يشبه
لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء
مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين
والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق
الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة
التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله،
مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد
الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا
يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت
هذه
الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان
به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.
من هنا، يخصص موقع
"عربي 21"
سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة
للطائفة الشيعية، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الطوائف، واستكشاف
خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع
اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ
معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً
على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.
تمرّ الطائفة الشيعية في لبنان اليوم،
بمنعطفٍ تاريخيٍّ حادّ لم تعرف مثيلاً له منذ الاستقلال. فبعد أن شكّلت على مدى
أكثر من عقدين المقاومة الوحيدة في وجه إسرائيل، والعمود الفقري لما عُرف
بـ"محور الممانعة" الذي ضمّ إيران وسوريا واليمن والمقاومة في كل من
لبنان وفلسطين، وجدت نفسها أمام تفكك بنيوي وسريع لهذا المحور.
تمرّ الطائفة الشيعية في لبنان اليوم، بمنعطفٍ تاريخيٍّ حادّ لم تعرف مثيلاً له منذ الاستقلال. فبعد أن شكّلت على مدى أكثر من عقدين المقاومة الوحيدة في وجه إسرائيل، والعمود الفقري لما عُرف بـ"محور الممانعة" الذي ضمّ إيران وسوريا واليمن والمقاومة في كل من لبنان وفلسطين، وجدت نفسها أمام تفكك بنيوي وسريع لهذا المحور.
وبعدما نجحت في فرض
نفسها عبر ثنائي "أمل" و"حزب اللله" كشريك أساسي في صناعة
القرار السياسي، اغتالت إسرائيل قائدها الرمز السيد حسن نصرالله واحتلت عدداً من
البلدات الشيعية في الجنوب، فتغيّرت موازين القوى التي فرضها الثنائي الشيعي في
الميدان وفي السياسة طوال 24 عاماً. هذه التطورات الدراماتيكية انعكست بصورة أوسع
على هوية الطائفة برمّتها، التي لطالما ارتبطت – في الوعي اللبناني والإقليمي ـ
بفكرة المقاومة من جهة، وبالنفوذ الإيراني في الداخل اللبناني من جهة أخرى. ومع
انحسار هذين الركنين، تجد الطائفة الشيعية نفسها أمام سؤال مصيري: كيف تُعيد صياغة
حضورها السياسي والاجتماعي في وطن مأزوم وإقليم متغيّر؟
الخصائص الاجتماعية والدينية
الطائفة الشيعية الاثني عشرية هي إحدى
الطوائف الإسلامية الكبرى في لبنان، إذ يشكّل أتباعها ما يقارب ثلث سكان البلاد
وفق التقديرات غير الرسمية (نظراً إلى غياب إحصاء رسمي شامل في لبنان) لكنّ معظم
التقديرات البحثية تشير إلى أنّ
الشيعة يشكّلون ما بين 30 و32% من السكان، ويتركز
ثقلهم الديمغرافي في الجنوب من صور إلى النبطية، وفي البقاع الشمالي والأوسط
خصوصاً في بعلبك – الهرمل، ويتوزعون في جبل لبنان على عدد من القرى المتفرقة من
بينها كيفون والقماطية في قضاء عاليه ولاسا والمغيري في قضاء جبيل والمعيصرة في
كسروان وفي بعض أحياء بيروت العاصمة ولا سيما في الدائرة الثانية التي تتمثل بنائب
شيعي في البرلمان، وكذلك في الضاحية الجنوبية لبيروت التي صارت بمثابة
"العاصمة السكانية والسياسية" للطائفة بعد الحرب الأهلية. هذا التوزع
جعل منهم كتلة ديمغرافية وازنة ومتماسكة، قادرة على تشكيل ثقل انتخابي وسياسي يصعب
تجاوزه.
