يشهد التوتر بين
فنزويلا والولايات المتحدة تصعيدًا غير مسبوق أعاد إلى الواجهة العداء الممتد بين البلدين. ففي وقت تعيش فيه
كاراكاس أزمة اقتصادية خانقة وعقوبات دولية قاسية، لجأت حكومة الرئيس نيكولاس مادورو إلى استراتيجية دفاعية متعددة الأوجه تجمع بين التحركات العسكرية والتعبئة الشعبية.
وفي الوقت ذاته تستحضر فنزويلا بقوة في هذه الأيام إرث "المحرر" سيمون بوليفار، لتصور المواجهة الحالية على أنها امتداد لمعركة التحرير من القوى الإمبريالية، وذلك بهدف حشد الدعم الداخلي
أسباب التصعيد
أعلنت الولايات المتحدة في آب/ أغسطس الماضي عملية عسكرية في جنوب البحر الكاريبي استهدفت مجموعات متهمة بتهريب المخدرات، وأسفرت عن مقتل 11 شخصًا. وُصفت العملية بأنها "رسالة ردع"، ورافقها نشر سفن حربية ومقاتلات من طراز F-35 قرب السواحل الفنزويلية، وهو ما اعتبرته كاراكاس استفزازًا مباشرًا وتهديدًا لسيادتها.
بالتوازي، واصلت الولايات المتحدة الضغط الاقتصادي عبر عقوبات مشددة استهدفت قطاعات النفط والذهب ومؤسسات حكومية وشخصيات نافذة، مع التلويح بمزيد من الإجراءات. من وجهة نظر الحكومة الفنزويلية، هذه ليست مجرد عقوبات، بل "حرب اقتصادية" تهدف إلى خنق الشعب وإسقاط النظام.
وزادت حدة التوتر مع إعلان وزارة العدل الأمريكية اتهامات بحق كبار المسؤولين، بينهم مادورو نفسه، بتهم "الإرهاب المخدراتي"، وعرض مكافآت مالية ضخمة مقابل معلومات تقود إلى اعتقالهم.
تأثير كبير
تفاقمت الأزمة الاقتصادية في فنزويلا بسبب العقوبات الأمريكية التي استهدفت قطاع النفط، المصدر الرئيسي للعائدات الوطنية. وفقًا ل
تقارير اقتصادية، انخفض إنتاج النفط إلى أقل من 500 ألف برميل يوميًا في 2024، مقارنة بأكثر من 2.5 مليون برميل يوميًا قبل عقد من الزمن، رغم وجود تقارير فنزويلية تتحدث عن إنتاج نحو 1.5 مليون برميل يوميا في العام الحالي 2025.
هذا الانخفاض، إلى جانب التضخم الذي تجاوز 2000 بالمئة سنويًا، أدى إلى نقص حاد في السلع الأساسية، بما في ذلك الغذاء والأدوية، مما زاد من معاناة السكان، الذين يعيش أكثر من 51 بالمئة منهم تحت خط الفقر، ويعاني نحو 89 بالمئة من انعدام للأمن الغذائي، بحسب
تقرير صادر عن "المنظمة الدولية للهجرة".
ورغم تأكيد الحكومة على قدرتها على حماية منشآت النفط، فإن نقص الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا يهدد بمزيد من التدهور الاقتصادي، مما يجعل التعبئة الشعبية أكثر تعقيدًا في ظل استياء شعبي متزايد.
وتفاقمت الأزمة الإنسانية في فنزويلا خلال السنوات الماضية، حيث أدت العقوبات إلى ارتفاع معدلات الفقر إلى أكثر من 80 بالمئة، مع انهيار للقطاع الصحي، ونقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية. كما تسبب التدهور الاقتصادي في هجرة جماعية، حيث غادر أكثر من سبعة ملايين شخص البلاد منذ 2015، مما يشكل ضغطًا كبيرًا على الدول المجاورة.
الاستراتيجية الأمريكية
من وجهة نظر واشنطن، تأتي العمليات العسكرية في جنوب البحر الكاريبي ضمن استراتيجية أوسع لمكافحة تهريب المخدرات، التي تُعتبر فنزويلا مركزًا رئيسيًا لها بحسب
تقارير الإدارة الأمريكية لمكافحة المخدرات (DEA).
أكد مسؤولون في البنتاغون أن العملية تهدف إلى "ردع الشبكات الإجرامية" التي يُزعم أنها تتلقى دعمًا من مسؤولين فنزويليين. كما أن الولايات المتحدة ترى في العقوبات الاقتصادية أداة للضغط من أجل استعادة الديمقراطية، مشيرة إلى الانتخابات المتنازع عليها وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع ذلك، يرى محللون أن هذه الإجراءات قد تكون مدفوعة أيضًا برغبة في تأمين النفوذ الجيوسياسي في منطقة غنية بموارد النفط، خاصة في ظل التنافس مع قوى مثل الصين وروسيا، الحليفتين الرئيسيتين لكاراكاس، بحسب تقرير لمجلة "
فوربس".
