ملفات وتقارير

خبير لـ"عربي21": هذه مخاطر التجويع القسري.. قد يترك آثارا سلبية دائمة على الإنسان

من التأثيرات المستقبلية للتجويع القسري حتى بعد انتهائه أنه قد يؤدي لخسارة في الكتلة العضلية- جيتي
مع اقتراب حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة من دخول عامها الثالث، يستمر منع دخول الغذاء لسكان القطاع بكميات تكفيهم لسد حاجتهم اليومية. وأدى منع دخول الطعام والحصار المفروض على قطاع غزة إلى حدوث مجاعة، وذلك باعتراف الأمم المتحدة نفسها.

ووفقا لبيان لوزارة الصحة في غزة نشرته الأربعاء، فإن عدد وفيات التجويع ارتفع ليصبح 455 شهيدا بينهم 151 طفلا.

علما أن سكان قطاع غزة ليسوا الوحيدين الذين يعانون من التجويع القسري، فسكان مدينة الفاشر السودانية يعانون أيضا من تجويع قسري ممنهج، وذلك نتيجة لحصار قوات الدعم السريع للمدينة وبالتالي منع دخول الطعام إليها.

وكانت شبكة أطباء السودان قد قالت إنه تم تسجيل 23 وفاة بسبب سوء التغذية الحاد بين الأطفال والنساء في مدينة الفاشر المحاصرة خلال أيلول/سبتمبر، وتبقى الأرقام غير دقيقة لعدم وجود إحصائيات بسبب الحرب. وقد يعتبر البعض أن عدد وفيات التجويع قليل، لكنه في الواقع ليس أمرا هينا أن يموت إنسان نتيجة للتجويع القسري في عام 2025، خاصة في ظل توفر الطعام في كل مكان في هذا العالم.

أيضا لا تقتصر نتائج التجويع القسري وفقا للخبراء على الوفاة، بل قد يصل الأمر إلى تأثيرات سلبية دائمة على صحة الإنسان.

ولمعرفة تأثير التجويع القسري على صحة الإنسان، التقت "عربي21" مع عدد من الخبراء، واستعرضت معهم التأثيرات السلبية للتجويع القسري على صحة الإنسان، وسيتم نشر تحليلاتهم المستندة إلى الحقائق العلمية على حلقتين.

ومن ضمن الباحثين الذين التقتهم "عربي21"، الدكتور علاء الرجبي، أستاذ مساعد في قسم علوم التغذية بجامعة قطر، والذي أكد أن "للتجويع القسري تأثيرات سلبية وكارثية على الإنسان، على رأسها الوفاة".

وأوضح الرجبي خلال تصريحاته لـ"عربي21" أن "جميع أعضاء الجسم تتأثر نتيجة للتجويع، حيث تزداد احتمالية ضعف القلب والكلى وبقية الأعضاء"، مؤكدا أن "هناك احتمالية لأن يترك هذا التجويع أثرا سلبيا دائما، وقد يسبب أمراضا مزمنة للإنسان".

وأشار إلى أن "بعض البدائل التي استخدمها قطاع غزة عوضا عن الطعام المفقود، مثل الماء والملح أو علف الحيوانات أو أوراق الشجر، لا يمكن أن تغني عن الغذاء الصحي والطبيعي، وهذه البدائل بالتأكيد لها أضرار وآثار سلبية كثيرة على صحة الإنسان".


وتاليا نص الحوار كاملا:

بداية كم حاجة الإنسان اليومية من السعرات الحرارية؟
حاجتنا من السعرات الحرارية تختلف من إنسان إلى آخر، كذلك تختلف بين الرجل والمرأة، والبالغ وغير البالغ، وحسب الوزن والعمر، وهل يمارس الإنسان الرياضة أم لا. ولهذا فإن وضع رقم ثابت لعدد السعرات الحرارية التي يحتاجها الإنسان دون الحديث عن تفصيلاتها مضلل إلى حد ما.

