.
في المقابل، أماطت ردود الفعل الإسرائيلية
اللثام عن أزمة عميقة في العقل الاستراتيجي الصهيوني، الذي بدا عاجزا عن استيعاب
فاعل غير تقليدي يتحرك خارج قواعد الاشتباك الكلاسيكية، ويستثمر محدودية موارده في
إنتاج تفوق نوعي يربك موازين الردع ويقوض مقولة "الحسم السريع".
لقد أعاد الطوفان تعريف القوة بوصفها معادلة
وعي وإرادة قبل أن تكون معادلة سلاح وتقنية، وبذلك دشن مرحلة جديدة من الصراع
تتقدم فيها القوة الرمزية والمعنوية على المنطق العسكري البحت، وتصبح فيها
المشروعية الأخلاقية رصيدا إستراتيجيا لا يقل أهمية عن التفوق التكنولوجي.
ثالثا ـ التحول في البيئة الإقليمية
والدولية
أحدث طوفان الأقصى هزّة ارتدادية غير مسبوقة
تجاوزت الجغرافيا الفلسطينية لتطال بنية الإقليم برمّته، إذ تهاوت معادلات
"السلام البارد" و"التطبيع بلا أثمان" أمام موجة وعي شعبي
غاضب ومتجدد، أعاد تعريف العلاقة مع القضية الفلسطينية بوصفها معيارا للشرعية
الأخلاقية والسياسية في المنطقة، ومعه انكشفت محدودية الرهانات الرسمية التي حاولت
اختزال القضية في مسار تفاوضي منزوع العمق، مقابل صعود موجة من الوعي الجماعي تؤكد
أن فلسطين ليست قضية حدود أو سيادة فقط، بل قضية هوية وكرامة ووجود.
على الصعيد الدولي، فجّر الطوفان أسئلة
أخلاقية وسياسية عميقة حول مفهوم العدالة الكونية وصدقية النظام الدولي؛ إذ كشفت
مواقف القوى الكبرى عن ازدواجية صارخة بين خطاب حقوق الإنسان وممارسة الإبادة
الجماعية، ما عرّى هشاشة المنظومة الليبرالية الغربية وأفقدها شرعيتها الأخلاقية.
لقد كشفت التجربة أن القوة في ميدان الصراع الحديث، لا تستمد معناها من امتلاك أدوات السيطرة، بل من القدرة على توجيهها ضمن مشروع ذي بوصلة قيمية وتاريخية واضحة، فالمقاومة الفلسطينية أظهرت مستوى نوعيا من الوعي الاستراتيجي المتكامل؛ حيث امتزج الإيمان العقائدي بالتخطيط العقلاني، وتداخل البعد المحلي للميدان بالرمزي الكوني للقضية، فغدت المقاومة بذلك فاعلا استراتيجيا متعدد المستويات، يجمع بين الفعل الميداني والتأثير المعنوي، وبين تكتيك اللحظة ورؤية المدى البعيد.
في المقابل، أسهمت صور الصمود والمقاومة في
بناء فضاء تضامني عالمي جديد، عابر للأيديولوجيات والحدود، يجمع بين الحركات
الاجتماعية والنقابية والطلابية والحقوقية، ويعيد تشكيل خرائط التعاطف الإنساني
والسياسي على أسس العدالة والحرية والمقاومة.
لقد تحول الطوفان بذلك إلى حدث كوني في
الوعي الجمعي العالمي، تجاوز حدوده الميدانية ليصبح عامل ضغط على النظام الدولي،
ومؤشرا على تغيّر ميزان الشرعية في العلاقات الدولية، حيث بدأت الشعوب تُعيد تعريف
معاييرها بعيدا عن وصاية القوة، نحو منظومة قيمية جديدة تُبنى من أسفل، من صبر
الشعوب وإصرارها على الحياة.
رابعا ـ الطوفان منظور استراتيجي جديد
يمكن القول إن طوفان الأقصى دشّن مرحلة
جديدة في تاريخ المنطقة، هي مرحلة ما بعد "الستاتيكو" الإقليمي، إذ لم
تعد المعادلات التي حكمت النظام العربي لعقود قادرة على احتواء التحولات
المتسارعة، ولا على تبرير حالة الجمود السياسي والأمني التي كرّست هشاشة السيادة
واستدامة الارتهان.
لقد أجبر الطوفان مختلف الفاعلين –من حركات
المقاومة إلى الأنظمة الإقليمية وصولا إلى القوى الدولية ـ على إعادة تقييم
مقارباتهم الإستراتيجية، سواء من حيث الأهداف أو الأدوات أو أنماط النفوذ،
فالمقاومة لم تعد فاعلا هامشيا أو "غير دولتي"، بل تحوّلت إلى فاعل
مركزي في معادلات الردع الإقليمي، يمتلك قدرة على فرض إيقاعه في توازنات القوة،
وعلى تشكيل بيئة أمنية جديدة تُحتسب في كل حساب إستراتيجي إقليمي أو دولي.