من الناحية الدينية، يتّبع شيعة لبنان
المذهب الجعفري الإثني عشري، وارتبطوا تاريخياً بالحوزات العلمية في النجف الأشرف
في العراق، قبل أن يتعزز ارتباطهم لاحقاً بمدينة قم الإيرانية مع صعود الثورة
الإسلامية في إيران عام 1979 وامتداد تأثيرها إلى لبنان. هذا البعد المذهبي عزّز
شعورهم بالانتماء إلى فضاء شيعي أوسع، يتجاوز حدود لبنان، ما جعلهم على تماس مباشر
مع تطورات العراق وإيران.
وللطائفة الشيعية في لبنان، ككل الطوائف
الكبرى، شبكة واسعة من المؤسسات التي نشأت أساساً لسدّ فراغ الدولة، خصوصاً في
المناطق المهمّشة والمدن المركزية على حدّ سواء.
في مجال التعليم:
ـ شبكة من المدارس التابعة لجمعية
"المبرّات الخيرية" التي أسّسها المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
ـ مدارس وجامعات مثل جامعة الجامعة
الإسلامية في لبنان (تابعة للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) وجامعة المعارف (مرتبطة مباشرة بحزب الله)
في مجال الصحة:
ـ مستشفيات ومستوصفات تديرها جمعية
المبرّات، أو "الهيئة الصحية الإسلامية" التابعة لـ"حزب الله"
ـ مستشفى بهمن (في الضاحية الجنوبية) يُعتبر
مركزياً ويُدار من قبل حزب الله.
ـ مستشفى الرسول الأعظم الذي يتمتع بشهرة
واسعة في معالجة الأمراض القلبية
في مجال الخدمات الاجتماعية:
ـ مؤسسات رعاية أيتام
ـ جمعيات تنموية
ـ شبكات دعم للفقراء
هذه المؤسسات وفّرت لأبناء الطائفة الشيعية
مظلّة اجتماعية لا تقل أهمية عن المظلّة السياسية ما عزز من مكانة الطائفة وجعلها
أكثر تنظيماً وقدرة على التأقلم مع مختلف الظروف والأزمات الاقتصادية مقارنة
بطوائف أخرى.
وبحسب القانون اللبناني، "الطائفة
الاسلامية الشيعية مستقلة في شؤونها الدينية وأوقافها ومؤسساتها ولها ممثلون من
أبنائها يتكلمون بلسانها ويعملون باسمها طبقاً لاحكام الشريعة في إطار الفتاوى
الصادرة عن مقام المرجع العام للطائفة في العالم". وقد صادق مجلس النواب
اللبناني في العام 1967 على تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بفضل الإمام
السيد موسى الصدر، الذي يُعتبر رئيسًا مؤسِّسًا له مدى الحياة، تكريماً له بسبب
دوره التأسيسي واختفائه القسري، إذ انتُخِب كأول رئيس له في العام 1969 واستمرّ
حتى اختفائه المفاجئ والمريب عام 1978 في ليبيا، ما أكسبه هذه الصفة الاستثنائية.
ويتولى المجلس تنظيم أوقاف الطائفة ويعمل على إحيائها وتنسيق الجهود في ما بينها
ويقوم بمشاريع جديدة اذا لزم الامر للمساهمة في رفع المستوى الفكري والروحي
والمادي لأبناء الطائفة.
الشيعة قبل الاستقلال وبعده
على الرغم من حضورهم التاريخي في جبل عامل
والبقاع وساحل المتن الجنوبي، بقي الشيعة قبل استقلال لبنان في موقع الطرف المهمّش
داخل النظام السياسي والاجتماعي. إذ هيمن الموارنة والسُّنّة على مقاليد الحُكم
منذ العهد العثماني، ثمّ تعزّز ذلك في ظل الانتداب الفرنسي، فيما بقي الشيعة على
هامش الإدارة المركزية، يعانون من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي.
