كتاب عربي 21

تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة

مهما بلغت أمريكا من قوة، فقدرتها على التعامل منفردة مع أي ملف من الملفات الشائكة حول العالم فضلا عن ملفات المنطقة أصبح أمراً غير ممكن، وذلك هو الحال بالنسبة إلى الدفاع المطلق عن إسرائيل.
لا يزال هناك من يشكك في تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة مستنداً إلى أرقام متعلقة بانتشار القوات الأمريكية والجنود الأمريكيين في الشرق الأوسط. هذه المقاربة الكمّية لا تعكس الوضع الحقيقي لنفوذ وجور الولايات المتّحدة الأمريكية. الاتحاد السوفييتي قبل انهياره بفترة بسيطة يسيطر على أجزاء واسعة من العالم وحتى عند حصول الانهيار كان لا يزال يمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم وثاني أكبر جيش في العالم. المقاربة الكمّية بمعزل عن السياق والتحوّلات ليس مؤشراً موثوقاً في أحسن الأحوال.

وبغض النظّر عن رأي القارئ في هذا الموضوع، هناك حقائق لا يمكن إنكارها. أوّلاً، تمّ ربط التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة بمصداقية الولايات المتّحدة المتعلقة بالضمانات الأمنية للدول التي تتواجد فيها. ولا يقتصر ذلك على رد العدوان كما حصل في حالة الكويت في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وإنما في ردع العدوان. ثانياً، الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة توسّع استناداً إلى هذا التصور الذي تمّ الترويج له. ثالثاً، بسبب هذا التوسّع لم تلجأ الدول التي تستضيف القوات الأمريكية في التفكير بتوسيع أو تنويع تحالفاتها وذلك على اعتبار أنّ الاعتماد على واشنطن يكفي. هذه السياسة تغيّرت من قبل الطرفين خلال العقدين الماضيين، وتسارعت خلال العقد الأخير.

التحوّل حصل بالتوازي مع الاتفاق النووي الذي عقده الجانب الأمريكي مع إيران في العام 2015، في وقت كانت فيه واشنطن تقول علنا إنّها ستقوم بالتركيز على الصين كمنافس استراتيجي وأنّ هذا الأمر يتطلب تخليص واشنطن من مستنقعات المنطقة وأنّ على العرب والإيرانيين حل مشاكلهم بأنفسهم، وأنّ على العرب أن يشكلوا حلف ناتو عربي للدفاع عن مصالحهم وأن يتقاسموا المسؤوليات والتكاليف مع الجانب الأمريكي، وأن يتم دمج إسرائيل طبعا في المنطقة من خلال مشاريع طاقة وأخرى اقتصادية.

الهمجية الإسرائيلية المتزايدة لعبت ولا تزال تلعب دوراً كبيراً في تقويض النفوذ الأمريكي والمصداقية الامريكية في المنطقة، ولا يبدو أنّ هذا الوضع سيتغير قريباً حيث ستتكبّد الولايات المتّحدة خسائر جسيمة حول العالم بسبب تبنيها الموقف الإسرائيلي والدفاع عنه وتحصينه.
مع مجيء ترامب، تسارع هذا الإتجاه بشكل رهيب، صحبه تراجع في موقع ودور ومصداقية الضمانات الأمنية الامريكية ليس فقط لدول المنطقة بل للعديد من حلفاء أمريكا حول العالم بما في ذلك الحلفاء الأوروبيون، لدرجة أصبح معها مصير حلف الناتو على المحك. أولى التحولات العميقة على المستوى الإقليمي تمثّلت في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا.  ثم تبعها حصار قطر والذي كان بمثابة صدمة للجميع وذلك لمشاركة الرئيس الأمريكي نفسه في الحملة. بعد هذا، وقعت هجمات عام 2019 على مصافي النفط في ابقيق وخريس السعودية والتي كانت ضربات غير مسبوقة شلّت الإنتاج النفطي السعودي لفترة من الزمن. تبع ذلك هجمات الناقلات في بحر عمان قبالة الإمارات وتهديد المنشآت الحيوية الإماراتية عام 2020. وأخيراً وليس آخرا، العدوان الإسرائيلي ضد قطر.

وإن بدت ردّة فعل هذه الدول تجاه هذه الأحداث للبعض اعتيادية ولا تتضمن خيار الانفكاك عن الحماية الأمريكية، إلا أنّ الاتجاه العام يتضمن مؤشرات متزايدة عن وجود محاولات تنويع في السياسات والشراكات الدفاعية ليس فقط على مستوى الدول وإنما أيضا على مستوى المناطق مع تركيز على توازن القوى الإقليمي. فيما يتعلق بتركيا اتّجهت بداية نحو الشرق لإحداث توازن في العلاقة مع الغرب وما لبثت أن سرّعت من سياسة الاستقلال الاستراتيجي في سياساتها الخارجية والاعتماد على الذات في صناعاتها الدافعية قاطعة أشواطا بعيدة في هذا المجال.

وكانت قطر سباقة في إنشاء تحالف مع تركيا كتب له فيها بعد أن يحميها وأن يصبح التحالف الأكثر استقرارا وديمومة بعد انهيار التحالف السوري ـ الإيراني. ومثلها اتجهت السعودية والإمارات إلى التنويع مع انفتاح على الصين في المجال العسكري. اتفاقية الدفاع المشترك التي تم توقيعها الأسبوع المنصرم بين السعودية وباكستان تضرب مسمارا إضافيا في نعش مصداقية الضمانات الأمريكية لدول المنطقة. وأمّا التنسيق المصري ـ التركي المتزايد والمناورات العسكرية المشتركة الأكبر التي تتم الآن شرق البحر المتوسط لأول مرة منذ 13 عاماً على الأقل، فهي ترسل رسائل بكل الإتجاهات.

أمام هذا الواقع، فإنّ الحديث عن عدم وجود تراجع أمريكي في النفوذ والدور أمر غير دقيق في أفضل الأحوال. المفارقة أنّ الهمجية الإسرائيلية المتزايدة لعبت ولا تزال تلعب دوراً كبيراً في تقويض النفوذ الأمريكي والمصداقية الامريكية في المنطقة، ولا يبدو أنّ هذا الوضع سيتغير قريباً حيث ستتكبّد الولايات المتّحدة خسائر جسيمة حول العالم بسبب تبنيها الموقف الإسرائيلي والدفاع عنه وتحصينه. لكن، مهما بلغت أمريكا من قوة، فقدرتها على التعامل منفردة مع أي ملف من الملفات الشائكة حول العالم فضلا عن ملفات المنطقة أصبح أمراً غير ممكن، وذلك هو الحال بالنسبة إلى الدفاع المطلق عن إسرائيل. حقائق تنويع السياسات الدفاعية قائمة، والاتجاه سيستمر مستقبلا، المسألة مسألة وقت فقط قبل أن تعي واشنطن أنه لم يعد بإمكانها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.