كتاب عربي 21

محركات الأزمة الليبية اليونانية ومآلاتها

ما استفز الجانب الليبي هو تحريك أثينا لقطع بحرية في مواجهة المياه الإقليمية الليبية، وحجة اليونان هي التصدي لزوارق المهاجرين عبر الشواطئ الليبية إلى اليونان.. الأناضول
تأزم الوضع بين ليبيا واليونان مؤخرا، كشف عن ذلك التصريحات الرسمية المتبادلة بين خارجية البلدين، والملاسنة بين مندوبي ليبيا واليونان في الأمم المتحدة، ويدور التجاذب حول الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية في البحر المتوسط لكلا البلدين، وكانت اليونان قد أعلنت الأيام القليلة الماضية عن فتح الباب لعطاءات الشركات الأجنبية للتنقيب عن النفط والغاز جنوب جزيرة كريت، الأمر الذي رفضته السلطات الليبية، باعتبار أن هذه المناطق ما تزال محل نزاع، ولم يتم البت فيها بأي من طرق حل النزاعات حول الحدود والمناطق الاقتصادية البحرية.

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: لماذا أقدمت أثينا على هذه الخطوة الأحادية الجانب، برغم إدراكها أنها ستثير الجانب الليبي باعتبار أن المنطقة المشار إليها هي محل نزاع، وأن الطرفين لم يتوصلا إلى تفاهم بخصوصها منذ أكثر من عقدين؟
ليبيا بالمقابل، وعبر وزير النفط بحكومة الوحدة الوطنية غرب البلاد، أعلنت عن اتفاق مع شركات تركية لمسح ودراسة أربع مناطق في البحر المتوسط، وبالرغم من أن الخارجية اليونانية أقرت أن تلك المناطق لا تدخل ضمن نفوذها البحري، إلا أن وزير الدبلوماسية اليونانية حذر من استمرار التعاون الليبي التركي في البحر المتوسط.

الرد الليبي، ومن كلا الحكومتين بغرب وشرق البلاد، كان رافضا بالقطع للإعلان اليوناني عن فتح الباب لشركات التنقيب جنوب كريت، وهو وضع جديد ربما لم تتوقعه حكومة اليونان، وهذا ما دعا وزيرة خارجيتها للترتيب لزيارة ليبيا اليومين القادمين، والاجتماع بالحكومتين غربا وشرقا، مرجحا خيار الدبلوماسية لحل النزاع.

ما استفز الجانب الليبي هو تحريك أثينا لقطع بحرية في مواجهة المياه الإقليمية الليبية، وحجة اليونان هي التصدي لزوارق المهاجرين عبر الشواطئ الليبية إلى اليونان، وهنا يظهر أن اليونان اتخذت مسارا تصعيديا من خلال تحريك أدوات اقتصادية وعسكرية، إلا أنها عادت لتقديم المسار الدبلوماسي بالسعي للتباحث مع الأطراف الليبية.

السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: لماذا أقدمت أثينا على هذه الخطوة الأحادية الجانب، برغم إدراكها أنها ستثير الجانب الليبي باعتبار أن المنطقة المشار إليها هي محل نزاع، وأن الطرفين لم يتوصلا إلى تفاهم بخصوصها منذ أكثر من عقدين؟

بعض المراقبين رجحوا العامل الجيوالسياسي، والتطورات في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وأن أثينا تحركت بإيعاز أوروبي، أو بعض العواصم الفاعلة في الاتحاد، خاصة وأن النزاع يهم تركيا التي تناور لتجد لها مكانا على طاولة التفاوض والتوافق حول غاز شرق البحر المتوسط، الذي قدرت أحتياطيه هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية العام 2022م بحوالي 8 ترليون متر مكعب، وليس كما كان شائع من أن الاحتياطي يبلغ نحو 3 تريليون متر معكب.