واتّسمت العلاقة بين الشيعة والعثمانيين بالريبة، إذ كان يُنظر إليهم كجماعة "متمردة" بسبب ميولهم التاريخية نحو إيران (الصفوية) وعدائهم السياسي لسلطة الباب العالي. وقد شهد جبل عامل في القرن التاسع عشر حملات عسكرية عثمانية متكررة لقمع الانتفاضات المحلية، أبرزها حملات العام 1860 وما بعدها.
وكانت الدولة العثمانية قد اعتمدت نظام
"الملل" الذي أعطى امتيازات خاصة للطوائف الدينية، لكن الشيعة لم يُعترف
بهم كمكوّن مستقل بل وُضعوا تحت خانة "المسلمين" التي كانت تُدار عبر
النخب السنيّة في المدن الكبرى مثل بيروت وطرابلس وصيدا. أما في جبل عامل والبقاع،
فكان نفوذ الشيعة محليّاً ضيقاً عبر زعامات إقطاعية (آل الأسعد، آل الزين، آل
حمادة) لم ترتقِ لتكون شريكة فعلية في السلطة المركزية.
واتّسمت العلاقة بين الشيعة والعثمانيين
بالريبة، إذ كان يُنظر إليهم كجماعة "متمردة" بسبب ميولهم التاريخية نحو
إيران (الصفوية) وعدائهم السياسي لسلطة الباب العالي. وقد شهد جبل عامل في القرن
التاسع عشر حملات عسكرية عثمانية متكررة لقمع الانتفاضات المحلية، أبرزها حملات
العام 1860 وما بعدها.
لاحقاً وفي ظل الانتداب الفرنسي (1920 –
1943) وبعد إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، رسّخ الفرنسيون هيمنة الموارنة على
رأس الدولة ورجّحوا كفة السُّنّة كشركاء أساسيين، فيما استمرّ تهميش الشيعة في
التمثيل النيابي والإداري إذ لم يحصل الشيعة في أول مجلس نيابي (1927)، إلا على
عدد محدود من المقاعد لا يعكس حجمهم الديموغرافي، وبقيت الوزارات الأساسية بعيدة
عن متناولهم.
ومع بدء الحركة الاستقلالية بدا الشيعة أقرب
إلى الموارنة الراغبين بالاستقلال من السنة المتمسكين بالوحدة العربية وذلك على
الرغم من مشاركتهم في الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927) الثورة التي اندلعت
بسبب اقتحام الفرنسيين بيت سلطان باشا الأطرش في السويداء لاعتقال الثائر الشيعي
أدهم خنجر. برزت شخصيات شيعية في الجنوب والبقاع شاركت في النضال السياسي والفكري
ضد الاستعمار، وأسهمت في ترسيخ فكرة الكيان اللبناني. وكان من بين هؤلاء صبري
حمادة، الذي تولّى لاحقاً رئاسة مجلس النواب، وعادل عسيران الذي شارك في صياغة
الميثاق الوطني عام 1943، إلى جانب شخصيات وطنية من مختلف الطوائف.
غير أنّ مساهمة الشيعة في معركة الاستقلال،
على أهميتها، لم تُترجم لاحقاً بحضور وازن في السلطة، إذ بقيت مواقع القرار
الفعلية محصورة بين الموارنة والسنّة بشكل أساسي.
في العقود التي تلت الاستقلال، ظلّت الطائفة
الشيعية في موقع الطرف المُهمَّش. فمناطقها الأساسية، أي الجنوب والبقاع، بقيت
الأكثر فقراً والأقل حظاً في التنمية والخدمات لأن الدولة المركزية أهملت تلك
المناطق، وأبقتها محرومة من شبكات الطرق والكهرباء والمدارس الرسمية والمستشفيات،
في حين حظيت بيروت وجبل لبنان المسيحي باستثمارات ضخمة من الدولة.
وفي موازاة ذلك، أسّس المسيحيون مدارس خاصة
وجامعات ومستشفيات لكنها تمركزت في العاصمة والمدن الساحلية ما أدى إلى حرمان
الأرياف ومناطق الأطراف من تلك الخدمات وبالإضافة إلى ذلك الحرمان، تُركت قرى جنوب
لبنان مكشوفة أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ نكبة فلسطين (1948) من
جهة، وأمام النزوح الداخلي المتزايد نحو بيروت وضاحيتها الجنوبية من جهة ثانية.
