أعلن أسطول الصمود العالمي، مساء الأربعاء، انقطاع البث المباشر عن معظم سفنه بعد أن حاصرتها قوات بحرية الاحتلال الإسرائيلي أثناء إبحارها نحو شواطئ
غزة، في محاولة جديدة لكسر الحصار المفروض على القطاع منذ نحو 18 عاما.
وقال المنظمون إن الاعتراض وقع بعدما قامت البوارج الإسرائيلية بقطع الاتصالات عن السفن والتحرك لاعتراضها، دون الكشف عن تفاصيل فورية حول مصير السفن أو احتمالات توقيف المتضامنين على متنها.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد كررت تحذيراتها للأسطول بضرورة التراجع عن خط سيره، والابتعاد عن المنطقة التي تصفها بأنها "خاضعة للعمليات القتالية"، مؤكدة أنها لن تسمح بوصول السفن إلى غزة.
انطلق أسطول الصمود في أواخر آب/أغسطس الماضي محملا بمساعدات إنسانية وإمدادات طبية، وكان من المتوقع أن يصل إلى سواحل غزة صباح الخميس. ويعد هذا التحرك الأول من نوعه منذ سنوات، حيث أبحرت أكثر من 50 سفينة مدنية تحمل على متنها نحو 532 ناشطا ومتضامنا من 45 دولة، دعما لسكان غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، والذين يعيشون تحت حصار إسرائيلي خانق منذ ما يقرب من عقدين.
"سنسقط هواتفنا في البحر"
أوضحت الناشطة التركية ديلك تكوجاق، إحدى المشاركات في الأسطول، أن المتطوعين كانوا مستعدين لمثل هذه اللحظة. وقالت: "حين نرى السفن العسكرية الإسرائيلية، سنلقي بهواتفنا في البحر لحماية بياناتنا الشخصية، فقد لا تصل أي أخبار من الأسطول لبعض الوقت في حال تدخل الاحتلال."
كشفت تكوجاق عن بروتوكول أمني خاص يتبعه المشاركون في حالات اعتراض الاحتلال لهم في البحر، خصوصا خلال الرحلات ذات الطابع المدني أو الإنساني.
يتضمن البروتوكول التخلص من
الهواتف والأجهزة الإلكترونية أو تدميرها ماديا لحماية بيانات حساسة قد تتعلق بالداعمين والممولين، أو بالشبكات اللوجستية، أو بمواقع أشخاص وسفن أخرى، فضلا عن صور ومواد توثق الانتهاكات.
بروتوكول "أمن المعلومات" في البحر
لا تقتصر الإجراءات التي يعتمد عليها النشطاء على رمي الأجهزة، بل تشمل أيضا:
-
تشفير البيانات مسبقا قبل الإبحار، لضمان عدم قدرة الاحتلال على فكها في حال مصادرة الأجهزة.
- إزالة شرائح الاتصال (SIM) وبطاقات الذاكرة عند الشعور بالخطر.
- تدريب الطواقم على كيفية التصرف أثناء الاقتحام، وكيفية التخلص من الأجهزة خلال دقائق.
- التخزين السحابي للبيانات على خوادم بعيدة ومحمية بمصادقة متعددة المستويات.
وينظر إلى هذه الممارسات كجزء من استراتيجية مدروسة، وليست مجرد تصرفات عشوائية، إذ تهدف لحماية شبكات الدعم والتمويل، وضمان استمرار الحراك المدني المتضامن مع غزة.
كما لا تقتصر المعركة التي يخوضها الناشطون على المواجهة البحرية مع الاحتلال، بل تمتد إلى حرب أمنية رقمية. فبحسب المنظمين، فإن إلقاء الهواتف في البحر قد يستخدم لاحقا ضدهم باعتباره "إخفاء للأدلة"، إلا أن الهدف الحقيقي هو تفادي وقوع معلومات حساسة في أيدي الاحتلال.
