كتب

متى تصبح القومية خطرًا؟ ومتى تكون خلاصًا؟ قراءة في كتاب

النظرية التي تدعو إلى القيام بقدر أقل أو الامتناع عن القيام بأي شيء، حين يكون من الممكن القيام بأكثر تثير العديد من المسائل الشائقة.
الكتاب: الأمة والدين في الشرق الأوسط
الكاتب: فريد هاليداي، ترجمة عبد الإله النعيمي
الناشر: دار الساقي ، بيروت، الطبعة الأولى 2000، عدد الصفحات254 من القطع المتوسط

يتضمن هذا الكتاب العديد من النصوص التي تغطي طائفة من المواضيع والأجناس الكتابية: بعضها تحليلات لعمل الايديولوجيا والسلطة في الشرق الأوسط المعاصر، وبعضها الآخر مداخلات في مناظرات محددة تتعلق بالشرق الأوسط والعالم الغربي على السواء، ومنها ما يتناول الطرق التي جرى بها تعريف الهوية وكيف تغيرت.

وهناك ثلاث موضوعات على وجه التحديد يركز عليها  الباحث فريد هاليداي على تنوعها من معالجتها.

الموضوعة الأولى: تكوين الثقافة ـ أكانت قومية أو دينية. وعلى الضد من أولئك الذين في الشرق الأوسط وخارجه يحللون المنطقة بمفردات هويات ثقافية ودينية ثابتة، فقد سعى الباحث إلى  أسعى إلى تبيان هنا كيف أن ما يحدِّد بوصفه قوميا أو دينيا خاضع هو نفسه للتغيير: ما يُطرح على أنه حقيقي، تقليدي، أصيل، إنما هو قابل لتأويلات متباينة تستند إلى موضوعات من خارج المنطقة ومن تأويلات مختلفة للماضي. وفي تحليل الدين، كما في تحليل القومية، لا يتمسك الباحث بأي موقف حداثوي: ادعاء القومية والدين على السواء يذهب إلى أنهما يمثلان قراءة صادقة لمعطى، هو الماضي أو العقيدة. والواقع أن جماعات مختلفة، في السلطة أو خارجها، في منطقة الشرق الأوسط أو في المنفى، لا تني تعيد التعريف والانتقاء لخدمة أغراض معاصرة. وما يساق اليوم على أنه التمثيل الصادق لتراث ماض هو في الحقيقة اختلاق معاصر حديث هدفه تلبية حاجات معاصرة ليس أقلها مصالح أولئك الذين يحدِّدون تعريف التراث. وتكون الايديولوجيا بهذا المعنى أداتية، لأولئك الذين في السلطة ـ دول، نخب طبقات مراجع دينية رجال ـ ولأولئك الذين يتحدون السلطة.

الموضوعة  الثانية هي تأثير العامل الخارجي ـ أكان اقتصاديا أو عسكريا أو سياسيا أو ثقافيا ـ في الشرق الأوسط والتركيز المعاصر على العولمة الرأسمالية الليبرالية قد يجازف بقصر النقاش حول مثل هذه العوامل الدولية على الماضي الأخير. ولكن الشرق الأوسط بصفة عامة، والدول والشعوب المختلفة فيه، تأثرت بالتدخل الخارجي، كما أثرت في العالم الخارجي منذ آلاف السنين فالنقطة الحاسمة في التحديد الأصلي لليونان الكلاسيكية وبالتالي أوروبا، كانت معركة ثيرموبيلي عام 480 قبل الميلاد بين المدافعين اليونانيين والغزاة الفرس. وفي ما بعد لا يحتاج المرء إلى أكثر من التوقف عند تأثير المسيحية والإسلام في أوروبا، وكلاهما نشأ في الشرق الأوسط، أو تأثير الامبراطوريتين الإسلاميتين العربية والعثمانية  في بلدان المتوسط وابتداء من القرن الثامن عشر فلاحقا انطلق التوسع الاستعماري الأوروبي، وفي المقدمة منه توسع روسيا وبريطانيا وفرنسا، ليسود تاريخ الشرق الأوسط.