هذا الواقع غذّى شعوراً بالغبن لدى أبناء
الطائفة، ورسّخ لديهم قناعة بأنّ النظام القائم لا يمنحهم موقعاً عادلاً فتنامى
الإحساس الجماعي بـ"المظلومية" منذ الأربعينات، وعبّر عنه مثقفون وزعماء
محليون مثل كامل الأسعد وصبري حمادة الذين اشتكوا مراراً من غياب التنمية
المتوازنة، ما مهّد لاحقاً لظهور حركات احتجاجية أكثر تنظيماً، تُوّجت مع بروز
الإمام موسى الصدر في ستينات القرن العشرين حاملاً شعار "رفع الحرمان"
كمطلب جامع للطائفة.
وبالحديث عن الزعماء المحليين، تجدر الإشارة
إلى أن الزعامة السياسية الشيعية بقيت محتكرة من بعض العائلات البارزة في الجنوب
والبقاع، مثل آل الأسعد والزين وحمادة والخليل وعسيران. لكن هذه الزعامات
التقليدية ظلّت أسيرة اللعبة السياسية الضيقة، ولم تتمكن من نقل الطائفة إلى موقع
أكثر تأثيراً أو معالجة معاناتها الاجتماعية والاقتصادية.
في المقابل، برزت أسماء شيعية في الحقل
الفكري والثقافي كان لها تأثير أبعد من الطائفة نفسها. فالسيد محسن الأمين مثّل
صوتاً إصلاحياً دينياً دعا إلى تجديد الخطاب الإسلامي والانفتاح على العصر، والسيد
عبد الحسين شرف الدين في صور كان مرجعاً دينياً واجتماعياً واجه الاستعمار
الفرنسي. وفي المجال الفكري، لمع اسم المفكر الماركسي حسين مروة، ثم الفيلسوف حسن
حمدان المعروف بمهدي عامل، اللذين قدّما إسهامات كبرى في الفكر النقدي والسياسي
قبل أن يتم اغتيالهما بأيدٍ شيعية خلال الحرب الأهلية. هؤلاء المثقفون جسّدوا حضور
الشيعة في قلب الحركة الوطنية والفكرية اللبنانية، لا على هامشها.
ولم ينكفئ الشيعة عن القضايا الوطنية
والإقليمية الكبرى فانخرط العديد من مثقفيهم ونخبهم في الحركات القومية واليسارية
التي ازدهرت في الخمسينيات والستينيات، وكان بينهم بعثيون وناصريون وشيوعيون.
وبحكم الجغرافيا، كان الجنوب الشيعي على تماس مباشر مع الصراع العربي ـ
الإسرائيلي، ما جعل القضية الفلسطينية جزءاً من الوعي الجماعي للطائفة.
وصول الإمام موسى الصّدر
بين الاستقلال (1943) واندلاع الحرب الأهلية
(1975) بقي الشيعة شركاء شكليين في نظام المحاصصة، من دون أن يمتلكوا سلطة فعلية
أو نفوذاً موازياً لوزنهم الديمغرافي. غير أن الإمام موسى الصدر، أحدث تحولاً
جذرياً في مسار الطائفة ونقَلَها تدريجياً من موقع "المهمَّش" إلى موقع
"المطالِب"، واضعاً الأسس لحركة سياسية واجتماعية ستغيّر وجه لبنان
لاحقاً.
وصل الإمام الصدر إلى صور أواخر العام 1959
كممثل للمرجعية الدينية العليا في قم، وبدأ مسيرة بناء مجتمع حيوي للسكان الشيعة
في لبنان عبر تأسيس العديد من المؤسسات الدينية والاجتماعية والخيرية، والمدراس
والمنظمات بما فيها أفواج المقاومة اللبنانية "أمل".
