في أجواء أعياد الميلاد، تتوسع أعمال الخير ودعم المحتاجين، ويستذكر أتباع الكنيسة مواقف السيد المسيح عليه السلام وتوجيهاته حول إطعام الجياع وإغاثة المحرومين. ويُروى أنه قال لمن حوله: «إنكم تأتونني يوم القيامة، وليُحشرنّ إليّ سكان الأرض فيقومون عن يميني وشمالي، فأقول لأبناء الشمال: لقد كنت جائعاً فما أطعمتموني، وعرياناً فما كسوتموني، ومريضاً فما عدتموني ولا داويتموني، ومحبوساً فما زرتموني، فيكون من جوابهم أن يقولوا لي: متى كنت يا سيدنا مريضاً، أو عرياناً او جائعاً او محبوساً؟ ألم نكن باسمك نتنبأ، وباسمك نشفي المرضى، وباسمك نطعم الجياع، ونكسو العراة، ونداوي المرضى، وباسمك نأكل ونشرب؟ فأقول لهم: قد كنتم تذكرون اسمي ولا تشهدون عليّ بالحق، ابعدوا عني يا عاملي الإثم. ثم أقول لأبناء اليمين: هلمّ أيها الصالحون الى رحمة الله والى الحياة الدائمة»؟
إنها توجيهات مقدّسة تنطلق من تعليمات السماء وتهدف لتوفير حماية البشر من غوائل الفقر والجوع والضياع. ولكن برغم ذلك، فليس هناك ما يشير إلى تصاعد أعمال الدعم والإغاثة للاجئين الفلسطينيين والجياع. وكثيرا ما تُظهر شاشات التلفزيون مشاهد الإنهاك بين الأطفال الذين يعيشون في المخيّمات ولا يحصلون على الغذاء والدواء والماء بسهولة.
ولكن ليس هناك وجود لحملات إغاثة دولية لإحياء المناسبة، بل حتى المنظمات الإغاثية العاملة في مناطق
الاحتلال كثيراً ما تتعرض للاتهام والتشكيك بهدف إعاقة عملها الذي تتصاعد أهميته عند حلول فصل الشتاء. إن تسييس الأعمال الإنسانية خصوصاً جهود الإغاثة اعتداءٌ على حقوق الإنسان بشكل خاص، بالإضافة لكون ذلك تنكراً لأبسط القيم الإنسانية التي تدعو لإغاثة المحتاج. وليس جديداً القول إن حياة أنبياء الله حافلة بنماذج العطاء والتضحية من أجل الآخرين، وإن الأعمال الإنسانية تخترق الحدود الدينية والجغرافية. هذه حقائق يجب أن يعيها البشر، وأن تكون شعارات للأعمال الإنسانية، ودوافع مشروعة لتحدّي سياسات الاستهداف واستخدام الغذاء والدواء ضمن أساليب التصدّي للآخر المختلف سياسياً أو دينيّاً.
ما دامت منظمة «أونروا» تقدم مساعدات للفلسطينيين في غزّة وتمارس عملها الإنساني خارج الأطر السياسية، فستكون مستهدفة من الدول التي تدعم «إسرائيل»، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. وما أيسر تقديم المبرّرات لذلك. وليس اتهام المنظمة بتوظيف عناصر «إرهابية» إلا إحدى الذرائع لحرمان أهل
غزة من الغذاء والدواء. وتعمل
الأونروا في غزة والضفة الغربية ولبنان والأردن وسوريا، حيث تقدم مساعدات وخدمات تتعلق بالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية إلى جانب توفير المأوى لملايين الفلسطينيين.
ما أكثر المؤشرات التي تؤكد الدعم الأمريكي المطلق للاحتلال، منها ما يلي:
أولاً: التزامه بالتفوق العسكري للاحتلال على الدول العربية كافة.
ثانياً: استخدام مصطلح «الإرهاب» سلاحاً ضد من يقدّم الدعم المادّي لأهل غزة خصوصا ًفي هذه الفترة التي تسبق حلول الشتاء.
ثالثاً: تجريم من يساعد أهل فلسطين واستهدافه سياسياً واقتصاديا.
