قام الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان بجول
خليجية الأسبوع المنصرم شملت كل من الكويت وقطر وسلطنة عًمان. وفيما إدّعى عدد
كبير من المراقبين أنّ الجولة تمّ إعدادها في سياق التطورات الإقليمية الأخيرة
التي شملت وقف إطلاق النار في غزّة، نقلت بعض التقارير أنّ
زيارة أردوغان إلى قطر
تحديداً تأتي في سياق سعي أنقرة لشراء مقاتلات يوروفايتر من الدوحة.
في حقيقة
الأمر، فإنّ كلا الإدّعاءين غير صحيح، فالجولة تمّ اعدادها في وقت سابق على اتفاق
وقف اطلاق النار الأخير في غزّة، كماّ انّها لم تكن مرتبطة بالجهود المتعلقة بشراء
مقاتلات من الدوحة، فزيارة الدوحة تحديداً تأتي في سياق الاجتماع الـ11 للجنة
الاستراتيجية العليا بين البلدين. وكما هو معروف، فاجتماعات هذه اللجنة روتينية
ويتم التحضير لها منذ وقت.
لكن وبعيداً عن هذه التفاصيل، تحمل جولة
الرئيس التركي أهمّية كبرى لثلاثة أسباب:
أوّلاً، أنّها تتضمن أوّل زيارة رسمية
لأردوغان ـ كرئيس لتركيا ـ غلى سلطنة عمّان. وثانياً، لأنّ زيارة الرئيس التركي إلى
الدوحة شملت بحسب بعض المعلومات مفاوضات على شراء أنظمة تسلّح غير تقليدية من
أنقرة في مرحلة ما بعد العدوان الإسرائيلي على الدوحة إلى جانب مناقشة ملف شراء
مقاتلات يوروفايتر من الدوحة. وثالثاً، أنّ هذه الزيارة تأتي في سياق التطورات
الأخيرة في غزة وسوريا خاصّة أنّ هذه البلدان
الخليجية الثلاث تعتبر الأكثر مقاومة
لإتجاهات التطبيع مع إسرائيل خليجياً وتالياً للاجندة الاسرائيلية.
في الخليج، يلعب الجانب التركي دوراً دفاعيا وأمنيا متزايداً منذ العام 2017. باختصار دور أنقرة آخذ في التوسّع في المنطقة وما بعدها، لكنّه يبحث عن توحيد الجهود بحيث يكون الدور تكامليا بين الأطراف المعنيّة، كلٌ فيما يستطيع أن يؤدّيه.
على المستوى الثنائي، يريد الجانب التركي
تعزيز العلاقة مع الدول الخليجية إقتصادياً، ومالياً، واستثمارياً، ودفاعياً.
فالعلاقات التجارية التركية مع هذه الدول الثلاث محدودة للغاية، وصغيرة جداً بشكل
لا يتناسب لا مع حجم اقتصادات هذه الدول، ولا مع قدراتها المالية، ولا مع مستوى
العلاقات السياسية. وفيما يرتبط بالعلاقات الدفاعية والعسكرية مع هذه الدول
الخليجية، لا يزال هناك الكثير من الفرض والقدرات غير المستثمرة لاسيما مع دولة
الكويت، إذ أنّ واردات الكويت من الأسلحة التركية ضئيل جداً. علاوةً على ذلك، فانّ
كلا الدولتين، أي الكويت وعُمان، مؤهلتان مستقبلاً لإمكانية استضافة قوات أو قواعد
تركية، بما يساهم في تعزيز الامن والاستقرار في مرحلة التراجع الأمريكي.
على المستوى المتعدد الأطراف، بحث الجانب
التركي مع الكويت وقطر وعُمان قضايا إقليمية على رأسها غزّة وسوريا وغيرها من
المواضيع ذات الاهتمام المشترك. وفي ظل غياب خبرة العمل متعدد الأطراف في العالم
العربي، وغياب القيادة اللازمة لمثل هذا الأمر، يصب الجهد التركي في هذا السياق
ليملأ فجوة مهمّة، ويوحّد القدرات والجهود بما يخدم الأهداف المشتركة في تحقيق الأمن
والاستقرار والازدهار في المنطقة، ليس لهذه الدول فحسب بل لسائر الدول المعنيّة
بمثل هذا الأمر.