صحيحٌ أن الإمام الصدر ولد في مدينة قم
الإيرانية وتلقى دروسه الأكاديمية والدينية فيها، إلا أنه سرعان ما أصبح رمزاً
لبنانياً شيعياً جامعاً. فقد أعاد الاعتبار للطائفة داخل الدولة عبر تأسيس المجلس
الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1967، وهو الإطار الرسمي الأول الذي منحها صوتاً
مؤسساتياً. ثم أطلق في العام 1974 "حركة المحرومين" التي رفعت شعار
الدفاع عن كل اللبنانيين المهمشين، مع تركيز خاص على الجنوب والبقاع. وتميز بخطابه
الوطني العابر للطوائف، وفي الوقت نفسه
تميز بكونه مؤسس الوعي الشيعي الجديد الذي يقوم على رفض الحرمان والتهميش، وعلى
المطالبة بالعدالة والمشاركة الكاملة في الدولة.
ولكن، مع تصاعد التوترات الأمنية واندلاع
الحرب الأهلية، أُلحِق بالحركة جناحٌ عسكري يحمل اسم "أفواج المقاومة
اللبنانية" (أمل)، تأسس في 20 كانون الثاني يناير 1975، على يد الصدر، لحماية
المجتمع الشيعي والدفاع عن مناطقه.
لم ينكفئ الشيعة عن القضايا الوطنية والإقليمية الكبرى فانخرط العديد من مثقفيهم ونخبهم في الحركات القومية واليسارية التي ازدهرت في الخمسينيات والستينيات، وكان بينهم بعثيون وناصريون وشيوعيون. وبحكم الجغرافيا، كان الجنوب الشيعي على تماس مباشر مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ما جعل القضية الفلسطينية جزءاً من الوعي الجماعي للطائفة.
ولعل التحوّل السريع من حركة اجتماعية
للمحرومين إلى "ميليشيا دفاعية" خلال أقلّ من عام يعكس مدى الضغط الذي
واجهه المجتمع الشيعي، والرغبة في حماية وجوده بعدما نجح الإمام الصدر في تكوين
هوية شيعية سياسية واجتماعية واعية ذات أدوات سياسية واجتماعية وعسكرية (مثل
المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حركة المحرومين، حركة أمل....)
لاحقاً، وبعد اختفاء الإمام الصدر في ظروف
غامضة خلال زيارته ليبيا (1978)، انطلق ما يشبه السباق على خلافته في الحركة،
إنتهى بتزعّم المحامي السيد حسين الحسيني (رئيس المجلس النيابي الأسبق) للحركة
وخلفه نبيه بري (رئيس المجلس النيابي منذ العام 1992). أما في المجلس الشيعي
الأعلى فعُيّن الشيخ محمد مهدي شمس الدين نائباً أول للرئيس، وتولى عملياً إدارة
شؤون المجلس إلى أن انتُخب شمس الدين رسمياً في العام 1994 رئيساً للمجلس الإسلامي
الشيعي الأعلى واستمر حتى وفاته عام 2001، ليتسلم بعده الشيخ عبد الأمير قبلان
رئاسة المجلس. وفي هذا الوقت، لعب العلامة السيد محمد حسين فضل الله دور المرجعية
الدينية والاجتماعية الأكثر تأثيراً بين جمهور واسع من الشيعة وإن كان خارج الإطار
الرسمي للمجلس.
اتخذت حركة أمل تحت قيادة نبيه بري دورًا
سياسيًا وعسكريًا بارزًا في الحرب الأهلية، وأصبحت قوة مؤثرة في المجلس النيابي
وفي قرار الدولة اللبنانية، إلى أن أنشئ حزب الله بُعيد الاجتياح الإسرائيلي
للبنان (1982) بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني، وبالتعاون مع سوريا. وقدّم
الحزب نفسه في بيانه التأسيسي الذي صدر عام 1985 كـ"حركة مقاومة
إسلامية" تهدف إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ونصرة المستضعفين، وإقامة
نظام سياسي يستند إلى ولاية الفقيه.
