أفكَار

في نهاية الخطاب المقاصدي.. من أسئلة التأصيل إلى مؤشرات انسداد النسق

لقد شكل البحث عن جذور الفكرة المقاصدية ما قبل الشاطبي عند الريسوني سواء في جهود الأصوليين أو داخل المذهب المالكي منطلقا لموجة بحثية جديدة.. عربي21
لا يجادل أحد أن نظرية المقاصد وعمقها النظري والمنهجي برز في القرن الثامن الهجري (ت 790 ه) في الغرب الإسلامي مع الإمام أبو إسحاق الشاطبي، لكنها أبدا لم تصر رهانا أصوليا إلا مع الحركة الإصلاحية الحديثة التي كان اهتمامها بالشاطبي وموافقاته أكثر من أي اهتمام علمي طيلة القرون اللاحقة للقرن الثامن الهجري.

وإذا كان حظ الإمام الشاطبي أن تقوم الحركة المنارية (مدرسة المنار) بالعناية بكتبه، والتبشير بنظريته وتصييرها رهانا أصوليا غالبا، يتجاوز البراديغم الأصولي التقليدي المبني أساسا على مبحث الدلالات والقياس والعلة، فإن الحركة الإسلامية المعاصرة هي التي اضطلعت بتحويل نظرية الشاطبي إلى حالة فكرية ومنهجية عامة، بدءا بالجهد الذي قام به الدكتور أحمد الريسوني عبر بسط النظرية وأبعادها وأساساتها وطرق إثباتها وتقسيماتها للمصالح وأنواعها ورتبها والتعارض فيما بينها، وبينها وبين المفاسد وطرق الترجيح المقاصدي، بل  إن  الدكتور أحمد الريسوني قام بجهد نظري تأريخي مهم، للبحث عن جذور الفكر المقاصدي في جهود العلماء السابقين للإمام الشاطبي، ليضمن بذلك تـأصيل النظرية ويؤمن لها  الشرعية الأصولية والمذهبية والجغرافية (يضمن لها الامتداد في المشرق بعد أن  ساد الاعتقاد أن هذه النظرية أتت من الغرب الإسلامي من بيئة مالكية).

لكن هذا المسار التأصيلي التأريخي الذي تحول إلى ورش مفتوح وأحيانا مائع، بسبب سعي كثير من الدارسين للبحث عن النظر المقاصدي عند كل العلماء في كل الحقول المعرفية (التفسير، الحديث، الفقه، الأصول، علم الكلام، التصوف فلسلفة الأخلاق..) لم يمنع من طرح سؤال الحصيلة، وهل استطاعت نظرية المقاصد أن تغير البراديغم الفقهي، والتراتبية التي يعتمدها النظر الفقهي في استنباط الحكم الشرعي والتماس الأدلة والترجيح بينها.

ورغم الدعوات الكثيرة التي انطلقت من قاعدة تفعيل المقاصد، فإن الجهد الأكبر في التعاطي مع نظرية المقاصد انصرف إلى التبشير أكثر من التقعيد، وانصرف إلى التأصيل التاريخي أكثر من الاشتغال على تغيير الملكة الفقهية، واشتغل على إمكان تطوير نظرية المقاصد عند الشاطبي أكثر من الاشتغال على إمكان تطبيقها وتحويلها إلى آلة منهجية يشتغل بها الفقه الإسلامي على نحو يتجاوز فيه النمط الأصولي التقليدي.

ولئن مآل أي نظرية في فلسفة العلوم أن يعتمد براديغمها النظري، أو يطور أو يستوعب ويتجاوز، فإن فلسفة التاريخ، تاريخ العلوم تحديدا، توفر أحيانا فرصة لتأمل المسار الذي تسلكه كثير من النظريات، حتى تؤذن بنهايتها أو استنفادها لغرضها النظري والمنهجي.