ويقول خبراء في هذا المجال إن المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي تجري على مستويات عدة، تبدأ من الأقمار الصناعية وأجهزة الرصد الإلكترونية، وصولا إلى اللحظة الحرجة التي يقرر فيها ناشط إلقاء هاتفه في البحر.
دروس من "مافي مرمرة"
كانت تجربة أسطول الحرية عام 2010، ولا سيما حادثة سفينة "مافي مرمرة" التركية، نقطة تحول أساسية في صياغة هذه البروتوكولات. ففي ذلك الهجوم الدموي، قتل الاحتلال عشرة نشطاء وأصيب العشرات، إضافة إلى مصادرة جميع الأجهزة الإلكترونية للركاب والصحفيين. بعض هذه المواد ظهر لاحقا في الإعلام الإسرائيلي الرسمي، ما أثار اتهامات باستخدام "مواد خاصة" دون إذن.
منذ ذلك الحين، لجأ النشطاء إلى ما يُعرف بـ"تصفير الهوية الرقمية"، أي الاعتماد على أجهزة مؤقتة أو فارغة من البيانات، والاكتفاء بأدوات اتصال تكتيكية.
مستويات تقنية متعددة
يشتمل البروتوكول الأمني الذي يتبعه نشطاء الأسطول على عدة مستويات متقدمة، من بينها:
- المحو عن بعد (Remote Wipe): خاصية تتيح مسح محتويات الجهاز بعد مصادرته.
- التخزين المشفر: الاحتفاظ بالبيانات الحساسة في خوادم محمية بمصادقة ثنائية أو ثلاثية.
- استخدام هواتف فارغة: معدة فقط للاتصالات الأساسية خلال الرحلة.
- التشفير الكامل للأقراص: بحيث لا يمكن فتح المحتوى دون كلمات مرور معقدة.
لا تقتصر أهمية هذه الممارسات على حماية الناشطين فقط، بل تمتد لحماية شركائهم الذين لا يظهرون في الصور مثل: الممولون، المتعاونون المحليون، وحتى المستفيدون من المساعدات داخل غزة. فأي تسريب للمعلومات قد يعني حملات اعتقال أو تصفية.
لكن هذه الإجراءات تستغل من قبل سلطات الاحتلال لتبرير حملات تشويه ضد النشطاء، حيث يقدم التخلص من الأجهزة كدليل على "التستر"، لا كإجراء دفاعي مشروع. وهو ما يفتح باب جدل حقوقي واسع حول حق المدنيين في حماية معلوماتهم أمام سلطة عسكرية معتدية على نشطاء في المياه الدولية.
تمنح القوانين الدولية، ومنها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، مساحات رمادية في تفسير الاختصاص القضائي في أعالي البحار. وهذا يمنح بعض الدول، مثل الاحتلال الإسرائيلي، مجالا واسعا للتحرك ضد سفن مدنية تحت ذرائع "الأمن"، حتى في غياب تهديد مباشر.
ومع تطور تقنيات الرصد، لم تعد السلطات بحاجة لمصادرة الأجهزة للوصول إلى المعلومات. ففي بعض الحالات، يتم زرع برمجيات مراقبة عن بعد أو اعتراض إشارات الاتصالات الفضائية، ما دفع النشطاء لاستخدام شبكات اتصال مشفرة بالكامل، وأجهزة معدة خصيصا لهذا الغرض.
معركة ممتدة
رغم المخاطر، يرى الناشطون أن ما يقومون به ليس مجرد تضامن رمزي، بل هو خط مواجهة مباشر مع منظومة الحصار الإسرائيلي. ومن هذا المنطلق، تصبح حماية البيانات جزءا من حماية الأرواح، وتتحول إجراءات مثل إلقاء الهواتف في البحر إلى "سلاح دفاعي" في معركة غير متكافئة.
وفي النهاية، تبقى حادثة سفينة "ألما" في أسطول الصمود حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الاشتباكات بين ناشطين مدنيين يسعون لإيصال مساعدات إنسانية، وبين قوة احتلال تمتلك تفوقا عسكريا وتقنيا وقانونيا.