الذاكرة السياسية

من تجرع السم إلى شعلة الصمود.. الدماء والسياسة في تاريخ المقاومة الإقليمية

لم تكن نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في عام 1988 نهايةً عسكريةً فقط، بل كانت لحظة مفصلية في التحول الاستراتيجي للنظام الإيراني. جيتي
بين الرمال المتحركة في الشرق الأوسط، حيث لا تزال دماء غزة تسيل بغزارة، تتلوى تحت القصف والحصار، ويخوض لبنان جدلًا محتدمًا حول نزع سلاح المقاومة، ويقف البعض متسائلين عن الثمن الباهظ الذي دفعوه من أجل فلسطين على مدى عقود الاحتلال، تتكشف مأساة لم تنته بعد. المشهد يفرض نفسه كصورة حية لفشل المؤسسات الدولية، بينما يقف زعماء العالم على المنابر، يتداولون الكلمات، من دون أن يكون بينهم رجل رشيد قادر على وقف القتل، ثم البحث في السبل الممكنة لبناء السلام. في هذا الجو، تبدو اللحظة الراهنة وكأنها صدى بعيد لنهاية الحرب العراقيةالإيرانية عام 1988، عندما اضطر الإمام الخميني لقبول قرار وقف إطلاق النار، معبرًا عن مرارة التنازل بعبارة أشبه بتجرع السم، كإقرار ضمني بأن الثورة الإسلامية قد بلغت أقصى طاقتها القتالية، وأن الحفاظ على الدولة أصبح أولوية استراتيجية، حتى لو بدا ذلك تراجعًا عن الشعارات الأولى.

لكن في هذا التجرع، كان هناك أكثر من مجرد خسارة أو هزيمة؛ كان بداية إعادة ترتيب داخلي أعادت توحيد الجبهة الإيرانية خلف قيادتها، وصياغة خطاب تعبوي يجمع بين الدين والسياسة والمقاومة، ويحوّل التجربة إلى أسطورة صمود تتجاوز الحدود. هذه القدرة على تحويل الانكسار إلى استراتيجية وفكر مقاوم، هي ما يربط بين تجربة إيران بعد الحرب العراقية–الإيرانية وتجارب غزة ولبنان اليوم، حيث الصمود يصبح فعلًا حضاريًا وفكريًا، ووعي المقاومة أداة لإعادة ترتيب الأولويات والاصطفافات في مواجهة الاحتلال والتهديدات الخارجية.

وفي قلب هذه اللحظة، تولد فكرة أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، ولا الانتماء الطائفي وحده، بل هي خطاب سياسي واستراتيجي ينسج شبكة تحالفات تمتد من لبنان وفلسطين إلى إيران، مستمدة قوتها من تجربة الانكسار الأولى ومن القدرة على تحويل الألم والدمار إلى وعاء للوعي المقاوم. من هنا، يمكن فهم نشوء محاور المقاومة، ليس فقط بوصفها تحالفات عسكرية، بل كمشروع فكري وسياسي مستمد من تاريخ الصراع، يعيد تعريف العلاقة بين الشعوب والأرض، ويثبت أن الصمود هو السبيل الوحيد لمواجهة الظلم والاحتلال، سواء في بغداد أو طهران أو غزة أو بيروت.

لحظة مفصلية

لم تكن نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في عام 1988 نهايةً عسكريةً فقط، بل كانت لحظة مفصلية في التحول الاستراتيجي للنظام الإيراني. فعندما أعلن الإمام الخميني قبوله قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن (القرار 598)، قال عبارته الشهيرة: "قبولي لهذا القرار كان أشبه بتجرع كأس السم". كانت هذه العبارة تعبيرًا مكثفًا عن مرارة التنازل، لكنه أيضًا إقرار ضمني بأن الثورة الإسلامية ـ في مرحلتها التأسيسية ـ بلغت أقصى طاقتها القتالية، وأن الحفاظ على الدولة صار أولوية استراتيجية، حتى لو بدا ذلك تراجعًا عن الشعارات الأولى.

