الذاكرة السياسية

الروم الأرثوذكس في لبنان بين إرث حضاري وتحديات الهوية والسياسة المعاصرة

يتموضع الأرثوذكس اليوم داخل ائتلافات أوسع، فيما يبحث الجيل الجديد عن تمثيلٍ يقوم على البرامج الجادة والحَوكمة وبناء الدولة، لا على الزعامة التقليدية. فيسبوك
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.

من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة لطائفة المسيحيين الأرثوذكس، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الطوائف، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة. هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.

تُعدّ طائفة الروم الأرثوذكس (الأرثوذكس الأنطاكيون) إحدى المكوّنات التاريخية الراسخة في لبنان، وركناً من أركان الحياة المدينية والثقافية فيه منذ ما قبل قيام دولة لبنان الكبير. وبرغم عدم كونهم في طليعة اللاعبين السياسيين، شارك المسيحيون الأرثوذكس في مختلف القطاعات الحيوية في لبنان ولا سيما الصحافة والتعليم والطب والاقتصاد والدبلوماسية، وأسهموا في بناء المدن وإنعاش الحياة الثقافية والاجتماعية فيها من خلال المزاوجة بين الانفتاح على الحداثة والتشبّث بإرثٍ مشرقيٍّ عربيّ الهوى.

الخصائص الاجتماعية والدينية

تتبع طائفة الروم الأرثوذكس كنسياً إلى بطريركية أنطاكية وسائر المشرق (مقرّ البطريرك في دمشق) وهي كنيسةٌ مستقلّة ضمن العائلة الأرثوذكسية العالمية. تتبنّى التراث البيزنطي في الليتورجيا أي أن العبادة الجماعية المنظمة تطورت في بيزنطيا (موقع إسطنبول الحالية في تركيا، ومركز الإمبراطورية الرومانية الشرقية) وانتقلت منها إلى الشعوب الأخرى. وتُقيم الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان صلواتها باللغة العربية منذ قرون، ما جعلها أقرب الكنائس الشّرقية الكبرى إلى الوجدان اللغوي العربي.

جغرافياً، ينتشر أبناء الطائفة في بيروت (لا سيّما المدوّر والرميل وأحياء أخرى من الأشرفية)، وفي المتن (برمانا، ضهور الشوير، بيت شباب وغيرها)، وفي الشمال (طرابلس والميناء والكورة بما فيها أميون وكوسبا والقرى المحيطة)، فضلًا عن حضورٍ تاريخيّ في الجنوب (مرجعيون وحاصبيا وصيدا والنبطية) وبعض بلدات البقاع. هذا التوزّع، المدفوع تاريخياً بالهجرات الداخلية والخارجية، صاغ طابعاً مدينياً للطائفة جعلها لاعباً وازناً في المهن الحرّة والصحافة، من دون أن يلغي بقاءها متجذّرة في القرى من شمال لبنان إلى جنوبه.
يشكّل "التقليد الحيّ" وإشراك المؤمنين في الصلاة الجماعية، إضافةً إلى الدور الاجتماعي للكنيسة، ملامح أساسية لهوية الأرثوذكس في لبنان. والمقصود بـ "التقليد الحيّ" هو أن التقليد الذي يشمل الكتاب المقدس وسير القديسين والآباء المؤسسين و وقرارات المجامع المسكونية السبعة وقوانينها، ليس حزمة عادات قديمة تُحفَظ حرفياً، بل هو حياة كاملة وإيمان تناقله أبناء الكنيسة منذ زمن المسيحيين الأوائل إلى اليوم، وهم مدعوون إلى تفعيله في كل زمان ومكان. ويوصف التقليد بأنه "حيّ" لأنه ينمو ويتجدَّد في الأسلوب والتعبير، من دون أن يبدّل جوهر الإيمان.