هذا المقال، الذي نكتبه من وحي استقراء علمي دقيق لمسار تطور نظرية المقاصد يتوقف على عدد من التحولات في مسار التعاطي معها، تلك التحولات التي تتشابه كثيرا مع المسارات التي انتهت ببعض النظريات إلى إعلان بداية نهايتها. وهو بالمناسبة أشبه ما يكون باستلهام مبادئ ابن خلدون في علم العمران الإسلامي، يقرأ في التحولات، ويبحث في علاقتها بأزمة البراديغم، وما يمكن أن يرمز إليه، لكنه أبدا لا يحكم على نظرية المقاصد بنهاية المسار، ففي تاريخ العلوم والنظريات، كثيرا ما تكون أزمات البراديغم مؤشرا على صعوبات نموه، أو إيذانا بمخاض تبلور براديغم جديد يخرج من رحم النقاش حول أزمة البراديغم النظري السابق.

في البدء كان العرض والتأصيل.. الريسوني ونظرية المقاصد

ربما كانت اللحظة "المنارية" هي لحظة الاكتشاف لنظرية الشاطبي، وجاء بعدها عبد الله دراز (توفي1932م) ليكون حلقة الوصل بين هذه اللحظة، ولحظة عرض النظرية والتبشير بآفاقها الواعدة في تنهيج العقل الإسلامي، وفك عقده أمام تغول الحداثة الغربية وشغفها بالعقل والمصلحة.

لكن على الرغم من الجهد الكبير الذي قام به عبد الله دراز في تحقيق الموافقات وبسطها وبيان قسماتها ومضمونها، فإن التبشير بآفاقها الواعدة وقدرتها على أن تحل مكان العقل الأصولي التقليدي، إنما ارتبط بالجهد العلمي الذي قام به الدكتور أحمد الريسوني، إذ منذ نشر أطروحته سنة 1990 بالدار البيضاء، تلقفها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بعد ظهور ثلاث طبعات لها (الدار البيضاء، الرياض، بيروت) وقام بنشرها سنة 1995، فتحولت بوصلة هذا المعهد بشكل كلي، لجهة تلقف الإنتاجات العلمية التي تصب في هذا الموضوع، وتحقق نقلات علمية ومنهجية فيه.

على الرغم من الجهد الكبير الذي قام به عبد الله دراز في تحقيق الموافقات وبسطها وبيان قسماتها ومضمونها، فإن التبشير بآفاقها الواعدة وقدرتها على أن تحل مكان العقل الأصولي التقليدي، إنما ارتبط بالجهد العلمي الذي قام به الدكتور أحمد الريسوني
لقد انتبه الريسوني عند بسطه لنظرية الشاطبي، أن مهمته ليست فقط علمية، بل بالأحرى منهجية بعيدة، تتعلق بإعادة تنهيج العقل الإسلامي، أو إعادة تأصيل الأصول بلغة محمد عابد الجابري. ولذلك، مباشرة بعد تمهيد خفيف أتى فيه على تقريب معنى المقاصد ونظريتها، توجه في الباب الأول من كتابه إلى تفصيل المقاصد قبل الشاطبي، وكأنه بذلك يفتح رهان تأصيل المقاصد وضمان سبل تعميمها وتحويلها إلى حالة فكرية ومنهجية تمتد في كل جغرافية العالم العربي والإسلامي،  فابتدأ باستعراض فكرة المقاصد عند الأصوليين، مركزا في ذلك على  أبي منصور الماتريدي (المذهب الحنفي)وعلى أبي بكر الفقال الشاشي والجويني والغزالي والرازي والآمدي وابن السبكي والعز بن عبد السلام (المذهب الشافعي) أبو بكر الأبهري والباقلاني وابن الحاجب والقرافي (المذهب المالكي) وابن تيمية وابن القيم (المذهب الحنبلي) ، وذلك قبل أن يباشر عملية التأصيل من داخل جهود المالكية، وتقرير أصالة المقاصد في المذهب المالكي، لأنه يدرك أنه كان أمام تحديين اثنين، تحدي تعميم نظرية مغربية (نشأت في الغرب الإسلامي) على المشرق الإسلامي الذي يعتبر نفسه مهاد النظرية الأصولية  وأصل أصولها، وتحدي توطين نظرية المقاصد في بيئة مذهبية مالكية، معروفة بصرامة التزامها بالتقاليد الأصولية المذهبية.