وفي المقابل، أدركت قوى الاحتلال أن تفوقها
العسكري لا يصنع أمنا دائما، وأن الصراع لم يعد يُحسم في الميدان وحده، بل في
العقول والسرديات وموازين الشرعية الدولية. وهنا برزت "الحرب على الوعي"
باعتبارها الجبهة الموازية للحرب المادية، حيث أصبحت السيطرة على المعنى أداة
مركزية في إدارة الصراع، فلم يعد النصر يُقاس بالمساحة الجغرافية التي تُحتل، بل
بالمجال الرمزي الذي يُنتزع، وبقدرة الخطاب المقاوم على كسب العقول والقلوب وإعادة
تعريف الشرعية.
لقد كشف الطوفان عن تحوّل نوعي في مفهوم
الردع ذاته: من ردع عسكري يقوم على الخوف، إلى ردع معنوي يقوم على الإيمان واليقين
بعدالة القضية، حيث بدأت تتبلور معالم نظام إقليمي جديد، أكثر دينامية، تُعاد فيه
صياغة الحدود بين الدولة والمجتمع، بين الشرعية الرسمية والشرعية الشعبية، وبين
القوة المادية والرمزية في آن واحد.
خامسا ـ الدرس البنيوي ـ من المقاومة إلى
المشروع
أكبر التحديات التي يطرحها الطوفان بعد مضي
عامين على حدوثه، تتمثل في الانتقال من منطق الفعل المقاوم اللحظي إلى منطق
المشروع الوطني الشامل، الذي يتجاوز اللحظة العسكرية أو الرمزية إلى بناء طويل
الأمد قادر على تحويل الانتصارات الميدانية إلى قوة مستدامة، لقد نجحت المقاومة في
إثبات قدرتها على المبادرة، والتحرك خارج الأطر التقليدية للصراع، وكسر الجمود
الاستراتيجي الذي طال النظام الإقليمي، لكنها اليوم بحاجة إلى أدوات موازية تعمل
على تأسيس بنية مؤسساتية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، تتكامل مع منجزها
العملياتي الميداني.
في هذا السياق، تتضح أهمية التفكير في
استراتيجية متكاملة تحوّل الإنجاز الوجداني والرمزي إلى مسار بنائي مستدام، يحصن
الوعي الجمعي ويؤسس لقوة ذاتية قادرة على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية،
ويتيح إدارة الصراع على جميع المستويات: العسكري، الرمزي، الاجتماعي، والسياسي.
فالمقاومة لم تعد مجرد فعل ميداني، بل أصبحت فاعلا استراتيجيا متكاملا يحتاج إلى
صرح مؤسساتي وثقافي يضمن استمرارها وتأثيرها في الأفق البعيد.
وعلى هذا الأساس، يتحوّل الرهان من مجرد ردع
عدواني إلى بناء مشروع وطني شامل يرتكز على ثلاثة عناصر رئيسية:
ـ المؤسساتية والسياسية: إنشاء هياكل
تنظيمية تدعم إدارة الموارد، اتخاذ القرار، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، بما
يضمن الاستدامة والشرعية الداخلية.
ـ الاقتصادية والاجتماعية: بناء قاعدة
اقتصادية قادرة على دعم المشروع الوطني، وتعزيز صمود المجتمع أمام الحصار والضغوط،
مع ربط التنمية بالمقاومة واستقلالية القرار.
ـ الثقافية والفكرية: توسيع دائرة الوعي
الجمعي عبر التعليم والثقافة والخطاب الإعلامي المقاوم، لضمان استمرار الأثر
الرمزي والسياسي، وخلق جيل قادر على الحفاظ على المشروع وتطويره.
إن نجاح هذه المرحلة لا يُقاس بالإنجاز
الميداني وحده، بل بقدرة المشروع الوطني الشامل على تأسيس قوة ذاتية متوازنة،
قادرة على الصمود في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، وتحويل الطوفان الرمزي إلى
مسار بنائي طويل الأمد يضمن للأمة تعزيز مكانتها وشرعيتها في التاريخ والسياسة.
سادسا ـ استحقاقات المستقبل
يواجه العالم العربي اليوم لحظة اختبار
استراتيجية كبرى، إذ لم تعد التحولات الرمزية والميدانية للطوفان حدثا عابرا، بل
أصبحت مؤشرا على تغيّر معمّم في بنية النظام الإقليمي والدولي، لكن السؤال المركزي
الذي يفرض نفسه هو: هل سينجح الفاعلون الإقليميون والشعوب، في تحويل زخم الطوفان
إلى رؤية استراتيجية شاملة، تعيد ترتيب أولوياتهم وتحدد مسارات تحركهم، أم سيترك
الحدث يتبدد في دوامة الانفعالات العابرة، ليظل ذكرى رمزية بلا أثر بنيوي؟
يواجه العالم العربي اليوم لحظة اختبار استراتيجية كبرى، إذ لم تعد التحولات الرمزية والميدانية للطوفان حدثا عابرا، بل أصبحت مؤشرا على تغيّر معمّم في بنية النظام الإقليمي والدولي، لكن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه هو: هل سينجح الفاعلون الإقليميون والشعوب، في تحويل زخم الطوفان إلى رؤية استراتيجية شاملة، تعيد ترتيب أولوياتهم وتحدد مسارات تحركهم، أم سيترك الحدث يتبدد في دوامة الانفعالات العابرة، ليظل ذكرى رمزية بلا أثر بنيوي؟
إن الإجابة على هذا السؤال ليست قضية ظرفية،
بل تحدد مسار المنطقة لعقود قادمة، فهي تمس قدرة الفاعلين على التكيف مع عالم
متعدد الأقطاب، حيث لم تعد القوى الكبرى وحدها قادرة على فرض معادلاتها فقط، بل
أصبحت الأطراف الصغرى تمتلك هامشا للتأثير إذا امتلكت الشرعية الأخلاقية والقدرة
على الصبر الاستراتيجي والتخطيط طويل المدى.