وبالرغم من عدم استبعاد هذا العامل كمحرك للفعل اليوناني، إلا أن العامل الأكثر ترجيحا هو ازدياد مخاوف أثينا من تطور العلاقات التركية الليبية، خاصة مع الجبهة الشرقية ممثلة في مجلس النواب والقيادة العسكرية التابعة له، ومع جمهورية مصر، وأن التطور في العلاقة قد يخدم المصالح الاستراتيجية لأنقرة فيما يتعلق بالمصادقة على مذكرة التفاهم التي تم توقعيها العام 2019م بين أنقرة وطرابلس، ورفضها مجلس النواب والقيادة العسكرية في الرجمة.

ما يرجح هذا العامل هو التطور في مواقف جبهة الشرق بشكل إيجابي لصالح تركيا، فالموقف المتصلب من مذكرة التفاهم التي وقعتها حكومة الوفاق الوطني مع الحكومة التركية يبدو أنه يتغير، وقد أعلن أحد أعضاء مجلس النواب الليبي أن هناك نفسا إيجابيا ضمن المجلس تجاه المذكرة. يضاف إلى ذلك التطور في علاقة القيادة العسكرية، النافذة جدا في الشرق الليبي، مع أنقرة، هذا مع التنبيه أن مذكرة التفاهم توفر لليبيا مساحة أكبر من النفوذ الاقتصادي البحري وليس العكس.

القضية شديدة التعقيد والحساسية، والتصعيد اليوناني سيقابله تصعيد ليبي مدعوم تركياً، وأظهرت أنقرة في احتكاكات مشابهة أنها مستعدة لمواجهة أي تصعيد من اليونان بما يلائمه، وهذا ما لا تحتمله أثينا ولا ترغبه بروكسل ولا تؤيده واشنطن، وبالتالي فإن البديل هو التفاوض للوصول إلى توافق أو إرجاع الملف إلى الأرشيف.
العقبة أمام تحقيق تركيا هدفها الاستراتيجي قد تكون القاهرة، ومعلوم تأثير القاهرة على القرار السياسي لجبهة الشرق الليبي، غير أن العلاقة التركية المصرية شهدت دفئا تحول إلى تشبيك اقتصادي وحتى أمني استرتيجي، خاصة في ملف السودان وأزمة مصر مع أثيوبيا حول سد النهضة، وتسعى أنقرة إلى استمالة القاهرة إلى صفها في النزاع حول ثروات شرق المتوسط، وربما يكون تصريح وزير الخارجية اليوناني حول رفض أي نشاط اقتصادي، ليبي تركي، في مناطق النفوذ بين اليونان ومصر مغازلة لمصر ومحاولة لقطع الطريق على أي تطور في الموقف المصري تجاه المصالح التركية في شرق المتوسط.

ستكشف اجتماعات وزير الخارجية اليوناني بالجانب الليبي عن اتجاه الأزمة، وقد أبانت مصادر يونانية عن قلق أثينا من موقف حكومة الشرق الليبي حيال ما أقدمت عليه اليونان بخصوص التنقيب في المناطق المتنازع عليها، والتي كانت تعتبرها قريبة منها استنادا إلى موقف الشرق من مذكرة التفاهم بين أنقرة وطرابلس، وستختبر أثينا طبيعة المواقف الليبية (الحكومتين غربا وشرقا)، وربما تراهن على أن تكون تلك المواقف براغماتية تكتيكية، وليست قيمية استراتيجية، لكسب المؤيدين إقليميا ودوليا في الصراع على الساحة المحلية.

القضية شديدة التعقيد والحساسية، والتصعيد اليوناني سيقابله تصعيد ليبي مدعوم تركياً، وأظهرت أنقرة في احتكاكات مشابهة أنها مستعدة لمواجهة أي تصعيد من اليونان بما يلائمه، وهذا ما لا تحتمله أثينا ولا ترغبه بروكسل ولا تؤيده واشنطن، وبالتالي فإن البديل هو التفاوض للوصول إلى توافق أو إرجاع الملف إلى الأرشيف.