قضايا وآراء

كانت الثورة ولم تقم الدولة

"أقر سلفا باشتراطات الدول التي ستعترف بفلسطين، بأنها ستكون منزوعة السلاح"- AI
وأخيرا اعترفت المملكة المتحدة (بريطانيا) المسؤول الأول عن نكبة فلسطين، بالإضافة إلى أربعة عشر دولة أوروبية، بدولة فلسطين، كدولة مستقلة (على الورق). وجاء ذلك بعد حملة قادها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان للاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ويأتي هذا الاعتراف بعد مرور 110 أعوام على اتفاقية سايكس-بيكو (ممثلين عن حكومتي بلديهما بريطانيا وفرنسا)؛ تلك الاتفاقية التي جاءت نتيجة بيع الوهم للشريف حسين بمنحه دولة عربية كبرى في الحجاز والشام مقابل إعلان الثورة على الدولة العثمانية، فكانت الثورة ولم تقم الدولة. فكما هو معلوم فإن مراسلات الحسين (شريف مكة في حينه)-مكماهون (المعتمَدِ البريطانيِّ في مصر في الفترة (15-1917) هذه المراسلات كانت تسعى بريطانيا من خلالها لإقناع الشريف حسين بإشعال "الثورة العربية الكبرى" على الدولة العثمانية، في مقابل الوعد آنف الذكر. ولكن بموازاة ذلك كانت تُعقد في دهاليز السياسة الأوروبية وغرفها المظلمة اتفاقية سايكس بيكو بموافقة روسيا، لتقاسم المنطقة العربية وتقسيمها إلى كيانات جديدة تخضع للاستعمار الفرنسي والبريطاني وتنتزع الولاء الديني من شعوبها
ما هي إمكانيات إقامتها على أرض الواقع حتى في ظل حكومات إسرائيلية ممن يطلق عليهم اليسار الإسرائيلي الذي فاوض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ولم يصل وإياه إلى اتفاق يفضي إلى حل الدولتين، لتمسك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، يسارها ويمنيها، بالمستوطنات في أماكن متعددة في الضفة الغربية، ناهيك عن الإجماع الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى؟
وتستبدله بالولاءات القومية والوطنية، على أن تزرع بين كل كيانين (دولتين لاحقا) نزاعات حدودية قابلة للاشتعال متى ما شاءت قوى الاستعمار؛ التي استبدلت جنودها البيض بـ"رؤساء وزعماء وملوك" من أهل البلاد مؤهلين لتنفيذ سياسات الصليبية الغربية والصهيونية العالمية في الوطن العربي كله، وبعدما ربَّت في عواصمها ثلة كبيرة من "المثقفين" العرب على تبني الثقافة والعادات والسياسات الأوروبية كمرجع في شؤون الحياة والحكم، حتى يعودوا إلى بلادهم منظِّرين وقيادات.

وهكذا قامت "الثورة" العربية الكبرى ولم تقم الدولة العربية الكبرى، وتمكن الغرب من تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو في شقها العربي، بينما أفشلها الأتراك في شقها التركي الذي كان ينص على أن تصبح أرمينيا الغربية بالإضافة إلى القسطنطينية (إسطنبول) والمضائق التركية تحت السيطرة الروسية، وقد وقعت بالفعل العديد من المناطق التركية كإسطنبول وأنطاليا وغازي عنتاب وبورصة وغيرها تحت الاحتلالات الغربية المختلفة، وخاض الأتراك حربا ضروسا تغلبوا فيها على بريطانيا وفرنسا ويإطاليا واليونان واستعادوا حرية بلادهم.