في هذا السياق، يقدم الطوفان درسا
استراتيجيا مزدوج البعد:
ـ درس القدرة
على المبادرة: أظهر الحدث أن فواعل غير تقليدية، رغم محدودية مواردها، قادرة على
إحداث شرخ في معادلات القوة التقليدية، وفرض حضورها في السياسة الإقليمية والدولية.
ـ درس استدامة
النفوذ: يتطلب النجاح في استثمار هذا الزخم تحويل الإنجاز الرمزي إلى مشروع بنائي
شامل، يجمع بين القوة العسكرية، الشرعية الشعبية، والقدرة على التأثير الرمزي
والدبلوماسي في آن واحد.
كما أن الطوفان يمثل دعوة لإعادة التفكير في
ديناميات الصراع الإقليمي، بحيث يصبح الصراع ليس معركة لحظية أو رد فعل تكتيكي، بل
مشروعا استراتيجيا طويل المدى قادر على إعادة تشكيل الموازين، وبناء قدرات الدولة
والمجتمع على الصمود والفعالية المستدامة.
إن اللحظة الراهنة تتطلب من الفاعلين
الإقليميين والشعوب تحديد أولوياتهم الوطنية والإقليمية بعقلانية واستراتيجية، مع
مراعاة التحولات الكبرى في النظام الدولي، بما في ذلك تعددية الأقطاب، تصاعد
النزاعات الاستراتيجية، وتراجع بعض مقولات السيطرة التقليدية.
فالنجاح في هذه المرحلة لن يُقاس فقط بقدرة
الأطراف على المبادرة العسكرية أو السياسية، بل بمدى قدرتهم على تحويل الحدث
الرمزي إلى إرث استراتيجي طويل الأمد، يضمن حماية الهوية، يعزيز الشرعية، ويصنع
قوة ذاتية مستدامة قادرة على مواجهة كل السيناريوهات المستقبلية.
خاتمة
في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، لا نستحضر
الماضي لنستعيده فحسب، بل لنقرأه باعتباره بوصلة للمستقبل، فالحدث لم يكن لحظة
انفعال عابرة، بل علامة فارقة في مسار تحوّل استراتيجي طويل المدى، أعادت من
خلالها الشعوب العربية والإسلامية تعريف مفهوم القوة، والوعي، والمقاومة، وأثبتت
أن الإرادة الواعية والمشروعية الأخلاقية قادرة على إعادة كتابة معادلات التاريخ.
الطوفان لم ينتهِ بعد، لأنه لم يكن فعلا
محدودا في الزمن، بل منعطفا في الوعي الجمعي ومسارا مفتوحا نحو نهضة مستقبلية،
تعيد للأمة ثقتها بذاتها، وتؤكد أن التاريخ لا يصنعه المتفرجون، بل أولئك الذين
يمتلكون الشجاعة على الصبر، والقدرة على الابتكار، والإيمان الراسخ بأن وعد الحق
سينتصر.
إن الدرس الأكبر يكمن في القدرة على تحويل
الزخم الرمزي والميداني إلى مشروع استراتيجي شامل، وهي التي تصنع الاستدامة في
الصراع وتؤسس لشرعية قوة ذاتية مستمرة. فالمقاومة اليوم ليست فعلا لحظيا، بل
استراتيجية متكاملة للبناء الوطني، الثقافي، الاجتماعي، والسياسي..، قادرة على
مواجهة كل التحديات المستقبلية، وإعادة ترتيب أولويات المنطقة بما يتوافق مع
العدالة، الشرعية، والإرادة الشعبية.
يظل الطوفان إشارة استرشادية للأجيال
القادمة، لتدرك أن أي مشروع حقيقي لا يقوم على اللحظة فقط، بل على الاستشراف،
التخطيط، والصبر الاستراتيجي، مع القدرة على تحويل الإنجاز الرمزي إلى إرث دائم،
يضمن للأمة حضورها، تأثيرها، ومكانتها في النظام الإقليمي والدولي.
*باحث في سلك
الدكتوراه تخصص علم الاجتماع السياسي ـ المغرب.