منذ نهاية الحرب الباردة، ودخول العالم في الموجة الثالثة من انتشار الديمقراطية بعد سقوط الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفييتي سابقًا ودول أوروبا الشرقية، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي الجديد الليبرالي أحادي القطبية، شهد العقدان الأخيران أو نحو ذلك انقساماً لافتاً، أو تباعداً بين شكلين من أشكال الخطاب العام معنيين على ما يفترض بمسألة تبني النظرية الليبرالية في الاقتصاد و السياسة.
إن الشرق الأوسط الذي نعرفه اليوم تكون قبل كل شيء بآليات عمل الرأسمالية الحديثة التي غزت المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وشهدت منذ النصف الأول من القرن العشرين صراعًا بين حركات التحرر الوطني و القومي و القوى الإست8مارية الأوروبية . وكان الشكل الذي اكتسبته الدول والاقتصادات، بل الشكل الذي أخذته الإيديولوجيات الدينية والقومية أيضاً في الشرق الأوسط الحديث، يعكس هذا التفاعل والدور الذي اضطلعت به معاداة الامبريالية الغربية كان نفسه ذا وجهين، عاملاً على تحرير الشعوب من الاضطهاد الخارجي وعاملاً بدوره على شرعنة أشكال جديدة من الاضطهاد المحلي، تمثل في الدول  التي حظيت بدعم من القوى الاستعمارية الأوروبية والإمبريالية الأمريكية.

الموضوعة الثالثة والأهم عندي التي يعالجها هذا الكتاب هي إمكان النقاش حول قضايا تحليلية وأخلاقية، بين الشعوب والثقافات، فما من فهم للعالم المعاصر وخصوصاً فهمه بين الشرق الأوسط والغرب الإمبريالي ، يمكن أن يفوته إدراك اللامساواة العميقة، واستمرار تراتبية القوة، اللذان يحددان هذه العلاقات.

ولهذا السبب من الضروري إدراك التأثير المتواصل لحقبة الهيمنة الامبريالية الأوروبية والأمريكية في الشرق الأوسط. فإن إدراك هذا الماضي شرطٌ مسبق لفهم الحاضر، ناهيكم عن حل القضايا التي تبعد الشرق الأوسط عن الغرب الإمبريالي، والعولمة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة التي تشدد على اللامساواة، ولكن هذا إدراك ينبغي أن لا يقودنا إلى تفسير كل التطورات في الشرق الأوسط بالإحالة إلى عامل الامبريالية الغربية. فإن الحصيلة النهائية يمكن بكل بسهولة أن تكون نظرية مؤامراتية. كما أن إدراك الهيمنة الامبريالية والاختلاف الثقافي، أو التراتبية المتأصلة في العولمة الرأسمالية ، ينبغي أن لا يقود إلى إنكار مناقشة القضايا المشتركة بين الشرق الأوسط والغرب. إذ إن من الممكن معالجة قضايا مشتركة تتعلق بالتحليل والموقف الاخلاقي. فإمكانية النقاش هذه عبر الحدود القومية والدينية تصح، مثلاً، على دور القومية والدين في السياسة.

يقف الباحث فريد هاليداي على الضدّ من الاتجاه السائد في منطقة الشرق الأوسط، الذي ينفي إمكانية وجود الكثير من القواسم المشتركة من التفكير السياسي الغربي والإسلامي المعاصر، ويرفض دخول المنطقة إلى عالم الحداثة الكوني.وسواء أكان الأمر يتعلق بقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو بمزاعم القوميين والأصوليين الإسلاميين أو بالمحاجات حول العلمانية فهو يعاقد بإمكانية وجود فضاء سياسي مشترك: هذا الفضاء المشترك هو نتاج إنسانية مشتركة، وانتماء مشترك إلى نظام اقتصادي وسياسي عالمي واحد أنجبته الحداثة الغربية.

