أمهر المحاربين لا يغضب، وأعظم المنتصرين لا يخوض المعركة- من مبادئ التاوية
الصينية.
تتشكّل الشخصية الصينية من إرثٍ عميق للكونفوشية والبوذية، وترى أن القوة الداخلية أعمق أثرًا وأطول عمرًا من القوة الخارجية. إنها قوةٌ صامتة، تتراكم عبر القرون، تقوم على التوازن وضبط الأعصاب وحكمةٍ تنأى عن الاستعراض. لذلك لا تستعجل الصدام ولا تنجرف خلف الضجيج، بل تمضي في تحقيق أهدافها بهدوءٍ ممتد، تلتهم العالم لقمةً لقمة، وفق حساباتٍ تمتد عبر الأجيال.
في المقابل، تقوم الشخصية الأمريكية، على نموذج رعاة البقر، على الفردية وإشباع الرغبات وثقافة الاستعراض. فهي ترى في القوة الخشنة والهيمنة المباشرة الطريق الأقصر لبلوغ الأهداف. ويقدّم هذا «الكاوبوي» نفسه بوصفه بطلًا ومبتكرًا يريد كل شيء فورًا، ولنفسه وحده؛ فتُعلَن القوة بصوتٍ عالٍ، وتُربَط الأهداف بدورات الانتخابات وتقلبات الأسواق، أكثر مما تُربَط بحسابات الزمن الطويل.
نخطئ حين نختزل مظاهر القوة في الطائرات والدبابات وفرض
العقوبات والدوس على ميثاق الأمم المتحدة؛ فثمة أشكال أخرى للقوة أكثر هدوءًا وأشد أثرًا، تتصدّرها أنظمة الدفع الدولية.
الصين تدرك هذه الحقيقة، وتبني سياساتها على هذا الأساس. فبينما تنشغل الولايات المتحدة بفرض الرسوم الجمركية، وجباية المليارات، وتوسيع منظومة العقوبات، ومحاصرة فنزويلا، بل وتعلن صراحةً رغبتها في الاستيلاء على نفطها، فضلًا عن مشاركتها في أكبر إبادة جماعية يشهدها العالم اليوم في غزة، تمضي الصين في مسارٍ مختلف تمامًا. فمنذ سنوات، تعمل بهدوء على تأسيس نظام مالي بديل، لا يقوم على الدولار، ومنفصل عن منظومة «سويفت»، ولا يخضع بأي حال لهيمنة الولايات المتحدة أو سيطرتها.
نتذكر جيدًا حين فُرضت العقوبات الاقتصادية على العراق في مطلع تسعينيات القرن الماضي؛ يومها باع الناس كل ما يملكون، ومات قرابة مليون طفل، وتفكّكت بنية الدولة إلى حدٍّ جعل الغزو الأميركي عام 2003 أشبه بنزهة عسكرية. وبالأداة ذاتها، أُجبر القذافي لاحقًا على التخلي عن برنامجه النووي تحت وطأة العقوبات الاقتصادية. في ذلك الزمن، كانت الولايات المتحدة سيدة العالم بلا منازع؛ إذ كانت تهيمن على نظام المدفوعات العالمي المعروف بـ«سويفت»، وهو نظام مراسلة مصرفي دولي يُستخدم لتبادل أوامر وتعليمات الدفع بين البنوك والمؤسسات المالية عبر الحدود. فهذا النظام لا ينقل الأموال بذاتها، بل ينقل الرسائل التي تُحدِّد من يدفع، ولمن، وبأي عملة، ووفق أي شروط، ويربط مئات الآلاف من المؤسسات المالية في قرابة مئتي دولة حول العالم.
ما زالت الولايات المتحدة تسيطر على نظام «سويفت»، وتملك القدرة على إخراج أي دولة منه، بما يشل نظامها المالي بالكامل، وهو أقسى عقاب يمكن أن تتعرض له دولة كروسيا أو إيران؛ إذ يشكّل «سويفت» فعليًا قاعدة مالية متقدمة للهيمنة الأمريكية في العالم.
