مرَّ
عامان على انطلاق عملية طوفان الأقصى التي جاءت بعد نحو ثمانية عقود من التجاهل
لحقوق
الفلسطينيين، وأكثر من قرن على بدء الاستيطان في فلسطين؛ ضاق الفلسطينيون
ذرعا بالتواطؤ الدولي والتخاذل العربي، فقرروا أن يرفعوا أصواتهم بأنفسهم دون وسيط
عربي أو حتى محليٍّ يخضع لإملاءات العصابات المحتلة.
نتج
عن العملية ردة فعل صهيونية شديدة الإمعان في الإجرام، وحمَّل أشخاص وطنيون حركاتِ
المقاومة أوزار ما أصاب الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم، وهي أثمان فادحة جدا
بالقدر الذي يجعل كلمات الدعم والثناء والإشادة بالصمود عاجزة عن أن تطيِّب خاطر
المصابين، ومع ذلك يجب تجديد النقاش حول المتسبِّب بهذه الخسائر، وهو نقاش مع
داعمي القضية الفلسطينية، لا الصهاينة وأبواقهم.
أولا،
هناك فرق بين الهزيمة والخسارة، والفلسطينيون تحديدا في قطاع
غزة لم ينهزموا كما
لم تنهزم مقاومتهم، بل تعرضوا لخسائر كبيرة، وهذا ليس تقليلا من شأن التضحيات ولا
الأرواح التي قدموها، وهي ليست أرقاما إحصائية ورسومات بيانية، فكل روح تخرج تنزع
معها أرواح العشرات من أحبائها وأقاربها، وكل منزل يُهدَم يحمل بين جنباته أمانا
ومأوى وكَدّا لأجل بنائه، كما تحمل الجنبات ذكريات لا يمكن تعويضها أبدا. هذه كلها
خسائر كارثية، لكن الصمود الفلسطيني يقول إنهم لم ينهزموا، وهذه التفرقة بين
الهزائم والخسائر مهمة.
ثانيا،
هل تسببت المقاومة بتلك الخسائر؟ هذا السؤال يطرحه أبناء للقضية الفلسطينية ومؤيدون
لها، وهو سؤال ممزوج بالألم والحرص على ما بقي من القضية الفلسطينية.
الحقيقة
أن قرار المقاومة لا بد أنه أخذ في الاعتبار أن التيار الرسمي معارض لها، ويتمنى
زوالها، وفي الوقت نفسه يبدو أنه راهن على التحرك الشعبي ليضغط على الأنظمة
الرسمية لوقف العدوان المتوقَّع بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى، وهو ما لم يحدث
نتيجة القبضة الأمنية الشرسة للأنظمة المتواطئة، وضعف واستسلام المجتمع المدني أيضا،
والذي فضَّل ألا يصطدم أو يقدم تضحية لنصرة الشعب الفلسطيني. وهذه النتيجة
المغايرة لما توقعته المقاومة ليست خطأها، إذ المعتاد أن تكون عملية النضال مصحوبة
ببيئة إقليمية داعمة لها، وهذا ما حدث في تاريخ الصراع مع الصهاينة ومع قوى
الاحتلال في القرن التاسع عشر وما بعده، إذ كان تكافؤ القوى معدوما في كل الحالات،
ومع ذلك لم يُترك أي شعب مقاوِم وحده يواجه مصيره، وكان التأييد نصيره من الأصقاع
كافة.
من
هنا، يجب تحميل وزر هذه الخسائر للأنظمة العربية التي باركت المذبحة بصمتها، بل
واستمرار تعاطيها مع دولة الاحتلال تجاريّا ودبلوماسيّا وعسكريّا أيضا، فالدور
العربي المتواطئ سبب الوصول إلى هذه النقطة، وليس جرأة المقاومين ومبادرتهم
الهادفة إلى تحرير الأرض، وإعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. والمقاوَمة
فعلت ما يتوجب عليها، بل إنها بلغت حد تمريغ أنف المشروع الصهيوني والغربي بأكمله
في الأرض، وأثبتت عدم صدق مقولة "الجيش الذي لا يُقهر" وأننا أمام
"أفضل جهاز استخبارات في المنطقة"، وهذا التحطيم الكامل للهيبة
الصهيونية-الغربية استدعى هذا الرد الوحشي لمحاولة ترميم الصورة، ومع ذلك ستظل
الأيام تُذكِّر بما حدث في هذا اليوم، كما أن المقاومة لم تكشف بعد عن كل ما حدث
في هذا اليوم، ولا على ما تحصَّلت عليه من الموقع الاستخباراتي الذي اعتقد العدو
أنه موقع "سرِّي".
وفي
السياق ذاته، لا يجب أن نغفل الدعم الإقليمي والدولي غير المحدود لتلك العصابات،
وشمل الدعم تقديم معلومات استخباراتية للكشف عن أماكن الأسرى، ودعما سياسيّا
ودبلوماسيّا وعسكريّا، وفتْح المجالات الجوية لنقل الأسلحة، وفتح الموانئ الجوية
والبحرية لنقلها، أو لحماية الطائرات المدنية وما إلى ذلك من جميع أشكال الدعم. وذهبت
أمريكا إلى الحد الأقصى، فوفقا لصحيفة "نيوزويك" الأمريكية، صرفت
الولايات المتحدة 30 مليار دولار على حرب غزة والصراعات المرتبطة بها في الشرق
الأوسط. وأوضحت الصحيفة أن 21 مليار دولار صُرفت على الدعم العسكري المباشر
لإسرائيل، في حين صُرف الباقي على الجبهات ذات الصلة.
