ملفات وتقارير

"حواجز دبلوماسية" بين بريطانيا ومصر.. وسفارة لندن في القاهرة تعلق أعمالها

بعد رفع الحواجز أمام السفارة البريطانية بالقاهرة. هل تتحول إلى مواجهة مفتوحة تحت شعار "المعاملة بالمثل"؟ - Sora
أغلقت السفارة البريطانية في القاهرة أبوابها مؤقتاً، الأحد، عقب قيام السلطات المصرية برفع الحواجز الخرسانية والإجراءات الأمنية المشددة التي كانت تحيط بمقرها التاريخي في حي جاردن سيتي الراقي بوسط العاصمة، حيث تدير لندن أعمالها الدبلوماسية منذ ما يقارب تسعة عقود.

وأكدت السفارة، في بيان رسمي عبر صفحتها على منصة "إكس"، أن الإغلاق يأتي "لحين مراجعة تأثير التغييرات الأمنية الأخيرة حول المبنى"، مشيرة إلى أن الخدمات القنصلية الطارئة لا تزال متاحة عبر أرقام تواصل خصصتها لذلك، بينما طُلب من أصحاب المواعيد المسبقة التواصل للاستعلام عن كيفية الدخول إلى المجمع الدبلوماسي.


القاهرة ترفع الحواجز
أظهرت عدسات الصحف المحلية مشاهد إزالة الحواجز أمام السفارة البريطانية٬ وقد فقدت أسوارها الخرسانية العالية وبواباتها الأمنية الضخمة التي لطالما أعاقت المرور وأغلقت شوارع بأكملها في محيط نهر النيل.

وضعت هذه الإجراءات الأمنية بداية الألفية الثانية، تحديداً بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، في ظل مخاوف من احتجاجات واسعة كانت تُنظم آنذاك ضد السياسات البريطانية والأمريكية.

لكن قرار السلطات المصرية، الصادر السبت الماضي، برفع تلك الحواجز من أمام المقر الرئيسي للسفارة البريطانية، جاء في سياق أوسع يتصل بما وصفته القاهرة بـ"المعاملة بالمثل"، بعد تصاعد احتجاجات ضد البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج، ولا سيما في أوروبا والولايات المتحدة.

خلال الأسابيع الماضية، شهدت عدة عواصم أوروبية مظاهرات غاضبة أمام السفارات المصرية، اتهم فيها المحتجون القاهرة بالمشاركة في حصار غزة وإغلاق معبر رفح ومنع دخول المساعدات. 

ووصل الأمر إلى حد قيام نشطاء بإغلاق مقار دبلوماسية مصرية بأقفال حديدية، وهو ما أدى لوقوع اشتباكات بين معارضين للنظام ومؤيدين له من أعضاء ما يُعرف بـ"اتحاد شباب مصر في الخارج".

ردّت وزارة الخارجية المصرية بلهجة حادة على لسان الوزير بدر عبد العاطي، مؤكدة أن القاهرة ستطبق "المعاملة بالمثل" على الدول التي قالت إنها لا تلتزم بتوفير الحماية للسفارات المصرية فوق أراضيها.

خلفية دبلوماسية متوترة
وجاء رفع الحواجز الأمنية من أمام السفارة البريطانية بعد سلسلة مخاطبات رسمية بين الجانبين، حيث طالبت القاهرة لندن بالحد مما وصفته بـ"نشاط معارضين محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين" داخل الأراضي البريطانية، معتبرة أنهم "يسيئون للدولة المصرية ويهاجمون مقارها الرسمية"، على حد زعمها.

وتفاقم التوتر بعد قيام السلطات البريطانية باعتقال الناشط المصري أحمد عبد القادر الشهير ميدو، وهو أحد قادة ما يسمى "اتحاد شباب المصريين بالخارج"، الذي ظهر مؤخراً في مظاهرات أمام سفارة القاهرة في لندن، قبل أن يُطلق سراحه لاحقاً.


مواقف سياسية متباينة
على الصعيد الداخلي دعا حزب "الجبهة الوطنية"، المؤيد للنظام المصري وزارة الخارجية إلى اتخاذ خطوات "حاسمة" ضد السفارة البريطانية بالقاهرة، معتبراً أن الحواجز الخرسانية حوّلت منطقة جاردن سيتي إلى "منطقة مغلقة شوهت وسط العاصمة وعرقلت حياة المواطنين".

وطالب الحزب بإزالة تلك الحواجز وإلزام السفارة البريطانية بقواعد مماثلة لتلك المطبقة على باقي البعثات الأجنبية العاملة في مصر، في إطار "المعاملة بالمثل". اللافت أن السلطات لم تمس الحواجز الأمنية المحيطة بالسفارة الأمريكية المجاورة، رغم أن مقار دبلوماسية مصرية في الولايات المتحدة تعرضت لاحتجاجات مشابهة.

من جانبه قلل وزير الخارجية الأسبق،  السفير محمد العرابي٬ من خطورة القرار المصري، واعتبره "إجراءً إدارياً بحتاً لا يمس جوهر العلاقات بين القاهرة ولندن"، مؤكداً أن مصر ملتزمة بحماية البعثات الدبلوماسية وفق الأعراف الدولية. 