وأسهمت حركة الشبيبة الأرثوذكسية منذ أربعينيات القرن العشرين في تجديدٍ روحيّ وفكريّ داخل الكنيسة، وهي إطار كنسي ـ شبابي بهدف تجديدي وُلد في لبنان عام 1942 وانتقل إلى سوريا لنهضة الرعايا الأرثوذكسية من خلال العمل الرعوي المنظم وتجديد الليتورجيا باللغة العربية، والخدمة الاجتماعية. والحركة ليست حزباً ولا جمعية خيرية صِرفاً، بل هي "تنظيم" داخل الكنيسة. تبلورت حركة الشبيبة الأرثوذكسية بين طلابٍ رفاقٍ في بيروت، وانتُخب الشاب جورج خضر (صار لاحقاً مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس) أميناً عاماً أول لها وشارك في صياغة القوانين والأنظمة الداخلية كل من جبرائيل سعادة وجبرائيل دبس، وكان من المؤسسين ألبير اللحّام، ديمتري قصّاع، إدوار اللحّام، ميشال خوري، مرسيل مرقص وآخرون؛ وكثيرون منهم درسوا الحقوق في جامعة القديس يوسف ببيروت، كما يُسجَّل أن البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع هزيم كان من جيل المؤسسين وقادة النهضة الكنسية الذين حملوا روح حركة الشبيبة الأرثوذكسية إلى البطريركية الأنطاكية كلّها.

جغرافياً، ينتشر أبناء الطائفة في بيروت (لا سيّما المدوّر والرميل وأحياء أخرى من الأشرفية)، وفي المتن (برمانا، ضهور الشوير، بيت شباب وغيرها)، وفي الشمال (طرابلس والميناء والكورة بما فيها أميون وكوسبا والقرى المحيطة)، فضلًا عن حضورٍ تاريخيّ في الجنوب (مرجعيون وحاصبيا وصيدا والنبطية) وبعض بلدات البقاع. هذا التوزّع، المدفوع تاريخياً بالهجرات الداخلية والخارجية، صاغ طابعاً مدينياً للطائفة جعلها لاعباً وازناً في المهن الحرّة والصحافة، من دون أن يلغي بقاءها متجذّرة في القرى من شمال لبنان إلى جنوبه.

على مستوى الهوية، يُعدّ الأرثوذكس في لبنان من أكثر الجماعات انخراطاً في فكرة "العروبة الثقافية" والانفتاح على تيارات الفكر الحديث، فكان لبعض مفكّريهم مساهمة بارزة في تطوير أفكار النهضة العربية ومن أشهرهم فرح أنطون ونقولا حداد، وهما صحافيان ولدا وتعلما لبنان ثم انتقلا إلى الإسكندرية في مصر حيث أسسا مجلّة "الجامعة"، فيما كان للبعض الآخر دورٌ في ترسيخ هوية لبنان المستقل، وعلى رأسهم الدبلوماسي شارل مالك الذي مثّل لبنان في الأمم المتحدة وشارك في وضع شرعة حقوق الإنسان، أو دورٌ في إعلاء القومية السورية التي تدعو وحدة سوريا الكبرى التي تشمل بلاد الشام (سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين) وجزء من العراق وكان رائد هذه الدعوة المفكّر أنطون سعادة الذي أسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولم تمنع هذه النزعة اليمينية جنوحَ عدد كبير من الأرثوذكس نحو اليسار الشيوعي متأثرين بالرمزّية الثقافية لروسيا (العالم الأرثوذكسي) فسُجِّل أنّ عضوية الحزب الشيوعي كانت في كثير من المراحل ذات غالبية مسيحية، لا سيما من الأرثوذكس، رغم أنّ الحزب نفسه لا مذهبي. ومن أبرز الأرثوذكس الشيوعيين: جورج حاوي (أمين عام سابق للحزب (1979–1993)، نقولا شاوي (من أوائل القادة التاريخيين وأمين عام الحزب في الستينيات وبداية السبعينيات) سهى بشارة (من رموز جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمّو)".

وإلى جانب مساهماتهم الفكرية والوطنية، واكب الأرثوذكس نشوء الصحافة (جريدة النهار على سبيل المثال) وساهموا في تكريس بيروت عاصمة للنشر العربي، وفي مدّ الجسور مع الجامعات والصالونات الأدبية في القاهرة ودمشق فشاركوا في تأسيس ما يُعرف بـ"أدب المهجر" ولا سيما ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، وفي تأسيس المسرح اللبناني الحديث ولا سيما جورج شحادة. وهذا الدور الثقافي ـ إلى جانب الدور التجاري في مرفأ بيروت والأسواق ـ كان أساسياً في رسم صورة بيروت الحديثة.

وللأرثوذكس مؤسساتهم الخاصة كالمدارس والجامعات (البلمند) وكبريات المستشفيات (مستشفى القديس جاورجيوس المعروف شعبياً باسم مستشفى الروم)، وعدد من المنظمات والجمعيات الأهلية. ومع أنّهم أقلّ عدداً من المسيحيين الموارنة ومن المسلمين السّنّة والشيعة، فإنّ حضورهم النوعيّ في قطاعاتٍ مفصلية أعطاهم وزناً يتجاوز حسابات الديموغرافيا الضيّقة.