لقد أنتجت الحرب العراقية ـ الإيرانية، بكل ما فيها من دمار، لحظة "ما بعد الحرب" بوصفها حقلًا خصبًا لإعادة إنتاج الخطاب الإيراني الثوري خارج الحدود. وتحوّلت الشعارات الحماسية التي غذّت الجبهات خلال الحرب إلى خطاب تعبوي جديد يمتد إلى فلسطين، وشيعة الخليج، وجماعات شيعية وسنية وجدت في طهران سندًا سياسيًا وفكريًا وماديًا، في لحظة تراجع عربي شامل، وانكفاء شعارات التحرر داخل أنظمة أنهكها الخوف من شعوبها.
لكن، paradoxically، مثّل هذا "التجرع" لحظة إعادة ترتيب داخلي، ساهمت في توحيد الجبهة الإيرانية خلف قيادتها، بوصفها رمزًا للصمود لا الهزيمة. فرغم الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة، استطاعت القيادة الإيرانية ـ عبر خطاب ديني ـ تعبوي ـ يستند إلى أطروحات شريعتي والصدر، والخميني نفسه ـ أن تحول تلك الحرب إلى أسطورة صمود وممانعة في الوجدان الإيراني، خاصة في مواجهة ما تم تصويره كعدوان بعثي مدعوم خليجيًا وغربيًا.

وفي موازاة هذه التحولات الداخلية، نجحت إيران في تقديم نفسها بعد الحرب كـ"قلعة مقاومة" في وجه "الاستكبار العالمي"، متمثلًا في الولايات المتحدة وإسرائيل. وظهر ذلك مبكرًا جدًا في موقفها من القضية الفلسطينية، حيث قامت إيران بإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران فور انتصار الثورة، وتسليمها رسميًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحديدًا لياسر عرفات، في مشهد رمزي عابر للمذاهب، مؤسس لوعي جديد حول مركزية الصراع مع إسرائيل.

هذا الموقف، الذي لا يمكن فصله عن الرؤية التي طرحها شريعتي حول "الإسلام الثوري"، والتي تقوم على مواجهة الظلم والهيمنة لا بوصفها فقهًا سياسيًا فقط، بل كفعل حضاري مقاوم، ساهم في إعادة تشكيل وعي إسلامي عابر للحدود، وجد فيه الكثير من الحركات الإسلامية السنية، وخاصة في فلسطين ولبنان، خطابًا داعمًا لقضاياهم.

وعلى هذا الأساس، بدأت إيران في بناء شبكة علاقات استراتيجية مع عدد من قادة الحركات الإسلامية العربية، متجاوزة الحواجز المذهبية، ومرسخة فكرة أن المقاومة، وليست الطائفة، هي ما يجب أن يُحدد الاصطفاف السياسي. وكان من أبرز ثمار هذا التوجه دعم نشوء وتطور "حزب الله" في لبنان، والذي بات لاحقًا النموذج الأبرز للجماعة الشيعية المسلحة المرتبطة استراتيجيًا بإيران، في خطابها، وفي بنيتها التنظيمية والعقائدية، وفي مشروعها الإقليمي.

لقد أنتجت الحرب العراقية ـ الإيرانية، بكل ما فيها من دمار، لحظة "ما بعد الحرب" بوصفها حقلًا خصبًا لإعادة إنتاج الخطاب الإيراني الثوري خارج الحدود. وتحوّلت الشعارات الحماسية التي غذّت الجبهات خلال الحرب إلى خطاب تعبوي جديد يمتد إلى فلسطين، وشيعة الخليج، وجماعات شيعية وسنية وجدت في طهران سندًا سياسيًا وفكريًا وماديًا، في لحظة تراجع عربي شامل، وانكفاء شعارات التحرر داخل أنظمة أنهكها الخوف من شعوبها.

هكذا، تبلورت نواة ما سيُعرف لاحقًا بـ"محور المقاومة"، الذي ستتنامى أدواره في العقدين التاليين، في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، وهو المحور الذي يستمدّ مرجعيته من تجربة تلك الحرب، ومن أدبيات ذلك الثلاثي الفكري (شريعتي، الصدر، الخميني) الذين أعادوا تعريف الدين بوصفه أداة تغيير، وساحة مواجهة، وعقيدة سياسية في آن واحد.

