كتاب عربي 21

آسف غزة ..لم أعد أتحمّل

"ليس سهلا أن ترى أطفالا يموتون جوعا على المباشر ولا تقدر على مساعدتهم بالحد الأدنى من الطعام، وتُمنع بقوة السلاح من الوصول إليهم"- جيتي
بحكم مهنتي كصحفي، أول ما أقوم به كل صباح استعراض آخر الأخبار التي ترد عبر هاتفي الجوال، ثم أفتح موقعي "الجزيرة" و "التلفزيون العربي" على الإنترنيت إلى جانب مواقع أخرى. تعودت على ذلك منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، تحملت في الأثناء التداعيات النفسية لكل المآسي التي مرت على الغزاويين بمختلف أشكالها وألوانها وعذاباتها، وصبرت كغيري على تلك الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الاحتلال في حق البشر والعمران والجغرافيا والبيئة والحيوان، وذلك بالرغم من نصائح الأطباء والمختصين بعدم الإدمان على تلك المشاهد المدمرة للطاقة النفسية للإنسان، وذلك على أمل أن يتوف الكابوس. وكتبت في عن هذا الشأن عشرات المقالات، وعلقت على تلك المشاهد في العديد من وسائل الإعلام.

اليوم اختلف الأمر عن كل ما سبق من وحشية وقسوة، لم أعد قادرا على رؤية الأطفال وهم يموتون جوعا أمام الكاميرا وفي أحضان أمهاتهم. أشعر بأن البناء النفسي الذاتي بصدد التفتت والانهيار، طاقة التحمل تتآكل بشكل سريع، وتضغط على الأعصاب والمشاعر بقوة رهيبة. وتكاد المشاهد المتتالية القادمة من هناك عبر الشاشات تفترسنا افتراسا، دون أن تكون لدينا القدرة على المقاومة والتصدي لآثارها الرهيبة. لقد أصبحنا أيضا، نحن الذين نعيش بعيدا عن غزة، جزءا لا يتجزأ من المشهد المأساوي المتكرر على مدار الساعة، أصبحنا بدورنا ضحايا هذه الحرب التي لا تحكمها ضوابط وقوانين وأخلاق وحدود.

أصبحنا أيضا، نحن الذين نعيش بعيدا عن غزة، جزءا لا يتجزأ من المشهد المأساوي المتكرر على مدار الساعة، أصبحنا بدورنا ضحايا هذه الحرب التي لا تحكمها ضوابط وقوانين وأخلاق وحدود

ومما زاد في هول هذه التراجيديا النفسية شعورنا بالعجز أمام هذا الطغيان غير المسبوق. ليس سهلا أن ترى أطفالا يموتون جوعا على المباشر ولا تقدر على مساعدتهم بالحد الأدنى من الطعام، وتُمنع بقوة السلاح من الوصول إليهم، ولا يمنعك من القيام بواجبك الإنساني العدو فقط ولكن القريب أيضا بحجج واهية لا طائل من استعراضها الآن. فالحكومات العربية تفرض عليك أن تكون شريكا في هذه الجريمة البشعة، وإلا عرّضت نفسك للملاحقة في بلادك، وتسمى هذه الجريمة بـ"عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر". المطلوب منك أن تترك الضحايا يموتون، حتى لو كانوا إخوانك وأبناء عمومتك وأصدقائك وجيرانك، وذلك بحجة احترام اتفاقيات لم يلتزم بها العدو أصلا ولم يتقيد بروحها.

ويزداد بك الضيق والتوتر عند ما يردده هؤلاء الصهاينة بكل تبجح وإصرار؛ تقول عضو الكنيست تالي غوتليب، المعروفة بتصديها المستمر للنائب أحمد الطيبي لمنعه من الكلام، أنه بدون توسيع الحصار "لن نتمكن من تجنيد مخبرين ولا تجنيد عملاء ومن شراء الناس بالأكل والماء والدواء". وتضيف: "لم أنس ما فعله النبي محمد بيهود خيبر". وبقولها هذا تكون قد أوجزت الصراع الدائر في فلسطين بكونه امتداد لما حصل في يثرب عندما ارتكب اليهود جريمة الخيانة العظمى بتعاونهم سرا مع قريش من أجل التخلص من الرسول صلعم وجماعته، وقرر إخراجهم من المدينة. وبناء عليه تعتقد هي وغيرها من المتطرفين الصهاينة أن الوقت قد حان من أجل تصفية حساب مر عليه خمسة عشر قرنا، وذلك من خلال التضحية بأهل غزة، والقضاء عليهم عبر هدم البيوت على أصحابها وقتلهم ومنع الطعام والشراب والدواء عنهم وعن أطفالهم!! هذا ما صرحت به هذه المتعصبة الصهيونية الناقمة على الفلسطينيين وعلى العرب والمسلمين جميعا، دون أن تجد اعتراضا وتنديدا من أحد سواء من داخل الكيان أو من خارجه.

أصبحنا أيضا، نحن الذين نعيش بعيدا عن غزة، جزءا لا يتجزأ من المشهد المأساوي المتكرر على مدار الساعة، أصبحنا بدورنا ضحايا هذه الحرب التي لا تحكمها ضوابط وقوانين وأخلاق وحدود

حقيقة لم أعد أفهم ما الذي يجري في العالم، وأسأل نفسي هل أنا مصاب بالغباء إلى درجة عدم استيعاب ما الذي يقال وما الذي يحدث، أم أن العلة في غيري؟ عندما تسمع شخصا يتولى رئاسة أمريكا، ويعتبر نفسه ملكا يتحكم في مصير الإنسانية، يعلن بعظمة لسانه "ما يجري في غزة مفجع ومؤسف وعار وكارثي"، فتعتقد بأن الرجل قد استيقظ من سباته بعد أن رفض الاعتراف بالمجاعة التي تهدد الملايين، عاد له الرشد بفضل تأكيد زوجته على أن في غزة أطفال يموتون جوعا، وبناء عليه توقعت بأن يعلن عن إجراءات ترتقي إلى مستوى الفاجعة، وذلك بعد إرسال مستشاره ويتكوف لدراسة الوضع الانساني على عين المكان، لكن ويتكوف عاد أكثر حماسا للدفاع عن الرواية الإسرائيلية التي تنفى وجود مجاعة في غزة، ومؤكدا على أن المشكلة تكمن في بعض الجوانب التقنية. هكذا كذب مفضوح، وإصرار على القتل والتجويع.

في سياق مواز، قرر ترامب معاقبة كندا بسبب قرارها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلى جانب عدد من المسؤولين في السلطة وفي منظمة التحرير بسبب سعيهم لتدويل القضية، ودعمهم للقرار الذي اتخذته أكثر من خمسة عشر حكومة للاعتراف بالدولة الفلسطينية. عندها تسأل نفسك: هل ترامب يعاني من انفصام في الشخصية أم أنه بصدد الاستخفاف بل الاستهزاء بالجميع؟

بناء على كل ذلك، أتقدم بالاعتذار لمن يحترقون في غزة، وأقول لهم لكم الله في هذا المرحلة الرديئة والكارثية؛ ما زلتم ستدفعون أثمانا باهظة، لكن تأكدوا بأن المنعطف التاريخي قد بدأ، وأن النصر سيكون حليفكم مهما بلغ الطغيان وتآمر عليكم المتآمرون. فلحظة الباطل ساعة ولحظة الحق إلى قيام الساعة.