يشهد
المغرب منذ 27 أيلول / سبتمبر المنصرم،
بروز أشكال جديدة من الفعل الاحتجاجي تقودها فئة شبابية تعرف بـ"جيل Z"، أي الجيل
الذي ولد في ظل الثورة الرقمية، ونشأ على قيم التواصل الفوري عبر شبكات التواصل
الاجتماعي وتأثر بالعديد من القيم التي أفرزتها ثقافة التواصل الرقمي.
ضمن هذا السياق، برزت صفحة حركة جيل 212 " GenZ212" على منصة “Discord” كمجموعة
شبابية غير مؤطرة حزبيا أو جمعويا، ولا تنطلق من إيديولوجية معينة، تعبر عن وعي
اجتماعي وسياسي جديد يتجاوز القنوات التقليدية للتأطير السياسي.
هذا المقال هو محاولة لتحليل الخطاب من
منظور منهجي يزاوج بين تحليل اللغة والسياق السياسي والاجتماعي الراهن، والمقصود
خطاب الحركة الذي أنتجته من خلال بياناتها المنشورة على صفحتها الرسمية والتي
استقطبت إلى حدود كتابة هذه السطور أزيد من 195 ألف منخرط، في ظاهرة ملفتة للتعبير
عن احتجاج اجتماعي مختلف ينطلق من الفضاء العام الافتراضي حيث يعمل على تحديد
هويته وإنضاج مطالبه، قبل أن يباشر تنفيذ استراتيجيته الاحتجاجية في الفضاء العام
الفعلي من خلال التظاهر في الأماكن العمومية.
نحاول من خلال تحليل الخطاب الرسمي لحركة GenZ212 أن نرصد كيف
تحول جيل Z من فاعل رقمي
إلى فاعل اجتماعي "شبه منظم"، وهل نحن بصدد تحولات نوعية في علاقة
الشباب بالسياسة التي اختار أن يمارسها بشكل مختلف..
السياق السياسي والاجتماعي لظهور الخطاب
الاحتجاجي للحركة..
جاءت حركة GenZ212 في سياق يتسم بارتفاع حدة الأزمات
الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب، من قبيل تضخم الأسعار، غلاء المعيشة، بطالة
الشباب، تراجع الثقة في المؤسسات، خوصصة الخدمات الصحية وضعف الخدمات العمومية
ولاسيما في قطاع الصحة التي عرفت فاجعة وفاة ثمانية نساء حوامل في مستشفى أكادير
(المعقل الانتخابي المفترض لرئيس الحكومة حيث يترأس مجلسها الجماعي)، إقصاء ملايين
المواطنين والمواطنات من التغطية الصحية الإجبارية، عجز الحكومة عن الوفاء
بالتزاماتها في مجال الشغل وارتفاع معدلات البطالة، تراكم الاتهامات الموجهة لرئيس
الحكومة بتضارب المصالح واستغلال منصبه العمومي للاستفادة من صفقات استثمارية
عمومية، واعتماد تشريعات وامتيازات مالية وضريبية على مقاس هذه المصالح الريعية؛
وتجميد ورش محاربة الفساد من خلال سحب مشروع القانون الجنائي الذي يجرم الإثراء
غير المشروع، وتعطيل القوانين واللجان الحكومية ذات الصلة، وتفشي ظاهرة الزبونية
والمحسوبية والحزبية في التوظيفات والمباريات والتعيينات في المناصب العليا، وعدم
مراعاة معايير الكفاءة والشفافية وتكافؤ الفرص..
اليوم يعيد جيل z تعريف السياسة من خارج مؤسساتها المعروفة، ويفرض على الفاعل السياسي التعاطي مع الصحة والتعليم والشغل كأولويات لا تقبل التأجيل، وهو ما لا يمكن الثقة في إمكانية تحقيقه إلا بإقالة حكومة السيد عزيز أخنوش وإسقاطها، واستئناف مسار الانتقال الديموقراطي بما يسمح بإفراز مؤسسات منتخبة قوية تتجاوب مع انتظارات المواطنين، وتجنب المؤسسة الملكية موقع الاحتكاك المباشر مع الشعب.
كل هذه الأسباب كانت كافية لاندلاع مجموعة
من
الاحتجاجات المناطقية من جهة والفئوية من جهة أخرى، فقد خرجت العديد من
المظاهرات في مناطق مهمشة مثل احتجاجات آيت بوكماز وأزيلال وتاونانت والعرائش
وغيرها، بالإضافة إلى إضرابات طويلة الأمد لرجال التعليم لمدة تزيد عن أربعة أشهر
وإضراب الطلبة الأطباء لمدة تسعة أشهر كاملة.
هذه الاحتجاجات كانت سابقة عن احتجاجات جيل Z، ولذلك
فخصوصيتها لا تكمن في المطالب في حد ذاتها، ولكن في الطريقة التي تعبر بها.