في السياق التاريخي، لا يمكن لمنطقة الشرق الأوسط أنْ تتصدَّى  وتتجاوز نظام التراتبية للنظام العالمي الرأسمالي الليبرالي ذي الأهمية المركزية للعولمة، كما كان للإمبريالية، إلا من خلال بلورة مشروع فكري وثقافي وسياسي يقوم على أساس الحداثة، والتطلع إلى قيم مشتركة بل وقيم كونية. فالنزاعات التي تفرق بين الشعوب والأمم لا تدور من حيث الأساس حول القيم والحضارات وإنما حول مصالح وأرض وسطوة، وحول تأثير الصراع من أجل السلطة داخل دول محددة في النظام العالمي. وكانت كونيات الليبرالية والاشتراكية المتنافسة الأبكر قد أدركت تشارك القيم هذا في عالم من اللامساواة المادية.

يقول الباحث فريد هاليداي: "ما من مطلع على النقاش الأكاديمي والسياسي حول الشرق الأوسط المعاصر يستطيع ان يظن بأنه سيكون من السهل كسب الجدال حول هذه القضايا. فهناك الكثير من تراكم الأساطير وأنصاف الحقائق والكثير ممن لديهم مصلحة خاصة في إشاعة مثل هذه الأساطير بحيث لا يمكن التغلب عليهم بسهولة. ولكن من المهم إجراء المناظرة لتحدي أولئك الذين تؤثر تبسيطاتهم في النقاش داخل الشرق الأوسط وخارجه. وهنا أذكر ثلاثة اشخاص قدموا على ما أرى مساهمة استثنائية في هذا المسعى: مكسيم رودنسون، المستشرق الفرنسي الذي قدم عمله الجوهري ونقده للأساطير حول الشرق الأوسط مثالاً نقتدي به، وصادق العظم، الكاتب السوري الذي كتب على امتداد سنوات بشجاعة ووضوح ضد مد الظلامية القومية والأصولية، ومحمد خاتمي، الرئيس الإيراني الحالي الذي جادلت كتاباته لصالح الحوار لا الصدام بين الحضارات والذي يُعد عمله الفلسفي ذاته محاولة متميزة لاستطلاع مدلولات الحرية التي يراها صبوة كونية ذات هوية دينية وثقافية. فإن أصواتا مثل هذه الأصوات هي التي تؤشر إلى إمكانية المقاربة الكونية المحددة والمعللة في عالم من التبسيط والدوغماتية ـ العلمانية والدينية ـ والديماغوجية"(ص10).

هل يتقبل الشرق الأوسط  المعاصر النظرية الليبرالية؟

يجدر بنا، في هذا السياق، ذكر أنَّ ألبرت حوراني (1915 ـ 1993) مؤرخ بريطاني من أصل لبناني متخصص بتاريخ العرب والشرق الأوسط، ويُعدُّ كتابهُ (الفكر العربي في عصر النهضة: 1798 ـ 1939) من أشهر كتبه، وهو عبارة عن عمل شامل يدرس تياراتِ التحديث السياسية والاجتماعية في الفكر العربي في منطقة الشرق الأوسط المعاصر ، ويدرس فيه حوراني الطريقة التي تغيرت فيها الأفكار السياسية والمجتمعية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تفاعلاً مع التأثيرات الفكرية القادمة من أوروبا، ويتركز تفكيرُهُ على حركة تلك الأفكار في كلٍّ من مصر ولبنان، ويُظهر أنَّ التيارين الرئيسين في الفكر، الأول الذي يسعى إلى إعادة ترسيخ المبادئ الاجتماعية للإسلام، والآخر الذي يعمل على تسويغ فصل الدين عن السياسة، امتزجا معاً في عملية نشوء التيارات القومية العربية في القرن العشرين. ويحاول حوراني، في هذا الكتاب، تسليط الضوء على تاريخ العرب الفكري في عصر النهضة بسرده آراء أهم شخصيات ذلك العصر، مثل الطهطاوي، وخير الدين التونسي، والأفغاني، وشبلي شميل، وفرح أنطون، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين. ويعرض الكتابُ لتلك الشخصيات من خلال الانطباعات الأولى لدى المفكرين العرب عن أوربا، ومن ثمّ ولادة الحركات القومية والعلمانية والإسلامية في تلك الحقبة، ويقدم الفصل الأخير من الكتاب مسحاً للاتجاهات الأساسية في الفكر العربي في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