يحصل الإنسان على السعرات الحرارية من المغذيات الكبرى (Macronutrients) وهي الكربوهيدرات والبروتينات والدهون. وبالطبع من الخطأ أخذ حاجتنا اليومية من السعرات الحرارية من عنصر واحد، مثلا من الكربوهيدرات فقط، فهناك نسب معينة من هذه العناصر مجتمعة يحتاجها الإنسان يوميا. لكن بشكل عام هناك معدل لعدد السعرات الحرارية اليومية وهو حوالي 2500 سعرة حرارية للرجل و2000 سعرة حرارية للمرأة (نطاق تقريبي 1800–2400 للنساء و2400–3000 للرجال). ومرة أخرى، لا بد من التأكيد أن هذا الرقم متغير ويعتمد على الاختلافات التي ذكرتها سابقا، ومن المهم أيضا تنويع مصادر هذه السعرات الحرارية.

ويحتاج الإنسان بالإضافة إلى السعرات الحرارية ومصادرها (الكربوهيدرات، البروتين بما في ذلك الأحماض الأمينية الأساسية، والدهون بما في ذلك الأحماض الدهنية الأساسية) إلى المغذيات الدقيقة (Micronutrients) أي المعادن والفيتامينات. وهذه كلها يجب أن تكون في غذاء الإنسان حتى يكون صحيا.

ما تأثير التجويع القسري على جسم الإنسان، خاصة الأعضاء الحيوية ومنها الدماغ والكلى؟
بداية لنأخذ تأثير التجويع من ناحية نقص السعرات الحرارية. لتعويض هذا النقص سيبدأ الجسم باستخدام مخزونه من الكربوهيدرات، ومن ثم يزيد استخدام الدهون، ثم البروتينات كمصدر رئيس للطاقة. ومع تطور الحالة وامتداد التجويع لأيام ثم لأسابيع، يزداد اعتماد الجسم على البروتينات كمصدر للطاقة، عندها يبدأ بتحليل البروتين من العضلات، ثم من الأعضاء الحيوية مثل الكبد، وفي الحالات الشديدة قد يتأثر القلب أيضا، مما يؤدي إلى هزال شديد ومضاعفات خطيرة تشكل خطرا كبيرا جدا على الحياة.

وقد يصاب القلب بالضعف أو الضمور، مع احتمال حدوث اضطراب في النظم أو فشل قلبي في بعض الحالات. كما تتأثر الأوعية الدموية، الدماغ، الجهاز العصبي، الكلى وكل أعضاء الجسم، مما يزيد بشكل كبير خطر الفشل الوظيفي والوفاة إذا طال الحرمان الغذائي.

كذلك خلال فترة التجويع تقل المناعة، لأنه عندما تقل البروتينات يضعف الجهاز المناعي في الجسم، وبالتالي يمكن أن تزيد احتمالية العدوى وانتقال الأمراض بسرعة أكبر، ونرى هذا كثيرا في المجاعات.

أيضا قد يحدث ما يعرف بسوء التغذية البروتيني الطاقي، وفي هذه الحالة يمكن أن يحصل الإنسان على طاقة كافية عن طريق الكربوهيدرات مثل الطحين أو من الدهون، ولكنه لا يحصل على بروتينات كافية. وهذا يؤدي لحدوث ضرر كبير في جسمه، ويؤكد مرة أخرى أهمية التوازن في العناصر الغذائية.

بالإضافة إلى ذلك، إذا كان التجويع طويل الأمد وشديدا، كالذي نراه في غزة، سيؤدي نقص المعادن إلى اختلال في توازن الأملاح في الجسم (Electrolytes imbalance). وهذا قد يؤثر بشكل خطير على وظيفة القلب، ويؤدي إلى اضطرابات نظم قلبية أو سكتات، وفي بعض الحالات الوفاة. وهذه التأثيرات قد تظهر خلال فترة التجويع أو عند بدء إعادة التغذية.