رابعا: الضغط على المنظمات الدولية التي تقوم بأعمال الإغاثة في المناطق المحتلّة لعرقلة عملها وحرمان الجياع من مساعداتها.
خامسا: استهداف من يقاطع كيان الاحتلال بما هو متاح من وسائل.
سادسا: استهداف من يقاطع منتجات المستوطنات الإسرائيلية التي تعتبر وفق القانون الدولي فاقدة للشرعية.
ويناقش مسؤولو وزارة الخارجية الأمريكية إعلان الأونروا «منظمة إرهابية أجنبية»، وفي ذلك تحجيم حقيقي لأمريكا التي يُفترض أن تمارس دوراً إيجابيا في النزاعات الكبيرة خصوصا قضية فلسطين، بدلاً من أن تصبح طرفاً منحازاً للاحتلال.
وقد أصبح واضحاً أن السياسة الأمريكية ليست موجّهة لخدمة المصالح الأمريكية بشكل مباشر، بل خدمة المصالح الإسرائيلية أوّلا.
ولكن حتى في امريكا هناك تيارات واسعة ترفض اعتبار المصالح الإسرائيلية والأمريكية قضية واحدة، وأن على أمريكا أن تركز على مصالحها بعيداً عن الاعتبارات الإسرائيلية التي تسعى لتوريط أمريكا في نزاعات لا تخدمها.
وفي المقابل هناك قطاعات دولية واسعة تتحرك بدوافع إنسانية لتخفيف معاناة أهل غزّة، برغم أن في ذلك تحدّياً للموقف الأمريكي. فمثلا تُعدّ أيرلندا قانوناً للحد من التجارة مع المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وتواجه ضغوطاً في الداخل لتوسيع نطاق الحظر من السلع ليشمل أيضا الخدمات، بينما تريد «إسرائيل» والولايات المتحدة إلغاء مشروع القانون.
وتمارس الشركات الأمريكية في أيرلندا ضغوطا على الحكومة، لتخفف حدة انتقاداتها لإسرائيل. ومن المتوقع أن يسهم مشروع القانون الأيرلندي في تحديد كيفية فرض الدول الأوروبية الأخرى قيوداً مماثلة على التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية.
وتعتبر معظم دول العالم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية بموجب القانون الدولي.
وتُعارض «إسرائيل» هذا الرأي، مستندة إلى روابط تاريخية ودينية بالمنطقة، وتؤكد أن المستوطنات توفر عمقاً استراتيجياً وأمنيّاً. وفي كانون الأول /ديسمبر الماضي أغلقت « إسرائيل» سفارتها في دبلن وسط خلاف حول انتقاد أيرلندا لحربها في غزة، بما في ذلك اعتراف أيرلندا بدولة فلسطينية العام الماضي. وتمارس أيرلندا جهوداً في البرلمان الأوروبي لمحاصرة سياسات الاحتلال بشكل خاص.
وحث باري أندروز، العضو الأيرلندي في البرلمان الأوروبي، دبلن على المضي قدماً في مشروع قانون الأراضي المحتلة. وقال «الادعاءات بأن أيرلندا معادية للسامية هراء. ليس لدى أيرلندا ما تخشاه. لم نعد الوحيدين الذين يقومون بذلك».
الانحياز الأمريكي للاحتلال، حتى في ميدان الإغاثة الإنسانية لا ينسجم مع موقع أمريكا الدولي من جهة ودورها كطرف يدّعي حماسه لإحلال سلام في العالم
من سياق هذه التطورات يتضح أن السياسة الإسرائيلية لشيطنة المؤسسات الدولية التي تتخذ مواقف غير منسجمة مع سياسات تل أبيب أصبحت مصدر إزعاج وقلق لدى القائمين على المنظمات الدولية. ويزيد من هذا القلق الشعور السائد بأن أمريكا تسعى دائماً لمسايرة سياسات «إسرائيل» ومواقفها، الأمر الذي أضعف قدرة الولايات المتحدة على أداء دور فاعل في العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط. فالانحياز الأمريكي للاحتلال، حتى في ميدان الإغاثة الإنسانية لا ينسجم مع موقع أمريكا الدولي من جهة ودورها كطرف يدّعي حماسه لإحلال سلام في العالم خصوصاً في الشرق الأوسط من جهة أخرى. فإذا أصرّت واشنطن على استهداف المنظمات الإنسانية الدولية التي تعمل في غزّة فإنها لا تُسدى خدة للسلام أو الإنسانية، بل تكرّس واقعاً سياسياً يحول دون التوصل إلى حلول حقيقية للأزمات. بل أن المنظمات الإنسانية نفسها تشعر بالخذلان من السياسة الأمريكية بشكل خاص.