فالحركة لم تتشكل في التنظيمات السياسية أو عبر النقابات أو في الشارع، بل في فضاء
افتراضي هو Discord، المنصة
التي يستخدمها عادة محبو الألعاب الإلكترونية الحديثة... هذا الاختيار يكشف عن
تحول عميق في مجال الفعل السياسي، حيث يتحول الفضاء الرقمي إلى مجال عمومي بديل،
يدار فيه النقاش السياسي وتجري فيه حملات التعبئة، جيل Z لا يحتج وفق النموذج الكلاسيكي الذي يقوم على
الإيديولوجيا والتنظيم، بل وفق نموذج "المواطنة الرقمية" التي تتأسس على
المشاركة الأفقية والشفافية وسرعة التفاعل وتقاسم المعلومات.
إنه جيل لا ينتظر تمثيلا من أحد ولا يثق في
الوسائط الحزبية والتمثيلية المنتخبة، بل يمارس تمثيله الذاتي عبر أدواته الرقمية،
وهو ما يمنحه استقلالية رمزية وقوة أخلاقية في الخطاب العام.
ملامح الخطاب الاحتجاجي لحركة GenZ21..
من خلال المراجعة المتأنية للبيانات
المنشورة على Discord، يظهر
الخطاب في ثلاث مستويات متداخلة:
المستوى الأول هو خطاب الاحتجاج من داخل
المشروعية، فمنذ البيان الأول يعلن شباب Z بعبارات حاسمة، ما يلي:
"تعلن حركة GenZ212 أنها تبرئ
نفسها من أي مواقف ضد الملكية"، وهو ما يعكس وعيا استباقيا بالمخاطر السياسية
الممكنة، وسعيا لتثبيت شرعية الحركة في المجال العمومي، تحت سقف الثوابت الدستورية
المعروفة. ويبدو أن المقصود من ذلك هو تحصين الذات الجماعية من الاختراق، عبر تبني
مفاهيم مثل "الذباب الإلكتروني" و"التشويش"، وهي مفردات تنتمي
إلى قاموس الصراع الرقمي. وهو ما يعني أنه رغم الطابع الرقمي لهذه الحركة
الاحتجاجية فهي تضع نفسها ضمن حدود الشرعية القانونية، مؤكدة أنها حركة سلمية ذات
أهداف اجتماعية محضة. وتأكيدا لهذا النهج قررت الحركة تعليق احتجاجاتها يوم الجمعة
10 أكتوبر الذي يصادف موعد الخطاب الافتتاحي للملك للدورة العادية للبرلمان، مع
تجديد التأكيد على تشبتها بمطالبها.
المستوى الثاني هو خطاب التنظيم والانضباط،
بحيث يتضمن الخطاب تعليمات واضحة: "نذكركم بالالتزام بالقانون… التعبير بشكل
حضاري وسلمي…"، هذا المستوى يكشف عن وعي مدني متقدم يربط الاحتجاج بالمسؤولية
والمواطنة، ويبذل مجهودا واضحا من أجل تشكيل صورة الفاعل الاحتجاجي المنضبط الذي
يسعى إلى اكتساب الرأي العام وتجنب صورة الاحتجاج الفوضوي.
أما المستوى الثالث فهو خطاب المطالب
المقرون بخطاب التعبئة، وذلك من خلال تكثيف هذه المطالب في شعارات مختصرة ومعبرة،
من قبيل: " التيران ها هو والسبيطار فينا هو" وهي جملة دارجة تعني:
"ملعب الكرة موجود لكن أين المستشفى؟"، وهو ربط ذكي بين المفارقة التي
يثيرها حجم الاستثمار الكبير في بناء ملاعب لكرة القدم بمواصفات عالية في الوقت
الذي نسجل فيه خصاصا كبيرا في الاحتياجات الاجتماعية الأساسية ومنها الخدمات
الصحية العمومية.
عموم شعارات الحركة تمزج بين اللغة العربية
الفصحى والدارجة، بين الجدية والسخرية، في جمل قصيرة لكنها قادرة على بعث رسائل
سياسية قوية تتجاوز البلاغة السياسية التقليدية، وقد بدأت تتطور تدريجيا من مطالب
اجتماعية محضة إلى مطالب سياسية وشعارات نضالية تستلهم الشعار المركزي لاحتجاجات
شباب 20 فبراير مع الربيع العربي "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية"
في بنية الوعي الاجتماعي للحركة.. قراءة في
المطالب المعلنة..
من خلال البيانات اللاحقة، سينتقل خطاب
الحركة من العمومية إلى تفصيل المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وهو تطور نوعي
ملحوظ في خطاب هذه الفئة الذي اتهمه الكثيرون في البداية بالسطحية واللاعقلانية..