هناك نقطة مهمة يجب التركيز عليها، وهي أن الشخص الذي عاش فترة من التجويع، ثم توفر له الطعام، قد يواجه مخاطر كبيرة عند إعادة التغذية، خاصة ما يعرف بمتلازمة إعادة التغذية (Refeeding syndrome). إذ قد يؤدي إدخال الكربوهيدرات فجأة إلى اختلال في توازن الأملاح بالجسم، ما يؤدي إلى اختلالات قلبية، صدمة، أو الوفاة إذا لم تتم إدارته طبيا. لذلك يجب أن تتم إعادة التغذية تدريجيا وتحت إشراف أطباء ومختصي تغذية، ووفقا لوضع كل حالة.

لكن هل يترك التجويع القسري أثرا دائما في جسم الإنسان حتى لو انتهى؟ وما هو هذا الأثر؟
من التأثيرات المستقبلية للتجويع القسري حتى بعد انتهائه أنه قد يؤدي لخسارة في الكتلة العضلية (بما في ذلك عضلة القلب في بعض الحالات)، وقد لا يستعيد الإنسان كامل الكتلة العضلية وقوته مرة أخرى. وينطبق هذا أيضا على القلب، فهناك احتمالية ألا تعود قوته بالكامل من جديد. وقد أثبتت بعض الدراسات أن التجويع القسري قد يؤدي لمشاكل قلبية دائمة في بعض الحالات، وضعف دائم في قدرة العضلات.

أما فيما يخص التأثير على الدماغ والحالة العقلية، فقد أكدت نتائج بعض الدراسات احتمالية حدوث تأثيرات سلبية للتجويع القسري على القدرة العقلية مستقبلا. أيضا احتمالية حدوث أمراض مزمنة مستقبلا حتى بعد انتهاء التجويع القسري واردة جدا، منها أمراض الكلى وهشاشة العظام. وبالطبع فإن الأمر يعتمد على الوضع الصحي لكل إنسان، وبشكل عام هناك دراسات أشارت إلى احتمالية بقاء أثر التجويع القسري السلبي على المدى الطويل.

وبالتالي فإن من الوارد جدا أن يؤدي التجويع القسري إلى أثر دائم، سواء على العضلات أو القلب أو الكلى والعظام والدماغ. ولهذا لا يعني انتهاء التجويع القسري انتهاء آثاره السيئة المستقبلية على جسم الإنسان.

هل هناك فرق في تأثير التجويع القسري بين من كانت صحته جيدة قبله ومن كان مصابا بأمراض عدة؟
بالتأكيد هناك فرق؛ على سبيل المثال، الشخص المصاب بالسكري معرض لخطر أكبر لحدوث خلل في توازن الجلوكوز والأنسولين مقارنة بشخص سليم. والشخص الذي كانت صحته قوية ولديه كتلة عضلية جيدة حينما بدأت المجاعة، سيكون التأثير عليه مختلفا عن شخص آخر كان مريضا أو لديه مشاكل صحية أخرى عند بدء المجاعة. إذ تتحمل أجسام الأصحاء ضغوط التجويع بشكل أفضل من المرضى أو من لديهم مشاكل صحية مزمنة.

أيضا هناك أشخاص لديهم أمراض وراثية أو حساسية غذائية. مثلا البعض لا يستطيع تناول منتجات الطحين، وحينما لا يتوفر غيرها، سيكون الإنسان أمام خيارين: إما عدم تناولها وبالتالي الوفاة، أو تناولها ما يؤدي لحدوث مشاكل صحية وتعب لجسده.

بالمحصلة، من كان مريضا قبل بدء المجاعة معرض أكثر من غيره للوفاة خلالها أو لضرر مستقبلي دائم. وبالطبع فإن الأمر يعتمد على الوضع الصحي لكل إنسان أو لكل حالة وما نوع المرض المصاب به.