وقوبل التصعيد الأمريكي على فنزويلا برفض حاد من قبل روسيا والصين، الحليفتان الرئيسيتان لكاراكاس، حيث وصفتا العملية بأنها "انتهاك للسيادة الوطنية". وقدمت موسكو دعمًا عسكريًا من خلال تزويد فنزويلا بمعدات دفاعية، بينما أكدت بكين استمرار استثماراتها في البنية التحتية الفنزويلية.
على صعيد دول الجوار، عبّرت كولومبيا عن قلقها إزاء التوترات الحدودية، خاصة مع استضافة أكثر من مليوني لاجئ فنزويلي، بينما دعت البرازيل إلى الحوار لتجنب التصعيد. كما دعت منظمة الدول الأمريكية إلى اجتماع طارئ، لكن انقساماتها الداخلية حالت دون التوصل إلى موقف موحد.
استدعاء بوليفار.. "رسالة جامايكا"
في مواجهة هذا المشهد، أعلن الرئيس مادورو أن بلاده ستلجأ إلى "الكفاح المسلح" دفاعًا عن سيادتها، وهدد بإسقاط أي طائرات معادية، ما عزز أجواء التعبئة الشاملة في الداخل.
ضمن هذه التعبئة، لجأت الحكومة إلى التاريخ لتأطير الصراع الراهن باعتباره استمرارًا لمعركة التحرير ضد الاستعمار، وهو نهج أيديولوجي أرسى قواعده الرئيس الراحل هوغو تشافيز، الذي بنى مشروعه السياسي بأكمله حول فكرة "الثورة البوليفارية".
فقد أعادت كاراكاس إحياء "رسالة جامايكا" التي كتبها سيمون بوليفار عام 1815، حيث رسم فيها ملامح مشروع وحدة أمريكا اللاتينية في مواجهة الإمبراطورية الإسبانية. وفي هذا الإطار صرح وزير الخارجية إيفان خيل مؤخرًا بأن الرسالة "لا تزال سارية المفعول"
بوليفار، الذي يُلقب بـ"المحرر"، قاد حركات الاستقلال في دول عدة بأمريكا الجنوبية مطلع القرن التاسع عشر. ويحتل مكانة شبه مقدسة في الوعي الوطني الفنزويلي، مما يجعل استدعاء إرثه أداة نفسية وسياسية شديدة التأثير، علما أنه كتب الرسالة الشهيرة إبان كان منفيا في جامايكا حينها.
في نظر القيادة الحالية، استدعاء إرثه لا يقتصر على الاحتفاء بالماضي، بل يهدف إلى إضفاء شرعية تاريخية على مواجهة الولايات المتحدة باعتبارها "إمبراطورية جديدة" تسعى للسيطرة على موارد البلاد.
من الخطاب إلى الميدان
الاستناد إلى بوليفار لا يبقى في إطار الخطاب الرمزي، بل يُترجم إلى سياسات وإجراءات على الأرض. فقد قادت شخصيات بارزة مثل ديوسدادو كابيلو مسيرات وتدريبات ميدانية مع مجموعات شبابية، في رسالة بأن الدفاع عن البلاد مسؤولية جماعية.
كما عمدت القوات المسلحة البوليفارية إلى دمج الميليشيات الشعبية في هيكل الدفاع الوطني، ووصفتها بأنها "كتلة متجانسة" للدفاع عن السيادة، ما يعكس استراتيجية "الدفاع الشعبي المتكامل" التي تسعى إلى جعل أي تدخل عسكري خارجي مكلفًا.
بجانب ذلك، تحرص الحكومة على طمأنة الداخل بشأن الموارد الاستراتيجية، مؤكدة أن منشآت النفط
قادرة على الاستمرار في الإنتاج رغم أي تهديد خارجي.
موقف المعارضة
في خضم هذا التصعيد، تجد المعارضة الفنزويلية نفسها في موقف معقد، حيث كشف التوتر عن انقسامات عميقة في صفوفها حول كيفية التعامل مع الأزمة.
فمن جهة، يرى الجناح الأكثر تشددًا، الذي تمثله شخصيات مثل ماريا كورينا ماتشادو، أن الضغط الدولي والعقوبات الأمريكية هي الأدوات الوحيدة الفعالة لإجبار حكومة نيكولاس مادورو على التغيير. هذا التيار يرى أن أي تخفيف للضغط هو بمثابة طوق نجاة للنظام، ويعتبر أن الأولوية هي "إنهاء الديكتاتورية" حتى لو تطلب ذلك دعم إجراءات خارجية قاسية.
على الجانب الآخر، هناك جناح أكثر اعتدالًا، يمثله نواب مثل برنابي غوتيريز، يرفض أي شكل من أشكال التدخل العسكري ويدعو إلى الحفاظ على السيادة الوطنية فوق كل اعتبار. ويخشى هذا التيار أن يؤدي التصعيد إلى حرب أهلية أو فقدان للسيادة، ويفضل الحلول التفاوضية.
كما قال النائب المعارض في البرلمان خوسيه بريتو إنه مستعد للقتال ضد الولايات المتحدة، وأجاب عندما سُئل عما إذا كان سينضم إلى القوات الشعبية الرديفة للجيش: "المسألة ليست مسألة انضمامي، بل مسألة استعدادي للدفاع عن بلدي، لأنه عندما تدافع عن بلدك، لا لون له ولا تمييز؛ أنت تدافع عن نفسك، نقطة على السطر".