العالم العربي السني بعد الحرب.. بين الخوف من "التشيّع" وتكريس التبعية الأمنية

1 ـ الصدمة والانقسام.. هل انتصرت إيران؟

رغم أن الحرب العراقية ـ الإيرانية انتهت دون منتصر عسكري حاسم، فإن المزاج العام في عدد من الأوساط السنية العربية تلقى نهاية الحرب بشيء من القلق، لا الراحة. لقد ظهر أن إيران، رغم الحصار والعزلة، استطاعت أن تصمد أمام آلة الحرب العراقية المدعومة خليجيًا، وأمريكيًا، وسوفياتيًا على حد سواء. بل أكثر من ذلك، خرجت إيران بخطاب تعبوي أعاد ترتيب المشهد في الوجدان الإسلامي الشعبي، لا سيما في قضايا مثل فلسطين، والاستقلال، والممانعة.

كان هذا الواقع مقلقًا للعالم العربي السني، ليس فقط على مستوى الأنظمة، بل على مستوى الخطاب الديني الرسمي الذي لم يكن مستعدًا لخطاب إسلامي بديل، راديكالي، يربط الدين بالثورة والسيادة والمقاومة. ومن هنا بدأت ترتسم ملامح خطاب دفاعي ـ هجومي من بعض المؤسسات الدينية، وعلى رأسها المؤسسة الوهابية في المملكة العربية السعودية، التي نظرت إلى الثورة الإيرانية كـ"مشروع شيعي توسعي" يهدد عقيدة التوحيد.

2 ـ المدرسة الوهابية والرد العقائدي على الثورة

منذ منتصف الثمانينات، بدأت حالة تأهب مذهبي في منطقة الخليج. شيوخ بارزون في المملكة ـ أبرزهم بن باز، وبن عثيمين، ومقبل الوادعي ـ بدأوا بإصدار فتاوى وبيانات تحذيرية ضد "الرافضة" و"المد الصفوي"، معتبرين أن ما جرى في إيران هو خروج عن الإسلام الصحيح، وتغليفٌ للباطنية تحت لافتة الجهاد والمقاومة.

ومع ظهور حزب الله في لبنان بعد الحرب، وازدياد تأثير إيران في شيعة الخليج والبحرين والسعودية والكويت، بدأ الحديث داخل الأوساط الوهابية عن مخاطر التشيع السياسي، لا سيما بعدما بدأت شعارات عاشوراء، والمظلومية، والعداء لأمريكا، تنتقل إلى المجال العام الإسلامي. ومع بداية التسعينيات، تحوّل "التحذير من الشيعة" إلى أجندة عقائدية وسياسية وإعلامية ممنهجة.

3 ـ صدام حسين.. من البعثية إلى الدفاع عن السنّة والصحابة

ما بعد الحرب، ومع تزايد الهواجس الطائفية، شهدنا تحولًا في خطاب نظام صدام حسين نفسه. فالرجل الذي أسس نظامًا علمانيًا بعثيًا قوميًا، قمع فيه كل مظاهر التديّن (سنيًا وشيعيًا)، وجد نفسه فجأة ـ بعد حربه مع إيران ـ يتبنى خطابًا سنّيًا تعبويًا.

خلال فترة التسعينيات، وخصوصًا بعد غزو الكويت، بدأت الدولة العراقية تستخدم رموزًا دينية سنّية في الإعلام والجيش، وأُطلقت أسماء مثل "قادمون يا محمد"، و"الله أكبر" أُضيفت إلى العلم العراقي. بل ظهر صدام في المساجد، وأعاد رعاية بناءها، وأطلق حملات لمحو الأمية الدينية، وبدأ الترويج لنفسه كـ"حامي السنّة" في مواجهة "المد الشيعي الصفوي". هذه الخطوة كانت براغماتية لا عقائدية، هدفها استعادة الشرعية بين جمهور سني بدأ يتململ من انتصار رمزي إيراني.

