كتاب عربي 21

حتى لا تتحول حرية المعتقد إلى معركة نفوذ في تونس

"لا بد من وضع المسألة ذات الطابع الإشكالي في إطارها الصحيح، حتى لا تتحول تونس إلى ساحة مفتوحة لصراع الطوائف ولحسابات الدول"- إرنا
هيمن جدل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي في تونس، خلال الأيام الماضية، حول خبر افتتاح حسينية مخصصة للمتشيعين الجدد من التونسيين. ويبدو أنها ليست الوحيدة حيث يتحدث البعض عن حسينيات سابقة أقيمت في ولايات عديدة، حتى كاد الأمر يتحول إلى ظاهرة عامة تشد اهتمام الرأي العام وتصبح حديث الشارع، خاصة بعد تنظيم تجمع شيعي لأول مرة في قلب العاصمة، في شارع الحبيب بورقيبة، وذلك لإحياء ذكرى عاشوراء.

تعرضتُ لمسألة التشيع داخل المجتمع التونسي في مذكراتي التي صدرت مؤخرا تحت عنوان "أقواس من حياتي"، وذكرت بأن التشيع بدأ قبل قيام الثورة الإيرانية في نطاق محدود، وازداد قوة وانتشارا بعدها بسبب موجة التشيع السياسي الذي فرضته ضخامة الحدث الذي أطاح بنظام الشاه. لكن بعد استقرار الأوضاع، والانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، تحولت الظاهرة من حالة إعجاب بهذه التجربة السياسية الاستثنائية إلى ولاء عقائدي وتحول مذهبي، ولم يعد الأمر مجرد ميول فردية، وإنما أصبح يخضع لتخطيط بعيد المدى، وتشرف عليه هياكل تتمتع بنفوذ وتمويلات ضخمة.

تكتسب الظاهرة في تونس أهمية خاصة، وذلك بسبب تشابكها مع الأوضاع السياسية السائدة حاليا. لقد شهدت نقلة نوعية وسريعة منذ تولي قيس سعيد رئاسة البلاد، وهي مسألة لافتة للانتباه، جعلت البعض يذهب بعيدا في التأويل

من جهتها، نفت إيران كدولة مسؤوليتها في دعم التبشير بالمذهب، واعتبرت أن سياستها الخارجية تتجاوز ذلك السقف، وتقوم على المصالح المشتركة بين الدول والحكومات. وكنت شخصيا خلال زياراتي السابقة لإيران، ألفت نظر المسؤولين هناك إلى خطورة هذه المسألة وتداعيات غير المحمودة على تونس بالخصوص، فهي معروفة بتجانسها المذهبي والعقائدي. وكان المسؤولون الإيرانيون يعيدون التأكيد من جديد حرصهم على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وبالخصوص تونس. لكن في الأثناء تستمر حركة التبشير وتتمدد وتتشعب، وتنبئ بعديد المخاطر.

عندما اندلعت الحرب الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني، تعاطف عموم التونسيين مع طهران، وساندوها بقوة؛ ليس فقط بسبب كراهيتهم لإسرائيل، وإنما أيضا لأن إيران دولة مسلمة وفي وضعية الشعب المظلوم، وكانت في حالة دفاع شرعي. لكن الساهرين على نشر المذهب، اعتبروا ذلك فرصة جديدة لمواصلة السعي لتحقيق أهدافهم التي ترمي إلى خلق طائفة موازية للمجتمع التونسي السني الأشعري، وهو ما أثار حفيظة الأوساط الزيتونية والطرق الصوفية والتيارات السلفية المكفرة للشيعة، بل وتعدى الخوف ليتجاوز أنصار حركة النهضة التي سبق لزعيمها راشد الغنوشي أن حذر من ظاهرة التشيع، رغم حرصه على بناء علاقة سياسية إيجابية مع إيران.

الأمر قد يتحول إلى معضلة وطنية ملغمة، وذلك عندما يكون الهدف إحداث تغيير بنيوي يحمل أبعادا استراتيجية، وذلك من خلال بناء طائفة جديدة، يكون ولاؤها الديني إلى مرجعية من خارج البلد، ويرتبط ذلك بولاء سياسي لدولة من نفس القاعدة مذهبية، وهو ما يسمح لها بفرض وصاية ما على أبناء هذه الطائفة

تكتسب الظاهرة في تونس أهمية خاصة، وذلك بسبب تشابكها مع الأوضاع السياسية السائدة حاليا. لقد شهدت نقلة نوعية وسريعة منذ تولي قيس سعيد رئاسة البلاد، وهي مسألة لافتة للانتباه، جعلت البعض يذهب بعيدا في التأويل، ويشيعون بكون الرئيس وجزء من عائلته قد تأثروا بدورهم، وأصبحوا شيعة اثني عشرية. وهي أخبار رائجة لكنها لا تستند على معلومات دقيقة ومؤكدة.

من جهة أخرى، تأسس حزب جديد في تونس يحمل اسم "الحشد الشعبي"، وحصل على التأشيرة القانونية، وأعلن ولاءه للرئيس قيس سعيد، ولمسار 25 تموز/ يوليو. تم ذلك في وقت تعمل فيه السلطة على تجفيف منابع الأحزاب، وتستعد حسب عديد المصادر لحل حركة النهضة بعد اتهام رئيسها المسجون بالتخطيط والإعداد لاغتيال الرئيس قيس سعيد.

لقد ضمنت التشريعات التونسية حرية الاعتقاد لجميع مواطنيها بدون استثناء، وبناء عليه لا يتوقع أن يحاكم أي مواطن بسبب انتقاله من مذهب إلى آخر، إذ لكل حريته المطلقة في الإيمان بأي عقيدة مهما كانت رغم وجود بعض التضييقات. لكن الأمر قد يتحول إلى معضلة وطنية ملغمة، وذلك عندما يكون الهدف إحداث تغيير بنيوي يحمل أبعادا استراتيجية، وذلك من خلال بناء طائفة جديدة، يكون ولاؤها الديني إلى مرجعية من خارج البلد، ويرتبط ذلك بولاء سياسي لدولة من نفس القاعدة مذهبية، وهو ما يسمح لها بفرض وصاية ما على أبناء هذه الطائفة أو تلك. في هذه الحالة يخرج الأمر من نطاق حرية المعتقد، ليمس مباشرة بالوحدة الوطنية وبالأمن القومي. لهذا لا بد من وضع المسألة ذات الطابع الإشكالي في إطارها الصحيح، حتى لا تتحول تونس إلى ساحة مفتوحة لصراع الطوائف ولحسابات الدول الباحثة عن مراكز نفوذ.