المشاركة في الحياة السياسية

لم تكن الأرثوذكسية اللبنانية على هامش معركة الاستقلال. ففي زمن الانتداب الفرنسي والمرحلة الانتقالية، برزت شخصيات أرثوذكسية في هرم الدولة: انتُخب بترو طراد رئيساً للجمهورية لفترة انتقالية في 1943، وشغل أيوب تابت مناصب عليا فلمع اسمه خلال مرحلة الانتداب. وبعد الاستقلال، ومع تثبيت توازنات التمثيل الطائفي من خلال "الميثاق الوطني" (1943) إحتل الأرثوذكس مواقع وازنة في الإدارة والدبلوماسية والقضاء، كما شاركوا في وضع قواعد الاقتصاد الحرّ والسياسة الخارجية "اللامنحازة" نسبياً التي ميّزت الجمهورية الأولى (1950-1975). وقد عُرف عدد من رجال القانون والسياسة الأرثوذكس بمقارباتٍ دستورية وإدارية وُصفت بأنها "صبورة"، تفضّل بناء الدولة ومؤسساتها على إطلاق الحملات الشعبوية.

ومع ازدهار الجمهورية الأولى في لبنان، استقطب العمل الدبلوماسي عدداً من الكفاءات الأرثوذكسية التي حملت صورة لبنان الليبرالي إلى العالم. ومثّل هذا المناخ مساحةً لتبلور خطاب "وطنيّ ـ عربيّ" متصالح مع الهوية المشرقية للبطريركية الأنطاكية، وهو خطابٌ تسرّب لاحقاً إلى الخمسينيات والستينيات في ظلّ صعود القومية العربية وتحديات الحرب الباردة، قبل أن تهزّه النزاعات الإقليمية واصطفافات ما بعد هزيمة العام 1967 التي أدت إلى تسييس "العروبة" وتحويلها من فضاء ثقافي واسع إلى استقطابات أيديولوجية (ناصرية، بعث...) فتلاشى دور الوسيط الثقافي المرن الذي ارتاح له الأرثوذكس.

لاحقاً، ومع اندلاع الحرب الأهلية (1975-1990)، تشتّت الأرثوذكس كباقي اللبنانيين بين محاور وتيارات متقابلة. ففي بيروت الشرقية والمتن والكورة، انخرط الكثيرون ضمن البيئة السياسية للأحزاب المسيحية (الكتائب، الأحرار، ثم القوات اللبنانية لاحقاً)، في حين انخرط آخرون – ولا سيما في طرابلس والميناء وبعض مناطق الشمال – في الأحزاب اليسارية والقومية (الحزب الشيوعي اللبناني، والحزب السوري القومي الاجتماعي)، وقد شكّلت هذه الازدواجية برغم خطورتها، إنعكاساً لخصوصية الأرثوذكس: طائفة حضَريّة، موزّعة اجتماعياً وسياسيًا، تنجذب إلى سرديات العدالة الاجتماعية بقدر انجذابها إلى هموم مجتمعها المسيحي وأمنه الجماعي. أنتج هذا التوزّع شخصياتٍ أرثوذكسية نافذة على جانبي خطوط التماس. فبينما برزت أسماء أرثوذكسية في المشهد اليساري والنقابي والإعلامي، لمع أيضاً قادة محليون وبلديون ونيابيون في البيئة المسيحية اليمينية من بينهم:

غسّان تويني: نائب وسفير وناشر جريدة "النهار"، إلياس سابا: إقتصادي من آباء مدرسة التطنوقراط في لبنان، ووزير (مالية/اقتصاد)، فؤاد بطرس: مهندس مقاربات الإصلاح الإداري والقانوني، الياس سالم (إيلي سالم): وزير خارجية في الثمانينيات ورئيس جامعة البلمند لاحقاً، جورج حاوي: أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني لسنوات، ميشال المرّ: قطب سياسي خدماتي في المتن، نائب ووزير داخليّة لسنوات، الياس المرّ (نجل ميشال المرّ): وزير دفاع وداخلية، ورئيس "مؤسسة المرّ" الإعلامية، إلياس عطا الله: قيادي يساري/شيوعي، نائب  في البرلمان ، جاك صرّاف: صناعي، رئيس جمعية الصناعيين سابقاً؛ رئيس جمعية الصداقة اللبنانية ـ الروسية .