4 ـ الموقف العربي الرسمي.. الخوف من الثورة أم من الشعوب؟

الأنظمة العربية السنية ـ خصوصًا في الخليج ومصر والمغرب ـ لم تكن تخشى إيران كدولة فقط، بل كانت تخشى "عدوى الثورة" كمفهوم. فالثورة الإسلامية أعادت إلى الواجهة فكرة أن الجماهير قادرة على إسقاط نظام حكم عسكري ـ علماني، وتأسيس دولة على أسس دينية. وكان هذا النموذج مقلقًا، خاصة بعد الصحوة الإسلامية في الثمانينات وظهور الحركات الإسلامية السنية.

رغم أن الحرب العراقية ـ الإيرانية انتهت دون منتصر عسكري حاسم، فإن المزاج العام في عدد من الأوساط السنية العربية تلقى نهاية الحرب بشيء من القلق، لا الراحة. لقد ظهر أن إيران، رغم الحصار والعزلة، استطاعت أن تصمد أمام آلة الحرب العراقية المدعومة خليجيًا، وأمريكيًا، وسوفياتيًا على حد سواء. بل أكثر من ذلك، خرجت إيران بخطاب تعبوي أعاد ترتيب المشهد في الوجدان الإسلامي الشعبي، لا سيما في قضايا مثل فلسطين، والاستقلال، والممانعة.
لذا، لم يكن الصراع مذهبيًا فقط، بل سياسيًا في جوهره: صراع بين ثورة تُعيد الإسلام إلى المجال السياسي، وأنظمة تخشى أن يتحول الدين إلى وقود لثورات داخلية ضدها. فالتشيّع هنا لم يكن مجرد خلاف فقهي، بل أصبح عنوانًا للقلق من مشروع سياسي بديل يتجاوز القومية والعلمانية التقليدية.

5 ـ نتائج ما بعد الحرب.. تفكيك الوحدة، وبناء جدران المذهبية

ـ ازدهار الخطاب الطائفي في الإعلام العربي، خصوصًا الخليجي، بالتوازي مع تضخم الهواجس الأمنية.

ـ تشكّل نواة خطاب "السنّة مقابل الشيعة"، الذي سيتكرس لاحقًا مع احتلال العراق، وصعود حزب الله، والربيع العربي.

ـ انقسام الحركات الإسلامية السنية نفسها تجاه إيران: بين من يرى فيها نموذج مقاومة، ومن يرفضها مذهبيًا.

ـ بداية التبعية الأمنية الخليجية الشاملة للولايات المتحدة، كضمانة ضد أي "مد إيراني" قادم.

الدماء التي تُسفك اليوم في غزة ولبنان وفلسطين، ليست دائمًا نهاية، بل قد تكون ولادة أخرى، تجددًا للحياة، وولادة للوعي المقاوم. كما كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية مدخلاً لتقوية الدولة الإيرانية الحديثة، وتحويلها إلى قوة إقليمية نافذة، فإن هذه الدماء ليست مجرد مأساة، بل مسارًا يتحوّل فيه الألم إلى صرح من الصمود، والدمار إلى عبور نحو الحرية.

إنها دماء تروي التربة الفكرية والسياسية لشعوبٍ رفضت الاستكانة، لتولد من رحمها شبكة من التحالفات، ووعيًا جماعيًا يربط الأرض بالحق، والمقاومة بالكرامة. اليوم، يطل الحلم الفلسطيني من جديد، كضوء في العتمة، مع سعيٍ لمحاسبة المجرمين والقتلة، وإعادة تعريف الحضارة والحداثة بما يتجاوز قيود السلطة والاحتلال، ليصبح الوعي والمقاومة عنوانًا جديدًا للتاريخ.

فالدماء، حين تُستثمر في الفكر والسياسة، تتحوّل من رمزية الهزيمة إلى شعلة أمل، ومن مأساة فردية إلى مشروع حضاري متجدد، يذكّر أن الحق لا يموت، وأن من يمتلك القدرة على تحويل الألم إلى إرادة، يصنع من التاريخ نفسه شهادة على الصمود والكرامة الإنسانية، وللحديث بقية.