وقد قام المعهد العالمي للفكر الإسلامي في نفس السنة التي نشر فيها كتاب الريسوني، أي سنة 1995، بنشر كتابين اثنين، كلاهما في الموضوع ذاته، ويتعلق الأمر، بكتاب "المقاصد العامة لشريعة الإسلامية" للدكتور يوسف العالم، وكتاب قرين لنظرية المقاصد عند الشاطبي، يتعرض لـ"نظرية الشاطبي عند الإمام الطاهر بن عاشور"، لمؤلفه الباحث الحسني الإسماعيلي، وهو جهد  مقدر في المواكبة البحثية،  إذا ما استقرأنا ما جاء بعده من زخم علمي كبير في الموضوع، واكبه  المعهد  وأضافه إلى سلسلة منشوراته ، ترتسم لنا صورة تحول نظرية المقاصد على الأقل من لدن الحركة الإصلاحية، أو الفاعل الأكاديمي فيها، إلى رهان أصولي منهجي جديد، أريد به إعادة صياغة المنهجية الإسلامية المعرفية، أو إعادة تنهيج العقل الأصولي الإسلامي.

وقد كان من ذكاء هذه الموجة البحثية الجديدة حول المقاصد أنها رغم انطلاقها الأساسي من الشاطبي، فإنها لم تجمد عليه، بل حاولت أن تستثير معه كل الإنتاجات والرموز العلمية التي تشترك في الهدف ذاته، فاستصحبت التراث الفقهي والأصولي ما قبل الشاطبي، ولم تغفل النظر لما بعده، فقامت بترصيد جهود كل من الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي ممن اهتموا أيضا بإعادة تشكيل العقل الإسلامي وفقا لنظرية المقاصد، وذلك، حتى تتمكن من صياغة تاريخ علمي، ممتد على طول مسار تشكل العقل الأصولي الإسلامي،  ومخترق لكل الجغرافيات الترابية والمذهبية، وغير متخاصم مع الحساسيات العقدية (الكلامية) والفقهية والأصولية، وذلك  في سياق ما يعرف ببراديغم "الوسطية" (كما أصل لها الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله) الذي يتميز بطابع الاستيعاب والتجاوز، أي عدم الدخول في أي خصومة معرفية مع الجهود السابقة واللاحقة، وفي الآن ذاته، تشغيل آلية الاستيعاب أداة للتجاوز وتحقيق التراكم.

مسارات التبشير بنظرية المقاصد

في مسار تطور أي نظرية علمية، هناك لحظة التأصيل، تتبعها ضرورة لحظة التبشير، التي تحمل ضمن أعبائها محاولة الانتقال من كشف البناء الداخلي للنظرية، إلى محاولة التبشير بإمكان تعميمها خارج حقلها المعرفي، وذلك دائما ضمن سقف التأصيل والكشف عن الإمكان، والإقناع بالقدرة على ملأ المكان بعد انكشاف أزمة البراديغم المؤطر للحقل الأصولي.

ينبغي أن ننتبه في هذا الصدد إلى أن الدكتور أحمد الريسوني انتبه في عملية التأصيل في نظرية المقاصد إلى مهمة التأصيل داخل الحقل الأصولي لا الفقهي، أي الحقل النظري لا العملي، لأن مهمة معاركة الأصوليين، سهلة بالنظر إلى أن القواعد النظرية، من غير ممارسة عملية،  تكون عارية، ولذلك، فإنه منذ البداية،  وسم العقل الفقهي الإسلامي، بكونه مقاصديا بامتياز، وأنه لا فائدة  من البحث عن جذور المقاصد  في الممارسة الفقهية، لأنها هي ترجمة عملية لتفعيل المقاصد، وإنما الجهد ينبغي أن ينصرف إلى تأصيل المقاصد والبحث عن جذورها لدى الأصوليين قبل الشاطبي، وفي مختلف المذاهب الفقهية، بل وحتى عند الذين صنفوا ضمن دوائر الاجتهاد المطلق المتجاوز لسقف المذاهب الفقهية (نموذج ابن تيمية وابن القيم).