أرسى اتفاق الطائف (1989) قواعدَ جديدة للحكم، خفّضت صلاحيات رئيس الجمهورية وعزّزت موقع مجلس الوزراء مجتمعاً، ورسّخت المحاصصة في مؤسسات الدولة وإداراتها. داخل هذا النظام الجديد، إحتفظ الأرثوذكس بتمثيلٍ معتبر من خلال المقاعد النيابية والمناصب الوزارية إضافة إلى المؤسسات الإعلامية، فيما صمدت مؤسساتهم الصحية والتعليمية في وجه الأزما المالية والاقتصادية وواصلت توسّعها وتحديث برامجها.
تحت ضغط الحرب، تعرّضت أحياءٌ أرثوذكسية في بيروت وطرابلس والقرى لخرابٍ ونزوحٍ وتبدّل ديموغرافي، وأصيبت مؤسسات تعليمية وصحية وثقافية بأضرار كبيرة. ورغم ذلك، حافظت الكنيسة على حضور رعائي وخدماتي لافت، وأبقت على ممراتٍ إنسانية بين المناطق المتنازعة، وشجّعت المبادرات الأهلية لاحتواء الكوارث الاجتماعية والمعيشية التي أصابت العائلات.

وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال أنّ الحرب سرّعت الهجرة الأرثوذكسية إلى الخارج، لا سيما إلى كندا ودول أوروبا وأستراليا والخليج. وقد رفدت هذه الهجرات الطائفة بشبكات اقتصادية ومالية مهمّة، وبخبرات خارجية، لكنها قلّصت الوزن الديموغرافي داخل لبنان. ومع انتهاء الحرب، كان على الأرثوذكس ـ كما سائر اللبنانيين ـ أن يواجهوا سؤال إعادة البناء: كيف يُستعاد النسيج الاجتماعي والمؤسساتي المتصدّع، وكيف تُعاد صياغة الدور السياسي في ظلّ توازنات جديدة فرضها اتفاق الطائف وحضور سوريا العسكري والسياسي آنذاك؟

ما بعد الحرب واتفاق الطائف

أرسى اتفاق الطائف (1989) قواعدَ جديدة للحكم، خفّضت صلاحيات رئيس الجمهورية وعزّزت موقع مجلس الوزراء مجتمعاً، ورسّخت المحاصصة في مؤسسات الدولة وإداراتها. داخل هذا النظام الجديد، إحتفظ الأرثوذكس بتمثيلٍ معتبر من خلال المقاعد النيابية والمناصب الوزارية إضافة إلى المؤسسات الإعلامية، فيما صمدت مؤسساتهم الصحية والتعليمية في وجه الأزما المالية والاقتصادية وواصلت توسّعها وتحديث برامجها.

سياسياً، شكّل المهندس ميشال المرّ حجر الزاوية في حقبة ما بعد الطائف (1990-2005)، وهو أرثوذكسي من قضاء المتن (جبل لبنان) فكان مهندس تحالفات انتخابية وخدماتية واسعة، ونائباً في البرلمان لدورات متتالية ووزيراً مؤثراً في القرار، ورجل دولة يدير تفاصيل السلطة والبلديات والإدارات. امتلك المرّ شبكة خدمات واسعة أتاحت له ترجمة الثقل الأرثوذكسي في المتن إلى حضور وازن داخل الإدارات العامة والمؤسسات وكذلك الحكومات والبرلمان. إلى جانبه لمع اسم نجله إلياس المرّ وزيراً للداخلية والدفاع وناشراً لجريدة "الجمهورية"، قبل أن يشغل لاحقاً منصب رئيس مجلس إدارة "مؤسسة الإنتربول لعالم أكثر أمانًا" (INTERPOL Foundation for a Safer World) خارج لبنان.

وفي بيروت، برز الصحافي جبران تويني (1957–2005) كقائد رأي وسياسي، بعدما كان ناشر ومدير عام جريدة "النهار" ووريث مدرسة والده غسان تويني في الصحافة السياسية، انتُخب عام 2005 نائبًا عن المقعد الأرثوذكسي في بيروت، وكان من أبرز وجوه انتفاضة الاستقلال ( قوى 14 آذار التي تشكلت بعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري) بخطابه السيادي وبما عُرف بـ"قسم جبران تويني" الذي رسّخ شعار وحدة اللبنانيين ورفض الوصاية.