نرى مثل هذه القيادة أو المبادرة تتبلور
بشكل واضح في سوريا وغزّة وقبلها في ليبيا وأذربيجان والصومال. ويلعب الجانب
التركي دوراً حيويا في البلقان والقوقاز ويوراسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط
وشمال أفريقيا. وحتى في الخليج، يلعب الجانب التركي دوراً دفاعيا وأمنيا متزايداً
منذ العام 2017. باختصار دور أنقرة آخذ في التوسّع في المنطقة وما بعدها، لكنّه
يبحث عن توحيد الجهود بحيث يكون الدور تكامليا بين الأطراف المعنيّة، كلٌ فيما
يستطيع أن يؤدّيه.
إنّ تمتين العلاقات التركية ـ الخليجية وزيادة دور تركيا الدفاعي والأمني والسياسي في المنطقة سيواجه مصاعب وتحديات ـ من دون شك ـ من قبل اللاعبين المتضرّرين الذين يريدون بقاء المنطقة مقسّمة وتحت الهيمنة الامريكية ـ الإسرائيلية.
على سبيل المثال، تريد أنقرة لعب دور أمني
أكبر في المنطقة لكن مثل هذا الدور يرتّب أعباء مالية وإقتصادية متزايدة، في
المقابل، تريد الدول الخليجية لعب دور أمني أكبر لكنّ ذلك يتطلّب قدرات بشرية
وسياسية أكبر، التكامل يسد الفجوة ويوحّد الجهود ويحقق الهدف المشترك في مواجهة من
يريد تقويض مصالح الطرفين. كذلك، تمتلك
تركيا ثاني أكبر قطاع للمقاولات والإنشاءات
في العالم بعد الصين. لا شك أنّ أداء دور تكاملي في سوريا وغزّة بالتعاون مع دول
الخليج سيساعد على تحقيق الهدف المشترك للطرفين بشكل أكثر كفاءة وفعالية.
اهتمام الجانب التركي والخليجي بتمتين
العلاقات الثنائية، وتوسيع الدور المتعددة الأطراف إقليميا، هو تمظهر طبيعي
للديناميات الدولية التي تشهد تآكلاً في النظام الدولي، وتراجعاً في الدور
الأمريكي وضماناته الأمنية، وكذلك توسّعاً غير طبيعي لأدوار بعض الأقليات كإسرائيل
وإيران. يخدم تعميق العلاقات التركية ـ الخليجية توجه الطرفين في تحقيق مزيد من
الاستقلالية على صعيد السياسة الخارجية ويزيد من قدرة هذه الدول على المناورة بين
الدول المتصارعة.
أمّا وقد قلنا هذا، فإنّ تمتين العلاقات
التركية ـ الخليجية وزيادة دور تركيا الدفاعي والأمني والسياسي في المنطقة سيواجه
مصاعب وتحديات ـ من دون شك ـ من قبل اللاعبين المتضرّرين الذين يريدون بقاء
المنطقة مقسّمة وتحت الهيمنة الامريكية ـ الإسرائيلية. وفي هذا السياق، يبرز
الإعتراض الإسرائيلي القوي على لعب تركيا وقطر دوراً أكبر في غزّة وفي سوريا. ولا
شك انّ مثل هذا الاعتراض قد يتطور مستقبلاً الى شيء آخر أكثر خطورة، لكن المهم أن
يبقى التدافع قائماً بدل الاستسلام، وأن يتم التأقلم مع معارك سياسية أو اقتصادية أو
امنية تحتاج إلى نفس طويل، وتحتاج بالتأكيد إلى تضافر الجهود وتمتين العلاقات. ولا
شك أنّ هذا الأمر سيضع العلاقات التركية ـ الخليجية تحت الاختبار مستقبلاً.