لقد انتبه الريسوني عند بسطه لنظرية الشاطبي، أن مهمته ليست فقط علمية، بل بالأحرى منهجية بعيدة، تتعلق بإعادة تنهيج العقل الإسلامي، أو إعادة تأصيل الأصول بلغة محمد عابد الجابري.
لقد كان الريسوني يدرك أن الجهد الأساسي ينبغي أن ينصرف إلى البحث عن جذور النظرية المقاصدية في الفكر الأصولي، وأنه لا فائدة في بداية اكتشاف البراديغم الجديد ومحاولة تعميمه والإقناع بحجيته، أن يتم الدخول إلى الحقل العملي (الفقه)، الذي ما يزال يعتبر الحقل الأنشط داخل في الممارسة المنهجية للعقل الإسلامي، وأن مهمة البحث عن المقاصد عند الفقهاء من الأنسب أن تأتي لاحقا، ضمن موجة بحثية أخرى، تنفذ مهمة اختبار قدرة البراديغم الجديد على الامتداد داخل حقله المعرفي وخارجه.

لقد شكل البحث عن جذور الفكرة المقاصدية ما قبل الشاطبي عند الريسوني سواء في جهود الأصوليين أو داخل المذهب المالكي منطلقا لموجة بحثية جديدة، حاولت أن تتفرغ إلى تأصيل المقاصد بقدر من التفصيل عند العلماء الأصوليين من كل المذاهب، ثم تعدى الأمر، الحقل الأصولي، وانتقل إلى المجال الفقهي، ثم التفسير، ثم الحديث، ثم القواعد الفقهية ليطال كل الحقول المعرفية، بما في ذلك الأكثر حقل العقيدة وعلم الكلام، وحقل السلوك وعلم التصوف، وحقل الأخلاق والتربية، وما إلى ذلك من الحقول التي تنتمي إلى العلوم الاجتماعية الحديثة، وقد رأينا من اهتم أيضا بمقاصد العمران، استلهاما لنظرية ابن خلدون في العمران الإسلامي، ومحاولة للتأصيل للمقاصد من داخل علم الاجتماع أو فلسفة التاريخ على الاختلاف في نسبة مقدمة ابن خلدون لأحد العلمين الحديثين،  وٍرأينا باحثا من وزن سليم العوا يعنى بنقل المقاصد إلى حقل العلوم السياسية (تفعيل المقاصد في المجال السياسي).

وتسجل المكتبة الإسلامية، ما بين 1990، سنة النشر الأول لنظرية المقاصد عند الشاطبي (مسار التأصيل)، إلى سنة 2001، سنة نشر كتاب: "نحو تفعيل نظرية المقاصد (مسار انكشاف أزمة البراديغم) عددا لا يحصى من الأدبيات التي حاولت اختبار إمكان تعميم المقاصد إلى هذه الحقول المعرفية المختلفة، سواء منها التي تنتني إلى العلوم الشرعية الإسلامية أو التي تنتمي إلى العلوم الاجتماعية المعاصرة. وتتبعنا عددا هائلا من الكتب التي تتعرض للمقاصد عند عدد كبير من العلماء في تفاسيرهم  أو كتبهم الفقهية أو حتى في النوازل الفقهية.

نظرية المقاصد أزمة البراديغم

نؤرخ لهذا التحول المرتبط بأزمة البراديغم بسنة 2001، ونربطه بنشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي لكتاب "نحو تفعيل مقاصد الشريعة" للدكتور جمال الدين عطية، لسببين اثنين، أولهما أن المؤلف من القلائل الذين اشتغلوا بالبيبلوغرافيا، وقد جمع ثبتا مهما واستقصائيا للدراسات التي سبقت جهده في التأليف في المقاصد، والثاني، لأنه جمع في هذا الكتاب تقريبا كل الإشكالات المرتبطة بأزمات براديغم "مقاصد الشريعة". ونحن هنا حين نستعمل مفهوم أزمة "البراديغم" لا نعني به ابتداء انسداد النسق، وإنما يتسع المعنى أيضا لأزمة النمو، والإشكالات والصعوبات المرتبطة بتطور مفهوم المقاصد ومسار التراكم فيه.