أما في الشمال، فبرز رجال اقتصاد وسياسة أرثوذكس مثل عصام فارس (عكار) وهو نائب رئيس الحكومة ورجل أعمال كبير موّل مؤسسات أكاديمية وخيرية، ونقولا نحّاس (طرابلس) وهو نائب ووزير ومن الوجوه الاقتصادية–السياسية البارزة في الشمال، وروبير فاضل (طرابلس) وهو نائب سابق ورجل أعمال ترأّس مجموعة ABC  لسنوات، وسليم سعادة (أميون ـ الكورة) وهو نائب أرثوذكسي لدورات عديدة وقيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

اقتصادياً، حافظ الأرثوذكس على انخراطهم في قطاعات التجارة والصناعة والإعلام والتعليم العالي والعمل الخيري، مستفيدين من شبكات اغتراب تاريخية وحديثة، ما أعطى زخماً جديداً للنشاط السياسي وزاد منفاعليته: تمويل لوائح، تشغيل مؤسسات محلية، تقديم خدمات، دعم بلديات، إنشاء نوادٍ شبابية.

إعلامياً، تمسك شخصيات أرثوذكسية بعدد من المؤسسات الإعلامية المهمة التي تساهم في تشكيل الرأي العام وتوجيهه. فإلى جانب جريدة "النهار" العريقة التي أسست في عام 1933 وما تزال تعمل تحت إدارة آل تويني، أسس غابرييل المرّ (شقيق النائب والوزير ميشال المر) قناة "أم تي في" التلفزيوينة عام 1991 فيما أسس الياس المر (نجل النائب والوزير ميشال المر) جريدة الجمهورية عام 2011. وبذلك تمسك شخصيات أرثوذكسية ـ سياسية وغير سياسية ـ زمام المنابر الأكثر تأثيراً على وعي المواطنين ومواقفهم، وعلى مزاجهم الانتخابي، خصوصاً في الشارع المسيحي.

الواقع والتحدّيات

يبدو للمراقبين أن دور الأرثوذكس آخذٌ في التراجع تدريجياً. أسبابٌ عدة تراكمت: وفاة القياديين البارزين مثل ميشال المرّ وانكفاء آخرين مثل عصام فارس، فضلاً عن اغتيال القيادي الشاب جبران تويني وتراجع قدرة رجال الأعمال على تمويل السياسة بعد الانهيار المالي (2019) وربما زاد قانون الانتخابات الجديد (2017) من اعتماد الأرثوذكس على التحالفات الحزبية الكبرى لكونه يعتمد النسبية، فذابت الشخصيات المستقلة داخل لوائح يقودها آخرون. أما انتفاضة 17 تشرين الأول أكتوبر 2019 وانهيار الثقة العامّة بالدولة فدفعت الجيل الأرثوذكسي الشاب نحو نقدٍ شامل للمنظومة الزبائنية التي بنت عليها بعض الزعامات الأرثوذكسية قاعدتها الشعبية ومكانتها السياسية.

لم تختفِ الكفاءات ولم ينعدم الحضور الاجتماعي، لكن الزعامة الفردية ـ المحلية التي تُمسك بمفاصل الخدمات والاقتصاد والإعلام لم تعد قادرة على ترجمة وزنها إلى نفوذٍ مستقلّ وفعّال بقدر ما كانت تفعل سابقاً. لذلك يتموضع الأرثوذكس اليوم داخل ائتلافات أوسع، فيما يبحث الجيل الجديد عن تمثيلٍ يقوم على البرامج الجادة والحَوكمة وبناء الدولة، لا على الزعامة التقليدية.

ومع استمرار الأزمة المالية والاقتصادية، يتعاظم العبء على شبكات الرعاية الكنسية والأهلية لدى الطائفة الأرثوذكسية التي تبدو أمام امتحان صعب في ظل موجة الهجرة الجديدة للأطباء والمهندسين والأساتذة والمهنيين. إمتحانٌ يتلخص في الحفاظ على مؤسّسات الطائفة الأرثوذكسية وذاكرتها الحضرية، وتثبيت حضورها الثقافي والسياسي والاجتماعي، في موازاة صوغ خطابٍ وطنيّ جامع لا يذيب خصوصيتها في خرائط التحالفات المعقدة في لبنان.