حيّ الميدان
الدمشقي ليس مجرد حيّ من أحياء العاصمة، بل هو ذاكرة دمشق ووجدانها الشعبي، ببيوته
العربية العتيقة، وأزقّته الملتفّة حول المساجد والمدارس والزوايا، وأهله
المعروفين بالعلم والكرم والمروءة. من هنا خرج العلماء والمجاهدون والأحرار، وكان
في طليعتهم الشيخ العلامة المجاهد حسن حبنّكة الميداني، الذي ظلّ رمزا للتديّن
الواعي والموقف الشريف في وجه الظلم والفساد.
كان حيّ
الميدان منذ أن نشأ خارج أسوار دمشق القديمة رئة المدينة الجنوبية، وممرّ القوافل والتجارة،
وملتقى الريف بالمدينة، امتدّ على طريق الحجّ الشامي، فحمل عبق العابرين، وصوت
المؤذنين، ورائحة الخبز والبهارات والقهوة.
كان حيّ الميدان
مدرسة في الأدب والدين واللغة، تخرّج من مساجده علماء كبار، كالشيخ أبو الخير
الميداني والشيخ صادق حبنكة رحمهما الله تعالى، والشيخ كريم راجح والشيخ محمد شقير
حفظهما المولى وقواهما. وارتاد زواياه طلبة العلم من كل حدب وصوب، وظلّ حيّا محافظا
متدينا دون تكلّف، تتجاور فيه المساجد والبيوت في تناغم دمشقي نادر.
يعدّ هذا الحيّ من الأحياء التراثية والتاريخية في دمشق، فهو يحتفظ حتى اليوم بروح البيوت العربية الدمشقية القديمة والتي عاصرت حضارات عدة
وحي الميدان
يعتبر قلب التجارة الدمشقية النابض، بداية من سوق الميدان إلى سوق أبو حبل وسوق والحبوب
والخيول، حيث تتعانق الحرفة بالكرامة، والتجارة بالأصالة والرياسة، لا سيما أنه
كان يسمى بوابة حوران، حيث كان سوقا تجاريا لمحاصيل المنطقة الجنوبية؛ سهل وجبل حوران
وصولا إلى الأردن وفلسطين.
أصبح حيّ الميدان
منبرا للحرية منذ العهد العثماني، مرورا بالثورة السورية الكبرى، وصولا إلى كل
زمنٍ حاول فيه المستبدون والمعتدون أن يُخمدوا صوته، فبقي شامخا لا ينحني. كما يعدّ هذا
الحيّ من الأحياء
التراثية والتاريخية في دمشق، فهو يحتفظ حتى اليوم بروح البيوت
العربية الدمشقية القديمة والتي عاصرت حضارات عدة رومانية وإسلامية، مملوكية
وأيوبية وعثمانية، فقد تميزت تلك البيوت المبنية بالحجارة السوداء والبيضاء
والمرتفعة الجدران والواسعة، ذات الساحات والغرف الكثيرة والبرحة، والبحرات والنوافير
التي تتوسط تلك الفُسح، وأشجار الليمون والكباد والعنب، والزهور والياسمين تحيط
بتلك الباحات، التي تُذكّر بأن دمشق مهما طال عليها الزمن، ما زالت تتنفّس من
نوافذ الميدان.
ظلّ الميدان المجاهد
عبر العقود عصيّا على الترويض، صامدا متماسكا في وجه محاولات المسخ والطمس
والتركيع، حتى جاءت مشاريع "التطوير" الخبيثة التي لم تراعِ هوية المكان
ولا نبضه الإنساني. ومن أخطر تلك المشاريع كان جسر المتحلّق الجنوبي، الذي اقترح
تنفيذه رئيس الوزراء آنذاك المهندس عبد الرؤوف الكسم، في زمنٍ اتسم بتغليب منطق
السيطرة على منطق العمران والذاكرة، زمن تعهد إفساده طغمة من الفاسدين المجرمين،
لم تدرك الأزمان والعصور أفسد منهم، يتولى كبره المقبور حافظ سليمان الوحش (الأسد)
الذي عمل نظامه وبعده ابنه بشار على تخريب وإفساد البلاد والعباد بشتى الوسائل.
لم يكن الجسر
طريقا فحسب، بل سكيّنا في قلب حيّ الميدان. فكم من زقاق قديم هادئ هُدم تحت
أعمدته؟ وكم من عائلة عريقة فاضلة اضطرت إلى الرحيل شرقا وغربا فباعت
بيوتها بأبخس الأثمان بعدما انكشفت للمارّين والمشاة من أعلى الجسر؟
مع مرور الزمن، نشأ جيلٌ جديد لا يعرف كيف كانت الحارات، ولا المساجد الأثرية، ولا بيوت الدمشقيين القديمة التي كنا نعبرها من القاعة إلى باب مصلى في طريقٍ واحدٍ يعبق بسبل الماء والياسمين والسكينة
لقد كانت أزقة
الميدان المحافظة المستورة عصيّة على الاختراق؛ لا يدخلها غريب إلا ضيفا مكرّما، لكن
الجسر فتح جرحا في الجغرافيا والكرامة معا، فقسّم الحيّ إلى نصفين، وأحدث في
النفوس شرخا لا تداويه السنوات.
نعم، نحن
بحاجة إلى جسور تقرّب البعيد، وأوتوسترادات تختصر المسافات والأزمنة، ولكن أين
الحكمة في أن تُبنى فوق الأحياء السكنية القديمة التي تحمل ذاكرة دمشق وملامحها؟ ألم يكن
بالإمكان أن يُخطط لها خارج هذه المناطق التراثية، بعيدا عن أحياءٍ هي جزء من
تاريخ المدينة وهويتها؟ ونحن نرى العديد من المدن الكبرى تخطط لمثل هذه التحديثات
في محيط المدن وعلى أطرافها فلا تعبث بنسيجها وتراثها.
لقد كان
إنشاء الجسر فعلا مقصودا لكسر تماسك حيّ الميدان وأهله، من منطلق "فرّق
تسُد"، إذ أرادوا أن يشطروا الحي كما يشطر الجسر جسد المدينة. ومع مرور
الزمن، نشأ جيلٌ جديد لا يعرف كيف كانت الحارات، ولا المساجد الأثرية، ولا بيوت الدمشقيين
القديمة التي كنا نعبرها من القاعة إلى باب مصلى في طريقٍ واحدٍ يعبق بسبل الماء
والياسمين والسكينة.
وهكذا صار
الجسر شاهدا على مرحلةٍ أرادوا فيها أن يخترقوا روح المكان وتماسك السكان، فدمّروا
الحجر، لكنهم عجزوا عن كسر الروح. فالميدان، مهما تغيّر شكله، ما زال يحتفظ بملامح
أهله، وبالعزة والكرامة التي ورثها عن أجيالٍ من العلماء والمجاهدين، الذين
علّمونا أن المدن لا تُقاس بالإسمنت، بل بالذاكرة والموقف والوفاء.