وبحسب
دراسة أنجزها مشروع "تكاليف الحرب" في معهد واتسون للشؤون الدولية
والعامة في جامعة براون، فإن الولايات المتحدة خصصت بين تشرين الأول/ أكتوبر 2023
وأيلول/ سبتمبر 2025 نحو 21.7 مليار دولار مساعدات عسكرية لحليفتها الرئيسية في
الشرق الأوسط، ولا يمكن إغفال أن العرب ساهموا في تمويل ذلك بالدعم المقدَّم إلى
ترامب بداية ولايته، فكيف يمكن تحميل وزر ما حدث للمقاومة الفلسطينية التي وجدت
نفسها في محيط صهيوني بالكامل، وليست في محيط عروبي وإسلامي؟!
وعلى
ذِكْر البعد الإسلامي، لا ينبغي تجاهل البُعد الديني في هذا الصراع، فالمجتمع
الدولي بدءا من بلفور عام 1919، ومرورا بقرار التقسيم عام 1947 دعا لإقامة وطن
قومي لـ"أبناء ديانة"، وبمد الخط على استقامته طوال محطاته، انتهاء بترامب
الذي قال: "سلامٌ في الشرق الأوسط لأول مرة منذ ما يُقال إنه 3 آلاف عام"،
مع تفاصيل الصراع عن هيكل مزعوم وقانون القومية اليهودية وما إلى ذلك، فإن هذه
الأمور كلها تشير إلى البُعد الديني في الصراع، لكن محظور على المسلمين أن يقولوا
إن لنا بُعدا دينيّا في هذه المسألة!
اليوم
تقف عملية الإبادة الجماعية في أقرب النقاط لتوقفها، مدفوعة فيما يبدو بأمر واحد
فقط؛ رغبة ترامب في الحصول على جائزة نوبل للسلام، وإلا فإن ترامب غير صادق وغير
نزيه، فقد طلب الإفراج عن عيدان ألكسندر مقابل إدخال مساعدات، ولم تدخل شاحنات بعد
خروجه، وبعد ضغوط دخلت كميات قليلة تم ترتيب سرقتها من قبل الاحتلال. كما أنه ينادي
علنا بالقضاء على الحركة التي يفاوضها، لذا أحسنت المقاومة عندما لم تقبل الاستناد
إلى مجرد خطة حتى وإن كانت مكتوبة وموَقَّعَة، إذ لا بد أن تكون الضمانات إجرائية،
أي مقابل خروج كل أسير صهيوني إجراء مقابل يتعلق بالرهائن الفلسطينيين في سجون
الاحتلال، والانسحاب من قطاع غزة، وإعادة إعماره، ورفع الحصار عنه.
وهنا
يدور نقاش حول كون الأسرى الصهاينة ما يزالون يمثلون ورقة ضغط على نتنياهو، ويرفض
البعض ذلك استنادا إلى أن نتنياهو معنيٌّ بمستقبله السياسي أكثر من الأسرى، وهذا
صحيح بالفعل، ومع ذلك الأسرى الصهاينة ما زالوا ورقة ضغط، إذ إنهم ورقة ضغط
انتخابية وليسوا ورقة ضغط أخلاقية، والحديث عن موقف نتنياهو يتجاهل الفرق بين
الاعتبار الأخلاقي والاعتبار الانتخابي، ولا شك في أنهم يمثلون ورقة ضغط عليه من
هذه الناحية.
يخوض
المقاومون بمختلف فصائلهم صراعا تفاوضيّا شديد الصعوبة، ولا تزال هناك مخاطر تتعلق
بانهيار المفاوضات، وستكون تداعيات ذلك كارثية على الأطراف كلها بما فيها الداخل
الفلسطيني الذي يُمثِّل الحاضنة الشعبية للمقاومة، وبالتالي فإن الجميع معني
بتتميم هذا الاتفاق، لكن دون تنازل عن حقوق الفلسطينيين المستقبلية، أو الحقوق
الجماعية، فالحركات تستطيع أن تتنازل عما يخصها وحدها.
ولعل
أبرز ما يتعلق بمرحلة التفاوض هذه هي مسألة حكم الفلسطينيين لأنفسهم، ومسألة
السلاح، ولا يمكن لعاقل أن يطلب من المقتول والطرف الأضعف من ناحية المعدات
العسكرية، أن ينزع سلاحه، وهو يواجه آلة قتل لا رادع لها سوى هذا السلاح المحدود،
بل إن من حق الفلسطينيين أن يطالبوا، ولو على سبيل المشاغبة، بفرض منطقة عازلة
خارج قطاع غزة خالية من سلاح العدو الصهيوني، ومنطقة حظر طيران عسكري فوق القطاع
أيضا، بل وفوق الضفة الغربية وكامل حدود الدولة الفلسطينية المنصوص عليها في قرار
التقسيم 181 لعام 1947، ولا مانع أيضا أن يذهبوا بعيدا ويلمحوا إلى دعم فوز ترامب
بتوبل للسلام إذا أنهى الحرب وفقا لما فيه صالح الشعب الفلسطيني.
رغم
الخذلان العربي الكامل، فعلى كل حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن، أن تدرك
أن الشعوب لا تزال نابضة بحب القضية الفلسطينية، وأن مسار التحرير الذي تسير عليه
مدعوم تماما من معظم أبناء شعوبنا، شاء من شاء وأبى من أبى، وكل محاولات تزييف
الوعي المتكررة والممتدة، لم تُفلح في خلق أجيال مشوَّهة الفكر والضمير، بل إن
الغرب نفسه بدأ يتحول شعبيّا إلى الاتجاه الصحيح.