كتاب عربي 21

أوقفوا "الحرب الكلامية" بين التونسيين والجزائريين

"الحدث الذي دار حوله الخلاف وتطور بسرعة عجيبة حتى كاد يفجر "حربا" بين البلدين يتعلق بجريمة حق عام"- جيتي
منذ أن قامت الشرطة الفرنسية بقتل المواطن التونسي ابن القصرين، عبد القادر الذيبي، بخمس رصاصات في مدينة مرسيليا، ومواقع التواصل الاجتماعي لم تتوقف عن تبادل الاتهامات بين بعض التونسيين وبعض الجزائريين. وما صدر عن الطرفين متناقض تماما مع ثقافة حسن الجوار وتاريخ العلاقات بين الشعبين. كل طرف برجاله ونسائه، كال للآخر سيلا مهولا من الكلام الجارح الذي من شأنه أن يهدم الجسور التي أقاموها فيما بينهما.

فبعض التونسيين تجاوزا في تعليقاتهم على مقام الشهداء الذين لهم حرمة استثنائية لدى الجزائريين، وفي المقابل عصفت بعض الردود الجزائرية بسمعة تونس وما قدمه شعبها من دعم لدولة الجوار. هكذا، وبشكل فجائي، وغير مبرر تحول الشعبان إلى أشبه بعرشين في حالة هيجان، يهدد كل واحد منهما بالثأر من الآخر والانقضاض عليه، وإفنائه رمزيا إن لزم الأمر. كل يدعي بكونه الأفضل والأقوى والأغنى والأذكى، وخاصة "الأكثر رجولة" وشجاعة وعنفا لفظيا!!

السؤال الكبير الذي يجب أن تطرحه الحكومات والنخب في البلدين، هو من أي نبع تمخض هذا الخطاب المليء برفض الآخر واحتقاره، وعدم الاعتراف بالجميل، ونسيان لحظات الود، ونفي معاني الأخوّة والمحبة؟

الحدث الذي دار حوله الخلاف وتطور بسرعة عجيبة حتى كاد يفجر "حربا" بين البلدين يتعلق بجريمة حق عام، ولا ننوي الدخول في التفاصيل. ولكن يمكن الإشارة إلى ثلاث ملاحظات، تتعلق الأولى بحالة التوتر القصوى التي كان عليها المواطن التونسي نتيجة الخلافات التي بينه وبين أصحاب الفندق الصغير، مما دفعه إلى الاستعانة بسلاح أبيض، والاعتداء على بعض خصومه، مما ولد حالة من الخوف وتكتل عدد من الجزائريين ضده. أما الملاحظة الثانية تخص تدخل الشرطة الفرنسية بكل عنف واندفاع مما جعلها تطلق النار على المرحوم في مواقع قاتلة بحجة الاشتباه في كونه إرهابيا، دون اعتماد أسلوب المراحل في مثل هذه الحالات، وهو ما قلب المشهد جذريا وحوله إلى مأساة. وثالثا، يعتبر ما قررته عمادة المحامين التونسيين حين رفعت قضية من أجل متابعة مجريات الأبحاث مع السلطات الفرنسية، هو السبيل الأفضل والأنجع لكشف الحقيقة وتجنب المغالطات السياسية والإعلامية.

السؤال الكبير الذي يجب أن تطرحه الحكومات والنخب في البلدين، هو من أي نبع تمخض هذا الخطاب المليء برفض الآخر واحتقاره، وعدم الاعتراف بالجميل، ونسيان لحظات الود، ونفي معاني الأخوّة والمحبة؟ فهذا الحدث الهامشي يكاد ينسف التحالف الثنائي الذي عملت من أجله قيادة البلدين، وظن المراقبون بكونه أكثر قوة وصلبا. لماذا انهارت لحظات الصفاء لتكشف عن كره متبادل؟ ألا يدل ذلك على أن العلاقات الرسمية ليست سوى غطاء هش في حال لم يدعمها عمل ثقافي واجتماعي قوي يتجه نحو العمق، ويصل إلى ترسيخ وعي جديد لا ترجه حوادث عابرة، وتقلل من أهميته خلافات هامشية؟

من الغريب أن تندلع هذه "الحرب الكلامية" في لحظة تاريخية معبرة، لحظة "الإبادة الجماعية" الجارية حاليا على قدم وساق في غزة، ولحظة انطلاق "أسطول الصمود" الذي سيبحر من تونس نحو الأراضي الفلسطينية المحاصرة. ففي أوقات الشدة والأمل والتضحية لا يجوز السماح للمسائل الثانوية كي تقفز إلى الأمام

فأخطر ما حصل هو تعميم خطاب فيسبوكي على الجميع من الجانبين. الفيسبوك قادر على تدمير ما تبنيه الجهات الرسمية، انتبهوا إلى شعوبكم، وجنبوها ردود الفعل العاطفية، وعلموها بأن تتمسك بالجذور، ولا تلهث وراء الأعشاب الطفيلية، ولا تخلط بين الأساسي والثانوي. فما تخفيه الأنفس والعقول قد يشكل أحد العوائق الخطيرة التي يمكن أن تحول دون بناء وحدة شعورية حقيقية بين الشعبين تعتمد فقط على تبادل المصالح والمنافع.

هناك مشاعر قلق لدى جزء واسع من النخبة التونسية تجاه العلاقة بالجار الجزائري، في ظل التحالف الذي راهنت عليه السلطة حاليا، وانخرط فيه بقوة الرئيس قيس سعيد، وبمقتضاه أصبحت أطراف خارجية وازنة ومؤثرة مثل فرنسا، لا تنظر إليه بارتياح، وتعتبر أن ما يحصل هو بمثابة "جزأرة تونس"، حتى زعم أحد البرلمانيين الجزائريين أن تونس بمثابة "الولاية التاسعة والخمسون للجزائر". وهناك أيضا من السياسيين والمثقفين التونسيين من يدعو إلى ضرورة تسوية الخلاف الحدودي بين البلدين، في ظل الانسجام السياسي الراهن بين الرئيسين سعيد وتبون. وهو موضوع محرج جدا للنظام الجزائري الذي رفض الحديث عن هذا الملف منذ عهد بعيد، وأصبح بمثابة "الخط الأحمر".

يعتبر من الغريب أن تندلع هذه "الحرب الكلامية" في لحظة تاريخية معبرة، لحظة "الإبادة الجماعية" الجارية حاليا على قدم وساق في غزة، ولحظة انطلاق "أسطول الصمود" الذي سيبحر من تونس نحو الأراضي الفلسطينية المحاصرة. ففي أوقات الشدة والأمل والتضحية لا يجوز السماح للمسائل الثانوية كي تقفز إلى الأمام، وتحتل الأولوية، وتغطي المجال وتحجب الرؤية، خاصة وأن تونس والجزائر تمثلان استثناء في المنطقة العربية بسبب موقفهما من سياسة التطبيع، ومتابعتهما السياسية لما يحصل داخل فلسطين وحولها. لهذا لا يجوز إثارة النعرات الفرعية، واستنزاف الرصيد المعنوي للشعبين في مهاترات لا لا تغني ولا تسمن من جوع. فالمعركة البسيكولوجية والسياسية تفرض توحيد الهدف، وتحقيق التعبئة الشعبية الكاملة.