الانخراط بالحرب الأهلية
عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، انخرط
الشيعة تدريجياً في القتال، بدايةً عبر الحركة الوطنية اللبنانية وبعض التنظيمات
اليسارية، ثم عبر حركة "أمل" التي شكّلها الإمام الصدر كما سبقت الإشارة واستكملت مسيرته بعد تغييبه.
خلال تلك المرحلة، وجد الشيعة أنفسهم طرفاً فاعلاً في المعادلة العسكرية
والسياسية، وشاركوا في المواجهات مع القوى المسيحية والسنّية واليسارية على حد
سواء.
واندفعت حركة أمل تحت قيادة نبيه بري، إلى
لعب أدوار مباشرة، لا سيما في الحرب ضد المخيمات الفلسطينية (1985–1988) المعروفة
بـ"حرب المخيمات"، وضد الميليشيات المسيحية في بعض قرى صيدا وضواحي
بيروت، فاتُهمت بمحاصرة وتصفية قوى فلسطينية، كما اتُهمت بارتكاب سلسلة من
الاغتيالات بحق أعضاء في الحزب الشيوعي اللبناني وأحزاب يسارية أخرى. وقد اعتُبرت
تلك المرحلة بداية صعود حركة أمل كذراع رئيسي للسياسة السورية في لبنان.
أما حزب الله فكان قد نشأ بدعم مباشر من
الحرس الثوري الإيراني الذي أقام مخيمات تدريب عسكري في البقاع، بهدف مقاومة
الاحتلال الإسرائيلي، معتبراً نفسه وريثاً لمشروع الإمام الخميني العابر للحدود.
لذلك تميّز حزب الله خلال سنواته الأولى بممارسات مختلفة عن أمل. فقد تبنى خطاباً
دينياً ثورياً، ونفّذ عمليات نوعية ضد القوات الإسرائيلية في الجنوب وضد قوات
المارينز الأميركية والفرنسية في بيروت (1983) وارتبط اسمه بخطف الرهائن الغربيين
في الثمانينيات، وبفضله تمايز الشيعة أكثر فأكثر عن بقية الطوائف بانخراطهم
المباشر في التصدي لإسرائيل، وهو ما أعاد رسم هويتهم الوطنية والسياسية على نحو
جديد.
ارتبط اسم الطائفة الشيعية ارتباطاً وثيقاً
بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في الجنوب والبقاع الغربي. منذ "عملية
الاستشهادي أحمد قصير" عام 1982 وحتى الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، صار حزب
الله ـ مدعوماً ببيئة شيعية حاضنة ـ رأس الحربة في العمليات العسكرية ضد الجيش
الإسرائيلي. وبذلك، تحوّلت الطائفة الشيعية إلى رمز للصمود والممانعة ونالت
تقديراً واسعاً تجاوز حدود لبنان.
لكن، خلال سنوات الحرب الأهلية، وقع صدام
كبير بين حزب الله وحركة أمل (1988–1990)، عُرف بـ"حرب الإخوة". هذه
الحرب الدامية بين الحركتين الشيعيتين حصدت آلاف القتلى، وكادت أن تضعف موقع
الشيعة في لحظة حاسمة من مسار الحرب الأهلية، قبل أن تنجح سوريا وإيران في فرض
تسوية داخلية أنهت النزاع المسلح بين "الإخوة" وأبقت على تعدد الأدوار
للحفاظ على وجود كلٍّ من حزب الله وحركة أمل كقوة سياسية وعسكرية داخل الطائفة
الشيعية.
