تدرك
المعارضة التونسية
جيدا أنها لا تواجه حزبا حاكما، كما كان زمن النهضة، ولا شخصا، وإنما هي قُبالة الدولة
بمؤسساتها وأذرعها التي لها قدرة على ضبط المشهد وعلى تحديد منسوب الحرية، فهي من تسمح
أو تمنع التحركات
الاحتجاجية، وما من مسيرة إلا وتكون على علم بها مسبقا ليكون صمتها
علامة موافقة على التحرك.
الاحتجاجات الميدانية السلمية
لا تختلف عن البيانات المكتوبة ولا عن الخطابات التي يتناوب عليها مناضلون سياسيون
أثناء الوقفات الاحتجاجية، لا تختلف من حيث هي تأكيد قوليٌّ على التزام مبدئي نحو قيم
الحرية والعدالة، بقطع النظر عن مدى القدرة على التأثير والتغيير، فالمسألة أصبحت أخلاقية
أكثر منها تغييرا حقيقيا في المشهد.
بل إننا نرى أن "مُختَبَر"
25 تموز/ يوليو لم يتنازل منذ 2021، بل عكس ذلك، إنه يمضي في تنفيذ خارطة طريقه التي
رسمها منذ البداية، وهو يفعل ما يقوله سواء وعيدا أو تنظيرا، طبعا دون قدرة على معالجة
الصعوبات الاجتماعية والظروف المعيشية الصعبة،
وجود صعوبات في عمل المعارضة لا يمكن أن يجعلها تستسلم للأمر الواقع، تلك طبيعة النضال السياسي والكفاح الاجتماعي
ودون وفاء بكثير من الوعود، رغم استطاعته
تجاوز أزمة الخبز والحليب وبعض المواد الأساسية في بدايات إيقاف مسار التدرّب الديمقراطي.
والسؤال هو: هل تمتلك المعارضة
خارطة طريق؟ وهل استطاعت تجاوز خلافاتها الأيديولوجية رغم ما يُرفع أحيانا من شعارات
حول ضرورة توحيد الجهود لمواجهة الاستبداد؟ وهل بلغ جمهور الأحزاب والمنظمات والجمعيات
مرحلة اعتدال المزاج فيقبل بعضهم بعضا ويتجاوزون ما ليس مجديا الخوض فيها حاليا؟ وهل
بلغ المتكلمون في السياسة درجة وعي بكونهم جميعا في نفس الطابور المدعو لـ"الإنحناء"
أمام جرّافة لا ترى قامة ولا علامة؟
وجود صعوبات في عمل المعارضة
لا يمكن أن يجعلها تستسلم للأمر الواقع، تلك طبيعة النضال السياسي والكفاح الاجتماعي،
ولا يمكن أن ينتهي بها إلى التسليم بانسداد الأفق، فذاك مما يتعارض مع معاني العزم
والصبر في العمل السياسي النضالي، ولكن يبقى السؤال دائما: إلى أي حد سيظل جمهور الأحزاب
واثقا من جدية شعارات المعارضة ومن حقيقة قدرتها على فعل شيء؟
عادة، الجماهير بما هي قوة
عاطفية وروح غضبية، لا يمكن معرفة مواقيت تحولها إلى كيمياء عاصفة يمكنها نسف المشهد
برمته في ساعات قليلة، تلك المواقيت المخبّأة في رحم الغيب هي التي يراهن عليها عادة
السياسيون المناضلون، إنهم يظلون أوفياء لمبادئهم، ويظلون ملتزمين أخلاقيا بشعاراتهم،
دون تحديد لموعد انفراج أو
تغيير جذري.
أي تغيير لا يكون نابعا من إرادة الشعب لن يكون له مستقبل وسيظل مرتهنا للجهات التي أسهمت في حصوله، وسيجد الناس أنفسهم مجرد أدواتٍ وموضوعا لتنفيذ اتفاقات بين غالب ومغلوب
وليس من السياسة تقدير المستقبل السياسي بناء
على "حوادث سير" من أزمات صحية أو حالات وفاة، فتلك من احتياطات الدساتير
ولا يليق أن تكون فرضيات في عقول المقامرين.
ثمة عامل آخر لا يمكن إغفاله،
وهو العامل الخارجي، فالسياسة ليست إنتاجا محليا خالصا، إنما هي مزيج من تقديرات الداخل
ومصالح الخارج، وهنا يكون الحرص الجماعي على حماية القرار الوطني أمرا مؤكدا، حتى لا
يتحول مستوى التدخل الخارجي إلى انحياز ممجوج ضد طرف أو مع طرف من أبناء الوطن الواحد.
والحديث هنا عن الوطنية في زمن تعصف به المصالح، ليس حديثا مثاليا ولا خطابا إنشائيا
ولا مزايدة على أحد أو طعنا في أحد، وليس في السياسة حكم على النوايا، إنما يكون الحكم
على الأداء ويكون التقييم للتقديرات السياسية.
إن القوى الخارجية، كما
تأكد لكل متابع خلال وقبل وبعد "الطوفان"، ليست ملاذا خيريا للمستضعفين والمغلوبين،
إنما هي قوى متصارعة على الضعفاء لتوسيع مجالات المصالح، ولا يتعامل هؤلاء مع الضعفاء
على أنهم أصدقاء أو شركاء إنما على أنهم عملاء.
وفي ظل استمرار "الصمم
السياسي"، وخاصة من السلطة، فإن خطاب المعارضة سيجد "وجاهة"، خاصة وأنه
لم يصدر عن قياداتها تحريض على عنف أو دعوة إلى عصيان مؤسسات الدولة.
إن أي تغيير لا يكون نابعا
من إرادة الشعب لن يكون له مستقبل وسيظل مرتهنا للجهات التي أسهمت في حصوله، وسيجد
الناس أنفسهم مجرد أدواتٍ وموضوعا لتنفيذ اتفاقات بين غالب ومغلوب.
x.com/bahriarfaoui1