بعض مواطني غزة حينما اختفى الطعام استعاضوا عنه بشرب الماء والملح، هل يعوض ذلك نقص الأملاح التي يحتاجها الجسم؟ وما تأثيره على الجسم خاصة الكلى؟
أولا، المشكلة أن بعضهم اضطر لشرب ماء البحر، وهذا الأمر ضار جدا للجسم. أما فيما يخص الملح والماء، فالملح هو (كلوريد الصوديوم)، وهذان العنصران من المعادن الأساسية والمهمة لصحة الإنسان.

ولكن هل هذان العنصران هما المهمان فقط للإنسان؟ بالتأكيد لا، فنحن نحتاج إلى مجموعة من المعادن الأساسية الأخرى. وبالتالي فإن الصوديوم والكلوريد غير كافيين لسد النقص في غيرهما من المعادن والعناصر الغذائية الأخرى. كما أن ماء البحر لا يحتوي على باقي المعادن ولا العناصر، ولا يوفر كربوهيدرات أو دهون أو بروتين أو طاقة.

ثانيا، كلى الإنسان مصممة للتعامل مع كمية معينة من الملح (كلوريد الصوديوم). وعندما يتناول الإنسان كمية ملح كبيرة تتجاوز حاجته الطبيعية، يجب أن تتخلص الكلى من هذا الملح عن طريق البول. والكلى مصممة لإفراز البول بدرجة ملوحة معينة. فمثلا، لنفترض أن شخصا شرب من ماء البحر أو شرب ماء وملح بتركيز عال جدا، عندها سيضطر جسمه للتخلص من هذا الملح، وحتى يحدث ذلك يجب أن يفرز معه ماء أكثر من الكمية التي استهلكها. وهذا الأمر يؤدي إلى الجفاف الشديد، وقد يؤدي إلى الموت المعجل.

ويجب ألا ننسى التأثير السلبي على الكلى نفسها، فهي المسؤولة عن التخلص من الملح الزائد في جسم الإنسان، حيث يمكن أن تتضرر بشدة، وفي بعض الحالات قد يحدث تسمم في الدم. وبالطبع قد يصاب البعض بالفشل الكلوي إذا طالت فترة شرب الماء والملح.

كذلك اضطر بعض سكان قطاع غزة نتيجة للتجويع القسري لتناول أوراق الشجر، وأحيانا علف الحيوانات أو طحين مخلوط برمل أو حجارة. ما تأثير ذلك على صحة الإنسان؟
أوراق الشجر تمنح الإنسان الألياف الغذائية، وبالتالي يمكنها أن تشعره بالشبع، لكنها تحتوي أساسا على سليلوز غير قابل للهضم، وبالتالي قيمتها الغذائية محدودة جدا. هي فقط قد تكفي لسد الجوع مؤقتا، دون أن توفر البروتينات أو الدهون. وفيها كمية ضئيلة جدا من الكربوهيدرات وبعض المعادن والفيتامينات، لكن القيمة الغذائية قليلة. وقد اضطر البعض لتناولها في اليمن وجنوب السودان أيضا خلال فترات حالية وسابقة.

من التأثيرات المحتملة لتناول أوراق الشجر، إذا كانت الكميات كبيرة، حدوث انسداد معوي، خاصة إذا لم تتوفر مياه كافية للشرب، على افتراض أن هذه الأوراق غير سامة. أما فيما يخص الطحين الذي اختلط به بعض الحجارة الصغيرة، فإن هذه الحجارة لن يتم هضمها وستبقى عالقة في الجهاز الهضمي وقد تسبب انسدادا معويا بطريقة أسرع من أوراق الشجر، والانسداد المعوي في بعض الأحيان قد يؤدي للوفاة في حال لم يتم معالجته.

وفي حالة علف الحيوانات، فهو أساسا غير مخصص للبشر، وقد تجد فيه مواد فطرية أو مبيدات حشرية وميكروبات. وتناولها أمر خطير جدا، ولكننا هنا نتحدث عن أناس تحت المجاعة الشديدة، وفي هذه الظروف قد يلجأ البعض إليها كملاذ أخير. لكن تناول الأعلاف بشكل عام قد يؤدي للتسمم أو الوفاة أو حدوث اضطرابات كلوية.