وفي تلك الفترة، سُجلت سلسلة اغتيالات
استهدفت قادة شيوعيين ويساريين: أبرزهم مهدي عامل (حسن حمدان) وهو مفكر بارز في
الحزب الشيوعي اللبناني، اغتيل في بيروت عام 1987، وحسين مروة وهو كاتب ومفكر
ماركسي، اغتيل في منزله في بيروت أيضاً عام 1987، وخليل نعوس وهو قيادي في الحزب
الشيوعي، اغتيل في الجنوب عام 1986. هذه الاغتيالات نُسبت إلى المجموعات
الإسلاميةال شيعية (خصوصًا حزب الله أو مقربين منه)، ووُضعت في إطار تصفية حسابات
أيديولوجية (الإسلام السياسي مقابل الفكر الماركسي) غير أن الحزب لم يتبنَّ يوماً
تلك العمليات.
صعود حزب الله وتشكل الثنائي الشيعي
شكّل اتفاق الطائف (1989) نقطة تحوّل كبيرة
في إعادة صياغة الحياة السياسية اللبنانية بعد الحرب الأهلية، وكان له أثر مباشر
على الطائفة الشيعية ودورها السياسي. منذ التسعينيات، بدأ "الثنائي
الشيعي" المكوّن من حركة أمل وحزب الله يفرض حضوره كقوة متماسكة داخل النظام
السياسي اللبناني. فالاتفاق الذي وضع حداً للحرب الأهلية، نصّ على حل كل
الميليشيات اللبنانية، لكن "المقاومة" ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب
اعتُبرت استثناءً. وهذا البند شكّل أساساً لبقاء سلاح "حزب الله"، فيما
جرى تحويل حركة أمل بالكامل إلى قوة سياسية برلمانية وحكومية. وبذلك وُلدت صيغة
تكاملية غير مكتوبة: "أمل"تتولى العمل السياسي و"حزب الله"
يتولى العمل العسكري المقوم وهكذا شكّل الثنائي الشيعي، مع الوقت، القوة الأكثر
تأثيراً في القرار اللبناني وضَمِنا للطائفة وحدةً نادرة، وجعلاها رقماً صعباً في
أي معادلة سياسية أو انتخابية.
ارتبط اسم الطائفة الشيعية ارتباطاً وثيقاً بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في الجنوب والبقاع الغربي. منذ "عملية الاستشهادي أحمد قصير" عام 1982 وحتى الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، صار حزب الله ـ مدعوماً ببيئة شيعية حاضنة ـ رأس الحربة في العمليات العسكرية ضد الجيش الإسرائيلي. وبذلك، تحوّلت الطائفة الشيعية إلى رمز للصمود والممانعة ونالت تقديراً واسعاً تجاوز حدود لبنان.
بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في 25
أيار مايو 2000 كما بعد انتهاء حرب تموز 2006 إرتفع رصيد حزب الله بشكل غير مسبوق،
باعتباره القوة التي حققت "التحرير" وكسرت شوكة إسرائيل فبات قوة سياسية
وشعبية مركزية، وبدأ يشارك بفاعلية أكبر في البرلمان والحكومة أما حركة أمل فحافظت
على موقعها السياسي الرسمي عبر رئاسة المجلس النيابي والمقاعد الوزارية، لكنها لم
تعد تمتلك الشعبية ذاتها في الشارع الشيعي فولد توزيع جديد للأدوار يقوم على دور
"أمل" كمرجعية سياسية شرعية داخل النظام فيما "حزب الله"
مرجعية مقاومة وحامية الحدود مع تمدد تدريجي نحو السياسة الداخلية.
ولعل أحداث أيار مايو 2008 هي المفصل الأكثر
أهمية بالنسبة لمشاركة الطائفة الشيعية في الحياة السياسية. فبعد تلك الأحداث، حين
لجأ حزب الله وحلفاؤه إلى القوة العسكرية بوجه خصومه في فريق "14 آذار"
ولا سيما تيار المستقبل (السنة) والحزب التقدمي الاشتراكي (الدروز) تبين أن الكلمة
الفصل في الساحة الشيعية باتت للحزب عسكرياً وسياسيًا. فأثبت حزب الله أنه القوة
القادرة على الحسم الميداني، وفرض شروطه في اتفاق الدوحة (الحصول على الثلث المعطل
في الحكومة) فيما حافظت حركة أمل على موقع الشريك الداعم والمكمّل، وبقيت الواجهة
البرلمانية والسياسية الرسمية، فيما تركزت قوة الفعل بيد حزب الله. من هنا، تكرّست
صيغة "الثنائي الشيعي" كجبهة موحّدة: الحزب يمسك بزمام الأمن والمقاومة،
وأمل تضبط السياسة والتمثيل الرسمي داخل النظام.