بعد مرور قرن وعقد (110 سنين) على اتفاقية سايكس بيكو وعلى وعد بلفور الذي أصدره اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا في حينه للشعب اليهودي بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين خلال ثلاثين سنة (1917-1948) وهو من ثمار اتفاقية سايكس بيكو وما لحقها من اتفاقيات (وقد تم تنفيذ وعد بلفور بالتمام والكمال)، تعترف بريطانيا وفرنسا بالدولة الفلسطينية، ولكن أين هي هذه الدولة التي تعترف بها بريطانيا وفرنسا؟ وما هي إمكانيات إقامتها على أرض الواقع حتى في ظل حكومات إسرائيلية ممن يطلق عليهم اليسار الإسرائيلي الذي فاوض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ولم يصل وإياه إلى اتفاق يفضي إلى حل الدولتين، لتمسك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، يسارها ويمنيها، بالمستوطنات في أماكن متعددة في الضفة الغربية، ناهيك عن الإجماع الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى؟ فكيف هو الحال في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، صاحبة رواية إسرائيل الكبرى التي عبر عنها نتنياهو في مقابلة لتلفزيون "آي 24" عندما قال: "من ناحية روحانية أنت تعرف، عندما تصل إلى اختبارات تسأل نفسك دائما لماذا؟ ماذا نفعل هنا؟ نحن هنا في رسالة تتوارثها الأجيال، هناك أجيال من اليهود حلموا بأن نصل إلى هنا وثمة أجيال من اليهود الذين سيأتون إلى هنا من بعدنا، لذلك عندما أسأل نفسي: هل أشعر أنني أحمل رسالة تاريخية وروحانية فإن الجواب هو "نعم". وعندما سلمه الصحفي خارطة أرض الميعاد قائلا هذه هدية لزوجتك سارة حتى لا أورطك بتصريحات سياسية، وقال له هذه خارطة أرض الميعاد التي تحلم بها، هل تتفق مع هذه الرؤية، أجاب نتنياهو: "كثيرا".

وكما نعلم فإن أرض الميعاد المقصودة هي الأرض من النيل إلى الفرات، أي أن مصر وسوريا والأردن تقع ضمن هذه الأرض التي يحلم بها نتنياهو والتي يعتبر نفسه أنه يحمل رسالتها الروحانية والتاريخية.

وبالعودة إلى الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية، وهي كما نعلم اعترافات مشروطة ولن تأخذ طابع الشرعية القانونية ما لم يتم إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة، وكأن الجانب الفلسطيني هو من يعطل وقف الحرب وصفقة تبادل الأسرى وليست إسرائيل! ولكن الأهم من ذلك في إعلانات الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو ما يكمن بالاشتراطات المختلفة التي تصب كلها في تجديد وترسيخ المخططات الصهيو-صليبية المتضمنة بالاشتراطات المعلنة والخفية، ناهيك عن أنه اعتراف بإقامة "دولة" مزقت المستوطنات أراضيها بشكل يستحيل معه إقامة مثل هذه الدولة.

1. يأتي هذا الاعتراف من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية لإيهام العرب بإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية الوهمية كدولة الشريف حسين في 1915، يوم ثار على الدولة العثمانية موعودا بالدولة العربية الكبرى، فكان معول هدم في جسد الخلافة العثمانية ولم يحصل على الدولة. وهكذا سيعود القادة العرب إلى شعوبهم بإنجاز الاعتراف بالدولة الوهمية ليكون هذا الاعتراف ممهدا لمزيد من التطبيع بين الدول العربية وبين الاحتلال الإسرائيلي، وسيكون الادعاء أن الزعماء العرب بذلوا جهودا دبلوماسية جبارة قادت إلى هذه الاعترافات، فيما لم يكن التجاوب الفلسطيني مع هذه الإعلانات على قدر المسؤولية، ولذلك فإن هؤلاء الزعماء سيكونون معذورين في الذهاب إلى مزيد من التطبيع.

2. أما الاشتراطات الأوروبية الأخرى، فهي ما عبر عنها أبو مازن في كلمته أمام مؤتمر حل الدولتين يوم الاثنين، عندما تحدث عبر الفيديو بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة دخول لنيويورك، حيث هيئة الأمم المتحدة لإلقاء كلمته، وهذا بحد ذاته تصرف استعلائي غير دبلوماسي، حيث من المفروض على من يستضيف هيئة تمثيلية لكل الأمم والشعوب والدول أن لا يمنع أحدا من المشاركة في مداولات هذه الهيئة.

3. أبو مازن أشاد بدور الوساطة المصرية القطرية الأمريكية التي تسعى لوقف الحرب، وفي الواقع لم نر وساطة أمريكية لا في ظل هذه الإدارة ولا في ظل الإدارة السابقة لبايدن، بل رأينا انحيازا تاما وكاملا وجسرا جويا من الأسلحة الامريكية تنزل نارا على أطفال ونساء وشيوخ غزة، وتبنيا كاملا للرواية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بالحرب ومفاوضات وقف إطلاق النار.

4. يقول الرئيس الفلسطيني محمود عباس:".. لأننا نريد دولة واحدة غير مسلحة.."، فهو أقر سلفا باشتراطات الدول التي ستعترف بفلسطين، بأنها ستكون منزوعة السلاح، ولطالما كان هذا بندا من بنود المفاوضات بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي في المفاوضات السابقة فقدمه هنا على طبق من ذهب، من أجل اعتراف وهمي.

