قضايا وآراء

الخطوة التالية بعد موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية

"الدولة الفلسطينية"- جيتي
يحكي الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله أنه حين قابل المهاجرُ البيلاروسي حاييم وايزمان؛ السياسيَّ البريطانيَّ هربرت صاموئيل مطلع القرن العشرين، قدم له ورقة تحتوي على المطالب الصهيونية، رمى صاموئيل الورقة لوايزمان وقال له فكر بشكل أكثر طموحا. أي أن المشروع الاستيطاني الغربي في فلسطين كان أكبر من مجرد مطالب الشخص الذي سيصبح فيما بعد أول رئيس لإسرائيل، وهو نفسه الذي سعى بكل طاقته لاستصدار ما عرف فيما بعد بوعد بلفور.

أثناء الحرب العالمية الأولى، لو سألت أي عربي أو مسلم ما إذا كانت هناك إمكانية لإقامة دولة يهودية صهيونية في فلسطين ما كان أحد ليصدق هذا الأمر، حتى اليهود في أوروبا والعالم العربي أنفسهم، لكن التراكم السياسي وتزاحم الأحداث وتغيير موازيين القوى جعل ما كان خيالا أمرا واقعا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

مسألة إنشاء الدول والإعلان عنها هو بالأساس عمل تراكمي وليس وليد تحولات لحظية، وبهذا المنطق ينبغي أن نستكشف ونستشرف مصير الاعتراف بالدولة الفلسطينية

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مسألة الاعتراف بالدول والتمهيد السياسي والدبلوماسي لها يسبق الحقيقة الواقعة على الأرض. ومن هنا ينبغي أن نفهم مسألة اعتراف عددٍ كبيرٍ من الدول الغربية، لا سيما مع الدعم التاريخي لإسرائيل سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لأن لهذا الأمر تبعات حالية ومستقبلية لا ينبغي إغفالها.

إن دخان المعارك الكثيفة في الحرب الدائرة على غزة، والحجم المهول من الضحايا والمآسي الإنسانية، يجعل أي خطوة بخلاف إيقاف الحرب خطوة هامشية ونقطة صغيرة. وهذا أمر سليم تماما بموازين أولويات اللحظة الراهنة، فلا ينبغي أن يشغل العالم أي همّ سوى وقف عملية الإبادة الجارية. ومع ذلك، لا يعيق هذا النظر إلى المستقبل ونحن غارقون في مأساة الحاضر؛ فالفلسطينيون والعرب لم يكن لديهم رفاهية انتظار تحسن الأوضاع للتفكير في مستقبل الوضع الفلسطيني، وكل التحولات في الملف الفلسطيني قديما وحديثا كانت تتم على خط النار.

لقد أصبح هربرت صاموئيل بعد الحرب العالمية الأولى أول مندوب سام بريطاني في فلسطين، وكشفت دراسة الدكتورة سحر هنيدي: "التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي، فترة هربرت صاموئيل" الصادر عن مؤسسة الدارسات الفلسطينية، كيف أن هذا الشخص وضع البنية التحتية للدولة الصهيونية على مدار سنوات خدمته أثناء الانتداب،
هو رصد للعوامل التي أدت إلى موجة الاعتراف الدبلوماسي تلك، فلم تأت منّة ولا فضلا من أحد، ولكن ثمرة لنضال فلسطيني أثمر تعاطفا علميا تحول إلى ضغط سياسي. وهي نفس الخطوات التي ستجعل من خطوة تبدو رمزية إلى حقيقة ملموسة على الأرض
فقد اتخذ تدابير إدارية واقتصادية وسياسية مهدت الطريق لإعلان الدولة فيما بعد. أي أن مسألة إنشاء الدول والإعلان عنها هو بالأساس عمل تراكمي وليس وليد تحولات لحظية، وبهذا المنطق ينبغي أن نستكشف ونستشرف مصير الاعتراف بالدولة الفلسطينية مؤخرا.

أول ما لفت نظري بعد هذا الاعتراف هو أهمية اعتبار الأسرى الإسرائيليين في غزة أسرى حرب وليسوا رهائن بحسب السردية الإسرائيلية. كما أن الولاية القضائية الدولية التي طالما كافح عدد من المحاميين على مستوى العالم لمحاسبة المسئولين الإسرائيليين تحت مظلتها؛ يصبح مفهومها أكثر وضوحا مما يمهد لمقاضاة مسئولين إسرائيليين أمام عدد أكبر من الدول ضمن القضاء الوطني لهذه الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية. وكثير من هذه الدول لديها سلطة قضائية حقيقية مستقلة عن السلطة السياسية.

وهناك أمر مهم متعلق بصلاحية مسئولي الدولة الفلسطينية في إبرام معاهدات واتفاقات مع هذه الدول الكبرى، بداية من اتفاقات التبادل التجاري وحتى اتفاقات الدفاع المشترك. وهذا أمر يبدو خياليا بمعايير اللحظة الراهنة ولكنه ليس خياليا في حال تغيرت الظروف. وهذا ليس إفراطا في التفاؤل بقدر ما هو رصد للعوامل التي أدت إلى موجة الاعتراف الدبلوماسي تلك، فلم تأت منّة ولا فضلا من أحد، ولكن ثمرة لنضال فلسطيني أثمر تعاطفا علميا تحول إلى ضغط سياسي. وهي نفس الخطوات التي ستجعل من خطوة تبدو رمزية إلى حقيقة ملموسة على الأرض.

x.com/HanyBeshr