ما بعد حرب الإسناد
شكّلت حرب العام 2024 وما تلاها من أحداث
دراماتيكية متسارعة في المنطقة محطةً مفصلية في تاريخ الشيعة في لبنان. فاغتيال
نصرالله وكبار قادة حزب الله لم يكن خسارة عسكرية فحسب، بل مثّل أيضاً هزيمة
سياسية ومعنوية للطائفة بأسرها. فبعد عقود من تقديم نفسها كطائفة المقاومة التي لا
تُقهر، وجدت نفسها أمام واقع قاسٍ: انكسار أمام العدو الإسرائيلي الذي أعاد احتلال
عدد من القرى الجنوبية واستمر في اغتيال الحزبيين، عسكريين كانوا أم سياسيين،
وتفكك المحور الإقليمي بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
علماً أن المحور الإقليمي الذي سُمي محور
الممانعة ضد الوايات المتحدة وإسرائيل، لم يتأسس في سنة محددة بقرار رسمي أو
معاهدة، بل تبلور تدريجياً في سياق الأحداث الإقليمية بعد العام 2000 وتحديداً بعد
تحرير جنوب لبنان في 25 أيار مايو حين برز "حزب الله" كقوة فاعلة في
لبنان وفي الوقت نفسه كانت إيران تعزز خطاب "الممانعة" خصوصاً بعد حرب
أفغانستان (2001) وغزو العراق (2003) وتسعى إلى تشكيل تحالف إقليمي في مواجهة
المشروع الأميركي في المنطقة.
وابتداءً من صيف العام 2006 وتحقيق انتصار
تموز على العدوان الإسرائيلي على لبنان صار المصطلح شائعاً في الخطاب السياسي
والإعلامي العربي، في مقابل ما سُمّي "محور الاعتدال" الذي ضمّ دولاً
عربية حليفة للولايات المتحدة مثل السعودية ومصر والأردن.
تراجعت صورة "المقاومة" في نظر
جزء من الرأي العام اللبناني والعربي وخصوصاً أن نموذج انتصار تموز 2006 وما تلاه
من وحدة في الصف الشيعي ونشاط في إعادة الإعمار وحراك سياسي لتعزيز موقع حزب الله
في السلطة، ضُرب تماماً هذه المرة وسط حالة من التباين غير المعلن بين توجهات
الحزب والحركة من جهة، والغموض بشأن حقيقة استمرار الدعم الإيراني للحزب من جهة
ثانية. هذا الواقع فرض على الطائفة أن تعيد النظر في تموضعها محلياً وإقليمياً.
فالمعركة لم تعد فقط ضد إسرائيل، بل باتت داخلية أيضاً: كيف تحافظ على وحدة صفها؟
كيف تتكيّف مع تراجع نفوذ الحزب؟ وكيف توازن بين هويتها اللبنانية وانتمائها إلى
فضاء إقليمي أوسع يتعرض بدوره للاهتزاز؟
في الخلاصة، تقف الطائفة الشيعية اليوم أمام
خيارين: إمّا الاستمرار في نهج السلاح والمقاومة حتى لو أثقلها الفشل والهزائم،
وإمّا الانخراط في عملية مراجعة جذرية تعيد صياغة دورها في الدولة اللبنانية،
بعيداً من الارتهان الإقليمي. التحدي الأكبر يكمن في القدرة على إعادة تعريف
الذات: هل هي طائفة مقاومة فقط، أم شريك وطني كامل في مشروع الدولة؟