لقد توفق المؤلف في أن يجمع عددا من الإشكالات المرتبطة بنمو وتطور براديغم مقاصد الشريعة، فتحدث عن التصور الجديد للمقاصد، ونقد حصر مقاصد الشريعة وتبنى إمكان تعديتها، ونقد المراتب الثلاثة (الضرورية والحجية والتحسينية) وتبنى أيضا إمكان تعديتها إلى خمس، ودعا إلى  ضبط معايير اعتبار هذه المصلحة ضرورية أم حاجية أو تحسينية،  وتناول قضية نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان الأشخاص والأحوال،  وأنواع المقاصد ومراتبها، وأقسام المقاصد،  والتحول من الكليات الضرورية إلى المجالات الأربع التي تخص  مستوى الفرد ومستوى الأسرة، ومستوى الأمة ومستوى الإنسانية، وتقييم مآلات استعمال المقاصد،  والصورة الحالية  وللعقلية المقاصدية الفردية والجماعية في المجال لفكري والعقلية المقاصدية للأمة في المجال السياسي.

ما من شك أن عددا من هذه الإشكالات نوقشت قبل ظهور هذا المؤلف بسنوات، ومنها قضية حصر المقاصد، وإمكان إدراج مقاصد أخرى مثل الحرية والعدل والمساواة، وغيرها (الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي على سبيل المثال)، ومنها أيضا قضية ضوابط ومعايير تصنيف المصالح ضمن الضروريات والحاجيات والتحسينيات، لكن تبقى ميزة هذا الكتاب أنه جمع تقريبا أغلب الإشكالات التي واجهت العقل المقاصدي، ومنها على وجه الخصوص تفعيل المقاصد، في ظل هيمنة شبه كاملة للعقل الأصولي، الذي ما يزال يخضع لثنائية الدلالات (استثمار الحكم من النظر اللغوي في النص الشرعي) والقياس (استثمار الحكم من عملية إلحاق فرع بأصل لعة جامعة).

ولعل إعادة الحديث عن تصنيف علم المقاصد ضمن العلوم، وهل هو علم مستقل أم مجرد ملحق بعلم الأصول، يبرز قلق السؤال حول أفق هذا البراديغم الذي أريد له أن ينتج حالة فكرية ومنهحية وأصولية جديدة تتجاوز العقل الأصولي التقليدي، ليتحول بعد ذلك السؤال حول رتبته وموقعه، وهل يتوفر على الإمكان لضمان استقلاليته، أم أن الجهد ينبغي أن ينصرف إلى تمكينه من موقع داخل علم أصول الفقه، بما يعني تراجع رهاناته كبديل أصولي أنتج أصلا، أو روهن عليه، لتجاوز العقل الأصولي التقليدي وإصلاح أعطابه.

 لقد نجح الدكتور الحسان شاهد في كتابه "الخطاب المقاصدي" أن يتتبع مظاهر تطور الرهان على هذا "البراديغم"، وتوقف بشكل نقدي على كثير من أزمات تطوره، لكن، في المحصلة، لا شيء في مسار تطور النظريات والعلوم، يفيد بتجاوز البراديغم غير الدعوة لتجاوزه أو بروز موجة بحثية جديدة، تقر بقصور إمكان هذا البراديغم وقدرته المنهجية، والحاجة لتعديه، ولو بالاقتيات على بعض لوازمه، ولا شيء يحكم على هذا القصور سوى تحول هذا البراديغم نفسه إلى معطى نظري، مفتقر إلى القدرة الاشتغالية العملية، وذلك ما يرمز  له مفهوم "التفعيل" في كتاب جمال الدين عطية، فحديثه المستمر عن العقلية المقاصدية، يوحي بوجود أزمة نقل البراديغم إلى حالة فكرية ومنهجية عامة لدى الفرد والجماعة، وإذا كان الباحث قد صاغ كتابه بمنطق الاتجاه "نحو" بما يوحي بالرغبة في تطوير المفهوم، لا بالتعبير عن أزمته، فإن بعض الجهود اللاحقة ممن كان يبشر ببراديغم المقاصد، نقلت صورة مقابلة، ترمز في بعض المعاني إلى استنفاد الغرض من  المقاصد، والحاجة إلى تطوير تجاوزي لها،  يقرب كثيرا من المنطق الذي يحكم العلوم الاجتماعية منه إلى المنطق الذي يحكم العلوم الشرعية، ومنها على وجه الخصوص علم أصول الفقه، والمجال الحيوي الذي يؤصل القواعد لأجله، أي الفقه.