وما زال هذا الكتاب، منذ صدوره في عام (1962)، ويُنظَرُ إليه كتاباً أساسياً حديثاً في شرح الحقبةِ التي يدرسُها، وقد أصرتهُ جامعةُ كمبردج في طبعةٍ ثانية عام (1983)، وحاز رواجاً واسعاً، واعتُمدَ في غير جامعةٍ عربيةٍ كتاباً جامعياً ومرجعاً علمياً للطلبة الدارسين، وظلّ هذا الكتابُ الكلاسيكي، بالنسبة إلى المتخصصين والمهتمين، عملاً حديثاً ومانعاً في الوقت نفسه مع مرور ستين سنةً على أولِ إصدارٍ له، ويمكن أيضاً وصفُ الطبعة الثانية من الكتاب بأنها تبرزُ دراسةً استقصائيةً شاملة لتيار الفكر السياسي الحديث في الشرق الأوسط العربي. فيحلّلُ المؤلف أجوبة مؤلفين معروفين، ويستقصي آراءَهم مبيناً تيارين فكريين، أحدُهما يحاول إعادة توضيح المبادئ الاجتماعية في الإسلام، والثاني يبرّر فصل الدين عن السياسة، فأدّى ذلك في العصر الحاضر إلى نشوء القوميات، وبروز الفكر القومي العربي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويعكف الكتاب على دراسة حركة الأفكار في البلدان العربية، ولا سيّما في مصر ولبنان، وقد كتب مؤلف الكتاب مقدّمة جديدة له تحاول تأكيد البحث العلمي والتفسير المعمق لموضوع الدراسة.

من الضروري إدراك التأثير المتواصل لحقبة الهيمنة الامبريالية الأوروبية والأمريكية في الشرق الأوسط. فإن إدراك هذا الماضي شرطٌ مسبق لفهم الحاضر، ناهيكم عن حل القضايا التي تبعد الشرق الأوسط عن الغرب الإمبريالي، والعولمة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة التي تشدد على اللامساواة، ولكن هذا إدراك ينبغي أن لا يقودنا إلى تفسير كل التطورات في الشرق الأوسط بالإحالة إلى عامل الامبريالية الغربية.
منذ نهاية الحرب الباردة، ودخول العالم في الموجة الثالثة من انتشار الديمقراطية بعد سقوط الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفييتي سابقًا ودول أوروبا الشرقية، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي الجديد الليبرالي أحادي القطبية، شهد العقدان الأخيران أو نحو ذلك انقساماً لافتاً، أو تباعداً بين شكلين من أشكال الخطاب العام معنيين على ما يفترض بمسألة تبني النظرية الليبرالية في الاقتصاد و السياسة. فمن جهة تنامي الاهتمام بمواثيق حقوق الإنسان الكونية في إطار القانون الدولي وعلى جدول عمل المنظمات غير الحكومية وبعض الدول: هناك الآن أكثر من تسعين ميثاقا كهذه في متن قرارات الأمم المتحدة.

ومن الجهة الثانية، أصبح اتجاه مهم في النظرية السياسية يضع إمكانية أي مفهوم كوني للحقوق أو مرغوبيته، موضع تساؤل. وعلى هذه الخلفية يتوخى النقاش التالي غايتين فهو يهدف إلى استطلاع دلالات هذا الاتجاه النظري للمنخرطين في مناقشة الشرق الأوسط. كما أنه يسعى إلى معاينة الافتراضات المسبقة التي تكمن في أساس هذا الاتجاه النظري ذاته، بالإحالة إلى جزء محدد من العالم الحقيقي. ويتعلق هذا بأمر أجده مقلقاً ولا أدعي حله لا في أبعاده النظرية ولا في أبعاده الشرق أوسطية.