هذه الاعترافات في ظل الواقع المُعاش، وفي ظل الاشتراطات التي اشترطها المعترفون بالدولة الفلسطينية صراحة أو تلك التي تضمنها خطاب الرئيس الفلسطيني إملاء عليه من المعترفين بهذه الدولة؛ لا تعدو عن كونها شهادة عبور للمطبعين العرب في قادم الأيام للهرولة نحو توسيع اتفاقيات "أبراهام"

5. يقول السيد محمود عباس: "تواصل دولة فلسطين أجندة إصلاح شاملة تعزز الحوكمة والشفافية وفرض سيادة القانون، وتشمل إصلاح النظام المالي والمناهج التعليمية وفق معايير اليونسكو خلال عامين، وإنشاء نظام رعاية اجتماعية موحد بعد إلغاء جميع المدفوعات السابقة لعائلات الأسرى والشهداء، ويخضع حالياً لتدقيق دولي من قِبَل شركة دولية متخصصة."، وهذا أيضا أحد الاشتراطات، وهو التخلي عن قضية الأسرى والشهداء التي كانت دائما من الثوابت الفلسطينية التي لا يمكن الاستغناء عنها. فهؤلاء الأسرى السياسيون، على اختلاف أسباب سجنهم، ومنهم من سُجن على خلفية نشاطات سياسية دفاعا عن الوطن، أصبحوا وفق الاشتراطات الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين خارج حدود الوطن الذي سجنوا دفاعا عنه؛ فمن ستحمي "الدولة" الوهمية إذن حال إقامتها؟

إن مما لا يقل أهمية عما سبق في هذه النقطة هو مسألة الإصلاحات في المناهج التعليمية، وهذه لا تقل خطورة عما سبقها، بل تعظمها في الخطورة.. فكيف ستصبح المناهج الجديدة؟ هل ستدرس الرواية الصهيونية للبلاد والنكبة مثلا؟ هل سيتعلم أبناء فلسطين أن أجدادهم هُجروا من بلادهم ولم يهجروا منها، أم أن هذه البلاد كانت بكرا وعمرتها إسرائيل؟ هل ستستبدل قيم الرذيلة قيم الفضيلة؟ هل ستستبدل قيم الغرب السياسية والاجتماعية والأخلاقية قيم الإسلام والعروبة، وتصبح الزندقة سيدة الموقف؟
 
6. يقول السيد الرئيس: "كما نؤكدُ التزامنا بإجراءِ انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال عام بعد انتهاء الحرب، وبصياغة دستور مؤقت خلال ثلاثة أشهر لضمانِ الانتقال من السلطة إلى الدولة، بما يضمن عدم مشاركة أي أحزاب أو أفراد لا يلتزمون بالبرنامج السياسي والالتزامات الدولية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والشرعية الدولية، وبمراقبة دولية". ووفق هذه الاشتراطات فإن الرئيس الفلسطيني يقرر سلفا تحييد كل من لا يتوافق برنامجُه السياسيُّ مع الشروط الصهيو-صليبية التي وضعت سلفا للاعتراف بـ"الدولة" الوهمية.

7. ثم يؤكد على التعددية السياسية بقوله: "نريد دولة ديمقراطية عصرية قائمة على سيادة القانون، والتعددية، وتداولِ السلطة، والمساواة، والعدالة، وتمكين المرأة والشباب". وغني عن التبيان أن الاشتراط أعلاه بتحييد كل من لا يتفق مع الخط السياسي المفروض على السلطة الفلسطينية لا يتوافق مع هذه الجملة التي تحرص على التعددية وتداول السلطة والمساواة والعدل، إذ أين ستكون التعددية في ظل الالتزام بأن لا تفرز الانتخابات الفلسطينية سوى من يوافق على الاشتراطات الصهيو-صليبية للاعتراف بـ"الدولة" الوهمية؟!

إن هذه الاعترافات في ظل الواقع المُعاش، وفي ظل الاشتراطات التي اشترطها المعترفون بالدولة الفلسطينية صراحة أو تلك التي تضمنها خطاب الرئيس الفلسطيني إملاء عليه من المعترفين بهذه الدولة؛ لا تعدو عن كونها شهادة عبور للمطبعين العرب في قادم الأيام للهرولة نحو توسيع اتفاقيات "أبراهام" بعد إذ "أنجزوا" مهمة الاعتراف بالدولة الفلسطينية الوهمية، والتي ستكون لها ممثليات وسفارات دون أرض.