طه جابر العلواني.. من مقاصد الشريعة إلى المقاصد العليا الحاكمة

من المفارقات التي يمكن تسجيلها بهذا الخصوص أن الدكتور طه جابر العلواني الذي شغل مهمة مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي لسنوات طويلة، وتولى  إدارة خطوط النشر فيه، أشرف بنفسه على نشر الموجة البحثية الجديدة حول المقاصد، وحرص على التقديم لها، لكنه، وابتداء من سنة 2001، سنة نشره كتابه "مقاصد السريعة"، وهي السنة نفسها التي نشر فيها كتاب "نحو تفعيل المقاصد"،  انتهى به المطاف إلى مراجعة عميقة غيرت مسار فكره وعقله بشكل كلي، فلم نر في كتابه شيئا مما درج الدارسون على النظر فيه ضمن مقاصد الشريعة، باستثناء ما جاء في المقدمة من الإشارة إلى عناية العلماء قديما وحديثا بالمقاصد، فقد لوحظ على كتابه، ميل شديد إلى  التأصيل لنظرته الجديدة في حاكمية القرآن، ومراجعة التراث الإسلامي في ضوئها، وتحدث عن فقه الأولويات، وانتهى في آخر فصل من الكتاب، لتفصيل المراجعة بيت القصيد، والتي تتعلق بالتحول من مقاصد الشريعة إلى ما أسماه "المقاصد العليا الحاكمة للشريعة"، فقدم جملة من الاعتبارات التي يبرر بها انتقاله، ليس فقط من مرحلة نقد العقلية الأصولية التراثية، بل أيضا نقد العقلية المقاصدية كما أصل لها الإمام الشاطبي والمبشرون بها، ودعا إلى التحرر من قيدهما، والانعطاف نحو مفهوم المقاصد العليا الحاكمة، والتي حصرها في ثلاثة (التوحيد والتزكية والعمران)، دون أن يلزم نفسه، بما التزم به المنهج المقاصدي بالجواب عن كيفية توصله إلى هذا الاستقراء الثلاثي، وما طرق إثبات ذلك، فالظاهر أن انعطافته نحو العلوم الاجتماعية، وضيقه بالنظر التراثي في التعامل مع النص، خاصة المشترطات الأصولية، التي تلغي- حسب اعتباره القراءة الثانية (يؤمن بضرورة الجمع بين القراءتين القراءة الشرعية والقراءة الكونية)، هو الذي دفعه نحو البحث عن إطار عام من المقاصد المحصورة، التي توفر الرؤية الكلية أكثر مما تغطي مساحات تفصيلية تضيق عليه النظر، وفي الآن ذاته، تسمح  بمساحة أكبر  للعلوم الاجتماعية وما يسميه العلواني بـ"علوم العمران" استلهاما لرؤية ابن خلدون في المقدمة.