وأضاف العرابي في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب المقرب من النظام: "لا يجب التعامل مع هذه الخطوة بحساسية زائدة، فالوضع الأمني في مصر مستقر، ولا يوجد أي تعنت بريطاني تجاه سفارتنا هناك".

أما الإعلامي أحمد موسى، المقرب من النظام، فذهب إلى زاوية مختلفة، إذ رحّب بإزالة الحواجز معتبراً أنها تسببت في "شلل مروري متواصل لعقود" في أحد أهم شوارع العاصمة.

وقال خلال برنامجه على قناة "صدى البلد": "لا يوجد بلد في العالم يغلق محيط سفارة بالكامل بهذا الشكل.. الوضع الأمني في مصر الآن آمن ومستقر ولا مبرر لاستمرار تلك الحواجز".





خلفية تاريخية للأزمة
وُضعت الحواجز الأمنية التي أزيلت الأحد في فترة شديدة الاضطراب بداية الألفية الثانية، مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية واحتلال العراق، حيث كانت بريطانيا شريكاً أساسياً للولايات المتحدة. آنذاك شهدت القاهرة احتجاجات صاخبة قرب السفارات الغربية، ما دفع السلطات لفرض طوق أمني دائم حول السفارة البريطانية.

لكن انتهاء تلك المرحلة، واستقرار الوضع الداخلي خلال السنوات الأخيرة، جعل وجود تلك الحواجز مثار تساؤلات متكررة، سواء من سكان المنطقة أو من قوى سياسية مصرية رأت فيها "رمزاً للوصاية الأجنبية على قلب العاصمة".

أخذت الأزمة الحالية بعداً إضافياً مع اعتقال السلطات البريطانية الشاب المصري يوسف حواس الأسبوع الماضي، على خلفية مشاركته في مواجهة محتجين حاولوا التظاهر أمام مبنى السفارة المصرية في لندن. جاء ذلك بعد توقيف أحمد عبد القادر ونائبه أحمد ناصر في واقعة مشابهة، قبل أن يُفرج عنهما لاحقاً بضغط من الخارجية المصرية.

أجرى وزير الخارجية بدر عبد العاطي اتصالاً عاجلاً بمستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول، مطالباً بالإفراج عن عبد القادر، في خطوة اعتبرتها وسائل إعلام مصرية تعبيراً عن "حدة التوتر" بين البلدين.

تصاعدت الحملة الإعلامية والسياسية داخل مصر، بقيادة أحزاب وقوى موالية للنظام، للضغط باتجاه تطبيق "المعاملة بالمثل"، وصولاً إلى حد التلويح بإجراءات قد تمس وضع البعثات الأجنبية الأخرى في القاهرة، وربما إزالة الحواجز الأمنية المحيطة بها.

هذا الخطاب التصعيدي، عكس محاولة القاهرة الضغط على لندن لتشديد رقابتها على نشاطات المعارضين المصريين المقيمين في بريطانيا.

القانون الدولي وحدود الأزمة
وفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، فإن على الدول المضيفة توفير الحماية الكاملة للبعثات الدبلوماسية وضمان أمنها، مقابل التزام المبعوثين بعدم التدخل في الشؤون الداخلية. هذه الاتفاقية تشكّل الإطار القانوني الذي يحكم العلاقات بين السفارات والدول المضيفة، وتمنع اتخاذ خطوات قد تُفسر كإجراءات انتقامية.

لكن القاهرة تقول إن ما جرى لا يمثل خرقاً للاتفاقية، بل يدخل في إطار "تدابير تنظيمية داخلية"، وهو ما يفسر إعلانها الاستمرار في توفير الحماية للمبنى رغم إزالة التحصينات.

العلاقات المصرية البريطانية.. شراكة معقدة
وتعد العلاقات بين القاهرة ولندن تاريخياً شائكة ومعقدة، فقد كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني بين عامي 1882 و1952، قبل أن تنسحب لندن تدريجياً بعد ثورة تموز/يوليو. لكن العلاقات شهدت تقارباً نسبياً عقب توقيع مصر معاهدة السلام مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1979، حيث باتت بريطانيا شريكاً دبلوماسياً مهماً لمصر.

اقتصادياً، تُعد بريطانيا أحد أبرز شركاء القاهرة في أوروبا، وتستثمر شركاتها في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والخدمات المالية. كما يشكل السياح البريطانيون شريحة واسعة من زوار مصر سنوياً.

على الصعيد الأمني، يتعاون الجيشان المصري والبريطاني في مجالات التدريب وتبادل الخبرات، إلى جانب تبادل المعلومات في مجال مكافحة الإرهاب. أما ثقافياً، فيلعب "المجلس الثقافي البريطاني" دوراً نشطاً في تعليم اللغة الإنجليزية وتعزيز التبادل الأكاديمي.

يكشف إغلاق السفارة البريطانية في القاهرة بعد رفع حواجزها الأمنية هشاشة التوازن القائم بين "حماية البعثات" و"حساسية السيادة". وبينما تؤكد مصر أن الخطوة "إدارية وتنظيمية"، فإنها تفتح الباب أمام تساؤلات أوسع حول مستقبل العلاقات المصرية البريطانية، وكيف ستدار معادلة "المعاملة بالمثل" في ظل بيئة إقليمية مشحونة وصراع محتدم على غزة يعيد خلط الأوراق بين الشرق الأوسط والعواصم الغربية.