كتاب عربي 21

صندوق النقد الدولي وخطة رفع الدعم عن الوقود في ليبيا

ملف الوقود ملح ويحتاج معالجة، إلا أن رفع الدعم لن يحقق المرجو منه في ظل تعقيدات الوضع الليبي المعلومة للجميع، وسيكون الأثر إيجابيا جدا إذا تم تبني استراتيجية إصلاح اقتصادي شاملة.. (الأناضول)
اقترح صندوق النقد الدولي خطة لرفع الدعم عن الوقود في ليبيا، والذي بحسب ما أورده من بيانات كلف خزانة الدولة نحو 17 مليار دولار خلال عام واحد، فيما لم تتخط الإيرادات النفطية التي تشكل أكثر من 95% من الإيرادات العامة 19 مليار دولار العام 2024م. وذكرت دراسة الصندوق أن نحو ثلث الوقود يقع في مصيدة التهريب، وبالتالي فإن رفع الدعم عن هذه السلعة الحيوية يمكن أن يوفر مليارات الدولارات للخزانة العامة كل عام.

خطة الصندوق تنهج مسلك التدرج في رفع الدعم، بحيث يتم رفع الدعم كليا خلال 3 سنوات، على أن تعطي الحكومة بديلا نقديا قدَّره الصندوق بنحو 510 دينار ليبي شهريا لكل مواطن مع نهاية السنة الأخيرة من خطة رفع الدعم.

خطة صندوق النقد الدولي تصلح لبلد يشهد استقرارا ويحتاج فقط إلى مراجعة لسياسته العامة لما يترتب عليها من تحدي يعيق النشاط الاقتصادي ويحد من قدرة الحكومة على تبني سياسات اقتصادية واجتماعية فعالة، وليس لبلد يواجه أزمة مركبة يختلط فيها السياسي بالأمني بالاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.
ومع اتفاقنا كليا مع توجه الصندوق بضرورة معالجة ملف الوقود والنظر في هذا الملف بشكل جدي وجذري، باعتبار أنه شكل بابا من أكبر أبواب الهدر والفساد في البلاد، إلا أن هناك اعتبارات تفرض قيودا على أي مقاربة مجتزأة لمعالجات الاختناقات والمشاكل التي يواجهها الاقتصاد الوطني.

خطة صندوق النقد الدولي تصلح لبلد يشهد استقرارا ويحتاج فقط إلى مراجعة لسياسته العامة لما يترتب عليها من تحدي يعيق النشاط الاقتصادي ويحد من قدرة الحكومة على تبني سياسات اقتصادية واجتماعية فعالة، وليس لبلد يواجه أزمة مركبة يختلط فيها السياسي بالأمني بالاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.

يأخذ كثير من خبراء الاقتصاد والاجتماع على صندوق النقد أنه يعتمد وصفة ثابتة لا تكون صالحة لكل بلد وفي كل وقت، فتحرير الأسعار وخصخصة القطاع العام ورفع الدعم.. الخ، هي خيارات لا بديل عنها بالنسبة لصندوق النقد عند تقييم الاقتصادات المأزومة، وقد يكون لهذه الخيارات أثرا إيجابيا في الأحوال المستقرة، إلا إنها أخفقت في تحقيق المراد في العديد من التجارب، خاصة إذا كانت أوضاعها السياسية والأمنية سيئة جدا، وتواجه ظروف شديدة التعقيد.

يبدو أن مقاربة صندوق النقد الدولي لم توازن بين الأهداف التي تسعى الحكومات لتحقيقها لأجل تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، فقد تنجح خطة رفع الدعم في توفير مليارات من الدولارات سنويا، إلا أن الدراسة لم تناقش الاثر الاقتصادي والاجتماعي المباشر لتنفيذها، ولم تراع بعناية سياسات الرعاية والضمان الاجتماعي لفئات كثيرة تعاني ظروف معيشية صعبة.

الفساد يضرب أطنابه بشكل كبير، وهو وباء أصاب مناطق الشرق والغرب، ويتورط فيه كبار المسؤولين هنا وهناك، فما الضمانة أن تعود المليارات التي تم توفيرها من سياسة رفع الدعم بالنفع على المواطنين في شكل تحسين الخدمات العامة من تعليم وصحة ومرافق..ألخ، وما الذي يمنع أن تتجه إلى وقود لحروب قد يغيري بها الفائض في الإيرادات؟
لا ضمانة لتدفق البديل النقدي للمواطنين الذي اقترحته الخطة بشكل مضطرد بسبب الإرباك والاختلال الذي يواجهه الجهاز الحكومي، والأثر السلبي لحالة النزاع والصراع حول عوائد النفط، ويعرف الليبيون أن منحة الزوجة والأولاد ومنح طلبة الجامعات تشهد تعثرا وتأخيرا، كما أن أزمة السيولة تحرم الكثير من المواطنين من الوصول إلى مرتباتهم الشهرية، حيث يشكل المرتب الحكومي المصدر الرئيسي للدخل لنحو 80% من الليبيين، فهل سيكون البديل النقدي استثناء عن سائر المنح والمستحقات؟ وما هي ضمانات الحصول على البديل النقدي للوقود بشكل سلس، خاصة وأن النفقات الشهرية ستشهد زيادة بسبب ارتفاع تكلفة خزان الوقود للسيارات التي تمثل وسيلة المواصلات الوحيدة في البلاد، والتي حسب خطة الصندوق ستتضاعف نحو 21 ضعفا، من 15 قرشا إلى 3.1 دينار للتر البنزين، يضاف إلى هذه الزيادة الأثر التضخمي لسياسة رفع الدعم عن الوقود، حيث تعتمد منشأت ومؤسسات حيوية تقدم سلع وخدمات للمواطنين على البنزين والسولار.

الفساد يضرب أطنابه بشكل كبير، وهو وباء أصاب مناطق الشرق والغرب، ويتورط فيه كبار المسؤولين هنا وهناك، فما الضمانة أن تعود المليارات التي تم توفيرها من سياسة رفع الدعم بالنفع على المواطنين في شكل تحسين الخدمات العامة من تعليم وصحة ومرافق..ألخ، وما الذي يمنع أن تتجه إلى وقود لحروب قد يغيري بها الفائض في الإيرادات؟

بالأمس القريب كشف مصرف ليبيا المركزي عن تزوير وقع في العملة المحلية تجاوز 6.5 مليار دينار (ما يزيد عن 3.5 مليار في فئة الخمسون دينار، و 3 مليارات لفئة العشرون دينار)، والمتورط في هذا التزوير سلطة متنفذة، فهل يمكن أن يكون للإصلاحات الاقتصادية أي نتائج مرضية والوضع السياسي على هذه الشاكلة من التأزيم والفوضى؟!

ملف الوقود ملح ويحتاج معالجة، إلا أن رفع الدعم لن يحقق المرجو منه في ظل تعقيدات الوضع الليبي المعلومة للجميع، وسيكون الأثر إيجابيا جدا إذا تم تبني استراتيجية إصلاح اقتصادي شاملة، وليس مقاربات جزئية يكون أثرها محدود ولفترة قصيرة، وهذا مرتهن باستقرار عام ناتج عن تسوية سياسية تنهي النزاع وتقطع الطريق على العبث الذي بات العنوان الأبرز لسلوك الطبقة المتنفذة في البلاد.