من المفارقات التي يمكن تسجيلها بهذا الخصوص أن الدكتور طه جابر العلواني الذي شغل مهمة مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي لسنوات طويلة، وتولى إدارة خطوط النشر فيه، أشرف بنفسه على نشر الموجة البحثية الجديدة حول المقاصد، وحرص على التقديم لها،
أتفهم أنه في مرحلة من مراحل حياته، لم يكن العلواني يكتب كتبه بالشاكلة المنهجية التي تعود عليها في السابق، فكانت كتبه المتأخرة أشبه ما تكون بمرويات تم نقلها في صورة كتاب، أو مجموعة دراسات ومقالات تم تجميعها في كتاب واحد، ومن المفيد الإشارة هنا، أن ما كتبه عن المقاصد العليا الحاكمة، أعاد نشره في مجلة إسلامية المعرفة سنة 2007، وكان جوهر المقال، منصبا حول نقد التعليل، وكأنه أراد أن يحيل إلى أزمة البراديغم المرتبط بالمنهجية الأصولية التقليدية، وأيضا أزمة البراديغم المرتبط بمقاصد الشريعة، فإذا كانت أزمة البراديغم الأول هو رهن النظر الاجتهادي برمته بمبحث الدلالات (استثمار النص من اللغة) أو التعليل (استثمار الحكم من النظر في العلة المشتركة بين الأصل المنصوص عليه والفرع الخالي من النص الشرعي)، فإن أزمة  براديغم  مقاصد الشريعة، أنه لم يستطع أن يجعل من التعليل تعليلا مقاصديا متجاوزا لمشترطات المنهجية الأصلية في  مراعاة شروط العلة وشروط إلحاقها وما يرتبط بذلك من مسالك العلة وتحقيق المناط الاجتهادي.

وبالجملة، يمكن القول بأنه قد برزت على الأقل ثلاث مؤشرات لانسداد النسق المقاصدي، أولها، أن الكتابات التي انطلقت من هم تطوير النموذج بجميع متعلقاته، لم تأت بطائل، ولم تثمر تصورا غالبا داخل نخبة العلماء.

والثاني، أن  نظرية المقاصد لم تعرف موجة بحثية جديدة إضافة إلى جهد التأصيل والبسط والاستعراض والتبشير ومحاولة تعميم دراسة النموذج على الحقول المعرفية المختلفة.

والثالث، هو بروز أطاريح نظرية، تؤصل لفكرة تجاوز "البراديغم" المقاصدي، أو تبرر التحرر من منطلقاته وقواعده التفصيلية،  أو تنتقد عدم قدرته على تجاوز التعليل الفقهي على الطريقة التراثية التقليدية، وعدم قدرته أيضا على تحويل العقلية المقاصدية إلى حالة فكرية ومنهجية عامة في الأمة، أو تدعو إلى مقاصد عالية لا تُشترط فيها تقعيدات تفصيلية تضيق من  القدرة على الإفادة من العلوم الاجتماعية وتوطينها في الفكر الإسلامي باسم "علوم العمران" أو باسم "إعادة بناء علوم الأمة"، أو باسم "الجمع بين القراءتين"، كما هي اصطلاحات الدكتور طه جابر العلواني.

خاتمة:

في خاتمة هذا المقال، نحتاج أن نقرر احترازا نظريا، يدفع بمخاطر التعميم وجعل كتابات العلواني تعبيرا عن اتجاه برز داخل الأمة، والحال، أن الأمر لا يتوقف على ميل العلواني لفكرة المقاصد العليا الحاكمة، بل هناك ما هو  أكثر منه جرأة في التحرر من المنهجية الأصولية التقليدية، ممن يدفع بحجة القيم الحاكمة، أو القيم المقاصدية أو منظومة قيم القرآن الكريم الحاكمة وغيرها من الاصطلاحات الجديدة التي برزت ودفع أصحابها بالحجة التي تقول بمراجعة النظر الأصولي بمشترطاته وتراتبيته ضمن سقفها الحاكم، كما نحتاج أن نقرر مرة أخرى، أن الحديث عن أزمة النموذج، أو حتى عن انسداد النسق، لا يعني بالمطلق نهايته، وإنما  قد يعني صعوبات ما قبل تشكل مفهوم جديد، أو ظهور موجة بحثية جديدة، تجيب عن معضلات هذا البراديغم، أو تؤصل لبراديغم جديد يستوعبه ويتجاوزه في الآن ذاته.