غير أن واشنطن بالغت في استخدام هذا السلاح؛ فعاشت إيران سنوات طويلة تحت وطأته، ثم فُرض لاحقًا على روسيا، ما أثار مخاوف الصين من أن تكون الهدف التالي. عندها بدأت بكين التحوّط والاستعداد بهدوء.
فالصين، في هذه المرحلة، لا تسعى إلى إسقاط الدولار ولا إلى تحدّي الولايات المتحدة في مواجهةً مباشرة، بل تهدف إلى تقليل اعتمادها على العملة الأميركية، وتنفيذ تحويلاتها المالية خارج منظومة «سويفت». ومن هذا المنطلق أنشأت نظامها الخاص «سيبتس»، الذي لم يكن يُنظر إليه في بداياته بوصفه تهديدًا حقيقيًا. لكنه اليوم بات نظامًا مكتمل الملامح؛ يخدم مبادرة «طريق الحرير»، ويدعم مسار تدويل
اليوان، الذي أصبح خامس أكثر العملات الدولية تداولًا. فقد ارتفعت حصة اليوان في معاملات الصرف إلى نحو خمسة في المئة بعد أن كانت أقل من واحد في المئة عام 2010، ويربط هذا النظام آلاف البنوك والمؤسسات المالية في أكثر من مئة دولة حول العالم، ويتمتع بميزة جوهرية تميّزه عن «سويفت»، إذ لا يقتصر على المراسلة فحسب، بل يجمع بين المراسلة والتسوية المالية في آنٍ واحد.
لم تعد العقوبات الاقتصادية أداةً ناجعةً لإخضاع الدول كما في السابق. فقد استطاعت روسيا وإيران الاستفادة من نظام المدفوعات الصيني «سيبتس» لكسر العزلة المالية وتخفيف أثر العقوبات الغربية. فبعد إخراج عدد من البنوك الروسية من «سويفت»، وسّعت موسكو اعتمادها على اليوان في تجارتها مع الصين، وربطت جزئيًا بين نظامها المحلي ونظام «سيبتس»، ما أتاح تسوية صفقات الطاقة والسلع بعيدًا عن الدولار والبنوك الغربية. أما إيران، الخاضعة للعقوبات منذ عقود، فقد وجدت في «سيبتس» منفذًا مباشرًا لتسوية تجارتها مع الصين ومع دول أخرى مشاركة في النظام، ولا سيما صادرات النفط، سواء باليوان أو عبر حسابات وسيطة، الأمر الذي مكّنها من الاستمرار في الاستيراد وتخفيف وطأة العزلة.
ورغم أن «سيبتس» لا يزال دون «سويفت» من حيث الحجم والانتشار، فإنه حوّل العقوبات من أداة خنقٍ كامل إلى عبءٍ قابل للإدارة، وفتح ثغرة حقيقية في احتكار السلاح المالي الغربي، في انسجامٍ واضح مع النهج الصيني القائم على بناء البدائل بهدوءٍ وتراكمٍ طويل الأمد.
ما زال نظام «سويفت» هو الأوسع استخدامًا في العالم، وما زال الدولار الأمريكي، حتى اللحظة، سيّد عملات الاحتياط بلا منازع. لكن الدولار يتراجع عامًا بعد عام بوصفه العملة الاحتياطية الأولى عالميًا، فيما باتت مليارات الدولارات من تبادلات السلع والخدمات تُنجز بعملات أخرى. لذلك تنخرط دول العالم في النظام الصيني لا بدافع القناعة وحدها، بل خوفًا من العقوبات أو تحسّبًا لها. وحتى أقرب حلفاء الولايات المتحدة، وفي مقدمتهم أوروبا، التي وجدت نفسها تواجه شتاءً باردًا، لم تتردد واشنطن في إدارة ظهرها لها عند الحاجة.
ترى الصين أن التهديد الأكبر الذي يواجهها هو التبعية. وهنا يكمن الدرس الأهم.
الدستور الأردنية