في البداية كان التركيز على التعليم، الصحة،
العيش الكريم، والسكن، وقد جاءت المطالب مفصلة ومعززة ببعض الأرقام: "رفع
مؤشر الأطباء لكل 1000 نسمة"، "رقمنة المواعيد الطبية"،
"تحديث المناهج"، "اعتماد الإنجليزية بدل الفرنسية" (هذا مطلب
ثوري في السياق المغربي المحكوم بعقلية لازالت تمجد اللغة الفرنسية ولا تستطيع
التخلص منها). هذه المفردات تعبر عن وعي معرفي وبرنامجي يزاوج بين الطابع المطلبي
ونقد السياسات العمومية، في لغة شبابية بسيطة ولكنها في نفس الوقت لغة إصلاحية
تعبر على إدراك معتبر لأسباب التهميش. أما على المستوى الاقتصادي، فيرتفع منسوب
الوعي السياسي، ليطالب ب: "تخفيض الأسعار، تحسين الأجور، محاربة الاحتكار،
تشديد الرقابة على الشركات الكبرى، مقاطعة شركات ومنتوجات عزيز أخنوش".
اللافت هنا هو التحول من الاحتجاج الاجتماعي إلى المقاومة الاقتصادية، حيث يستبدل الخطاب
المطلبي المباشر بأداة "المقاطعة الاقتصادية:" كسلاح مدني سلمي، وتحويل
السوق إلى ساحة نضال رمزي، وقد يسهم في كبح جماح الافتراس الاقتصادي ويحد من ظاهرة
الجميع بين المال والسلطة.
في أهم عناصر التحليل السوسيو ـ سياسي
للخطاب..
من منظور سوسيو- سياسي، يمكن قراءة خطاب GenZ212 بوصفه تعبيرا
عن تحول في بنية الفعل الاحتجاجي المغربي، حيث ننتقل من الاحتجاج المؤطر (الأحزاب،
النقابات، مجموعات منظمة) إلى الاحتجاج الأفقي اللامركزي القائم على التفاعل
الفوري، والمشاركة الرقمية، والوعي الجيلي.
عموم شعارات الحركة تمزج بين اللغة العربية الفصحى والدارجة، بين الجدية والسخرية، في جمل قصيرة لكنها قادرة على بعث رسائل سياسية قوية تتجاوز البلاغة السياسية التقليدية، وقد بدأت تتطور تدريجيا من مطالب اجتماعية محضة إلى مطالب سياسية وشعارات نضالية تستلهم الشعار المركزي لاحتجاجات شباب 20 فبراير مع الربيع العربي "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية"
ينتهي تحليل الخطاب إلى الكشف عن هوية
جماعية هجينة، تستند على المرجعية الإسلامية في بعدها الأخلاقي "اللهم ثبت
قلوبنا على الحق" وعلى المفاهيم المدنية في مضمونها القانوني (الإحالة على
الدستور لتأصيل المطالب)، وعلى مفاهيم العدالة الاجتماعية والكرامة في الجانب
المطلبي، ومن الواضح أن هذا الاختيار يسعى إلى إضفاء قيمة شرعية وأخلاقية على
الفعل الاحتجاجي.
أما اللغة المتداولة داخل صفحة الحركة على
منصة Discord فهي لغة
احتجاجية بسيطة تمزج بين السخرية، الجدية، التقنية، والقيم، تزاوج بين كتابة
الكلمات بالحرف العربي وكتابة العربية بالحرف الفرنسي (وهي تقنية يجري اعتمادها في
التواصل بين أفراد جيل z. وعلى العموم،
فهي ليست لغة نخبوية ولا عامية صرفة، ولكنها تعكس طبيعة هذا الجيل المتصل دوما
بالعالم من خلال الشبكة العنكبوتية، لكنه واع أيضا بواقعه المحلي ويحاول تطويرها.
والخلاصة الأساسية: أننا بصدد إعادة تعريف
الفعل الاحتجاجي، ليصبح فعلا تواصليا بالدرجة الأولى قبل أن يكون ميدانيا، وهو ما
يجعلنا أمام مواطنة جديدة وهي المواطنة الرقمية التي برهنت على قدرتها على تحويل
وسائل التواصل من فضاءات ترفيهية إلى أدوات لإعادة بناء المجال العمومي، والكشف عن
أزمة الوساطة المؤسساتية التقليدية من أحزاب ونقابات وتراجع وظيفتها التمثيلية
خصوصا بعد التجريف الذي تعرض له المجال السياسي منذ البلوكاج الشهير لسنة 2016
ومخلفات الانتخابات التشريعية ل8 شتنبر 2021 .
اليوم يعيد جيل z تعريف
السياسة من خارج مؤسساتها المعروفة، ويفرض على
الفاعل السياسي التعاطي مع الصحة والتعليم والشغل كأولويات لا تقبل التأجيل، وهو
ما لا يمكن الثقة في إمكانية تحقيقه إلا بإقالة حكومة السيد عزيز أخنوش وإسقاطها،
واستئناف مسار الانتقال الديموقراطي بما يسمح بإفراز مؤسسات منتخبة قوية تتجاوب مع
انتظارات المواطنين، وتجنب المؤسسة الملكية موقع الاحتكاك المباشر مع الشعب.