بالنسبة للباحث فريد هاليداي، فقد استخدم مصطلح امتناعية الهيمنة hegemonic abstentionism للإشارة إلى أولئك المنظرين السياسيين الذين يسعون من منطلقات فلسفية مختلفة، إلى الحد من تطبيق مفاهيم كونية لحقوق الإنسان وتوجد مصطلحات عديدة لمثل هذا الموقف جماعاتي نسبي ذو أساس تقليدي مناهض للتأسيسية ما بعد حداثوي، واقعي. وهناك اختلافات فلسفية بينها لكن خلاصتها العملية مدلولها في العالم الحقيقي متماثل عموماً. وتبعا لهذا الموقف تكون المفاهيم المتعلقة بالمجتمع المنشود. وتحديدا مفاهيم الحقوق كما هي معتمدة في الخطاب السياسي الغربي، مقتصرة إلى حدٍّ كبير أو بالكامل على الغرب. وبالتالي فإن المحاولة التي ترمي إلى تطوير وتنفيذ مواثيق كونية محاولة خاطئة من الأساس، ومثل هذا الموقف يتميز عن النسبية من الصنف المطروح في المجتمعات غير الغربية أو باسمها أو على ما يفترض باسمها: باسم قيم آسيوية أو إسلامية، أو كجزء من نقد المركزية الاثنية أو الإمبريالية. وهذا الموقف الأخير أسميه نسبية من تحت لأنه يسعى إلى مقاومة فرض شيء من الخارج.

يقول فريد هاليدي: "التيار الذي أريد معاينته في هذا المبحث هو بالأحرى ادعاء، من داخل الغرب، بأن هناك حدودًا لما يمكن وصفه المجتمعات أخرى، وأنه قد يكون في خير وصالح الجميع الامتناع عن ذلك. وهذا ما أسميه امتناعية الهيمنة hegemonic abstentionism، فهي تنزع إلى الهيمنة من حيث كونها صادرة عن وجهة نظر داخل الدول الديموقراطية الليبرالية المهيمنة وتعكس خياراً حول طريقة استخدام أشكال القوة المتاحة. والنظرية التي تدعو إلى القيام بقدر أقل أو الامتناع عن القيام بأي شيء، حين يكون من الممكن القيام بأكثر تثير العديد من المسائل الشائقة.

إن الفكرة القائلة بأن القيم، خاصة في مناطق أو جماعات محددة، بعيدة عن كونها فكرة جديدة. وكما يشير مؤرخو الفكر السياسي فإنها تسري في التفكير السياسي الغربي من إفلاطون إلى سبينوزا وروسو وهيغل وماركس، وموجودة ضمنا في الكثير من التفكير الانثروبولوجي والسوسيولوجي. مع ذلك سيكون من الصواب القول إننا خلال العقدين الأخيرين أو نحو ذلك شهدنا إعادة توكيد متماسكة وواسعة الانتشار لهذا الموقف. وتمكن رؤية ذلك في كتابات فلاسفة مثل الاسدير ماكنتاير Alasdair Charles وتشارلس تايلور Stuart Hampshire وستوارت ها مبشر Macintyre Taylor بین آخرين، وفي عمل منظرين سياسيين مثل مايكل وولزر Miciael في John Rawls وجون راولز Amitai Etzioni واميتاي ايتزيوني Walzer الولايات المتحدة، وديفيد ميلر David Miller وريموند بلانت Raymond Plant وجون غراي John Gray في بريطانيا"(ص 16).

تبرز هنا المركزية الثقافية الأوروبية و الغربية عموماً، لا سيما بالنسبة  لغالبية هؤلاء الكتاب الذين يعتبرون أنفسهم ضمن المعسكر الليبرالي بمعنى ما فليس هناك بالطبع، ما هو ليبرالي بصفة خاصة أو بالضرورة في هذا الرأي. فالفكرة الليبرالية  التي تذهب إلى أن حقوق الإنسان، أو المثل السياسية ليست قابلة للتطبيق إلا على الدول الغربية النخبوية، كانت فكرة شائعة في التفكير الكولونيالي في القرن التاسع عشر، مخلوطة، كما كانت بأفكار الداروينية الاجتماعية. واعتناق هانتنغتون لهذا الموقف الزاخر .

يمكن  عرض ثلاث مناظرات مبكرة من النقاش الغربي حول حقوق الإنسان في الشرق الأوسط المعاصر.

الأولى، وهي ما يمكن تسميته مقاربة الفظائع البلغارية، ترتبط بالحقبة الكولونيالية وبصفة خاصة النزاع حول معاملة المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية. وكان همُّ هذه المقاربة الانتقائية واللاكونية بصراحة، مصير المسيحيين ومواطني الدول المسيحية في العالم الإسلامي.

الثانية، ارتبطت بصعود النزعة القومية والنزاعات الاثنية توظيف النقاش حول الحقوق وإدانة انتهاكها توظيفا أداتياً في دعاوى متعارضة من جانب أطراف مختلفة في النزاعات، ففيما كان طرف بريئاً، أو تعرض إلى الاستفزاز أو ارتكب أخطاء في بعض الأحيان أو اقترف تجاوزات مؤسفة، كان الطرف الآخر قتلة إلى حد يجرد دعواه كلها من الشرعية. ونستطيع أن نرى مثل هذا الاستخدام المتحزب لحقوق الإنسان جامعا بين الإنكار والإدانة، لا سيما في سياق الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. الحق أن من أكثر السمات مدعاة للغم في المناظرة حول العالم ما بعد الشيوعي كان اجترار المحاجات القاصرة والجزئية نفسها حول حقوق الإنسان  التي يجدها المرء في الشرق الأوسط، فهذا الاتجاه يستحضر المعايير الكونية والرأي العالمي لكنه ليس كونيا بالمرة بل يقوم كما هو قائم فعلا على الانتقاء والمقارنة.

المناظرة الثالثة كانت تدور حول قضية النسبية. وترتدي هذه شكل نقد للهيمنة الغربية والمفاهيم المركزية الاثنية. ويعتقد الباحث فريد هاليداي أنَّ هذا الموقف مشبوهٌ رغم كل طابعه المعادي للإمبريالية والأصيل على ما يُفترض. والمحاجة النسبية، أكانت في الشرق الأوسط، كثيرا ما يطرحها ليس أولئك المصادرة حقوقهم بل أولئك الذين يصادرونها، في السياق الإقليمي، أو أصدقاؤهم الغربيون الذين يحققون أرباحاً مالية ومكاسب استراتيجية من ذلك.

يقول الباحث فريد هاليداي: "هذه الخطابات الثلاثة كلها ما زالت معنا: إنها ليست متنافرة مع بعضها بعضا ولا هي خاصة بالشرق الأوسط. لذا يمكن القول إن ظهور تيار امتناعية الهيمنة ينبئ بمرحلة رابعة في النقاش حول حقوق الإنسان. وهو يفعل ذلك بأربع طرق على أقل تعديل، أولاً، في حال قبوله عموماً سيوفر مبرراً للدول الغربية فضلاً عن وسائل إعلام وجامعات ومنظمات غير حكومية غربية وما شابه ذلك كي تسقط أو تميع قضية حقوق الإنسان وعلى نطاق أوسع قضايا الديموقراطية والعدالة في سياق الشرق الأوسط. ثانيا، إنه سيوفر بل ويوفر بشكل منظور مبرراً لأولئك الذين في الشرق الأوسط يريدون الأسباب خاصة بهم، أن يلجموا النقد الخارجي لممارساتهم في مجال حقوق الإنسان.

ويصح هذا على أولئك الذين في السلطة ولكنه يصح أيضاً على أولئك الذين باسم الأصالة الإقليمية، أكانوا قوميين أو أصوليين دينيين ينكرون تطبيق معايير كونية. وهكذا إذا كان حكام العربية السعودية وإيران والعراق يريدون حجة يدفعون بها نقد سياساتهم إزاء حقوق الإنسان الفردية، أو إذا كانت تركيا والسودان وإسرائيل تريد أن تدفع بها نقد إنكارها للحقوق الجماعية، فإنهم سيجدون ما يروح عنهم في محاجات الامتناعيين المهيمنين. وبالقدر نفسه ستطمين هذه المحاجات تلك الجماعات المعارضة التي تتناقض ممارساتها وبرامجها نفسها مع المبادئ الكونية لحقوق الإنسان. فلا غرو في أن الإسلاميين يحبون هانتنغتون: إنه يقول لهم ما يريدون سماعه(ص 19).