وهذا ما يؤكده وليام ديري مدير مكتب الأونروا في واشنطن بقوله إن الوكالة «ستشعر بخيبة أمل» إذا كان المسؤولون الأمريكيون يناقشون بالفعل تصنيفها منظمة إرهابية أجنبية. وقال ديري «منذ كانون الثاني /يناير 2024، تُحقق أربع جهات مستقلة في حيادية الأونروا، من بينها مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي. وتوصلت جميعها إلى النتيجة نفسها، وإن كان ذلك قد حدث في أوقات مختلفة ومن وجهات نظر مختلفة، وهي أن الأونروا «جهة إنسانية محايدة لا غنى عنها». برغم ذلك يصر مسؤولو وزارة الخارجية الأمريكية على التشبث بالادّعات الإسرائيلية التي تقول إن أونروا «منظمة فاسدة لها سجل حافل مثبت في مساعدة وتحريض الإرهابيين».
بين السياسة والأعمال الإغاثية الإنسانية يقف العالم متأرجحا في مواقفه، فهو يرغب في تقديم الدعم للمحتاجين خصوصاً الواقعين تحت الاحتلال. ومع غياب مواقف واضحة من الأطراف الدولية الكبرى كالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، يرى الأمريكيون أنفسهم فرسان الميدان، برغم عدم سعيهم لاخفاء انحيازهم الكامل للاحتلال.
إن من المثير للسخرية أن يتم حرف السجال حول أعمال الإغاثة في هذا الوقت بشكل خاص. فالشتاء على الأبواب ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين تتضاعف مع هطول الأمطار وانخفاض درجات الحرارة خصوصا في مناطق المخيّمات. فهناك حاجة ماسّة للطعام والدواء في غزّة المحاصرة، والسعي لمواجهة هذه الحاجة يجب ألا يخضع لاعتبارات سياسية بحتة، بل يجب أن يكون الدافع الإنساني لدى الحكومات والمنظمات هو المحرّك الأول لأعمال الإغاثة. كما يجب أن يزداد الوعي بالأساليب الإسرائيلية الهادفة لشيطنة الأطراف الدولية العاملة في مجالات الإغاثة والتوطين بشكل خاص.
وعلى الأمم المتحدة والأطراف الدولية الأخرى خصوصاً أمريكا دعم هذه المنظمات في وجه الهجمة الإسرائيلية الشرسة المنطلقة بدوافع غير إنسانية، فلدى الإرهابيين أساليبهم في تنفيذ خططهم، ولا تمثل منظمات الإغاثة الدولية مناطق نفوذ لهم.
ويجدر بالجهات السياسية المعنيّة التوجه لـ «إسرائيل» وحثهّا على عدم عرقلة الجهود الإنسانية التي تتصدى للكوارث والأزمات الإنسانية، أو اعتبار الدعاوى الاسرائيلية «حقائق مطلقة».
مطلوب وعيٌ إنساني عميق بضرورة توسيع أعمال الإغاثة خصوصاً في هذا الفصل، لإنقاذ حياة المزيد من البشر الذين تقطّعت بهم سبل الحياة وبدأوا يبحثون عن سبل لا تؤدّي بهم إلى الموت. فإذا سمح العالم لنفسه بتجاهل استغاثات الجياع والمرضى في المخيّمات بدون أن يحرّك ساكناً، فسوف يكون شريكاً في جرائم قتل جماعية تُرتكب عمدًا مع سبق الإصرار والترصّد. إن الأطراف التي تعمل لإبادة الشعب الفلسطيني من الناحية العملية، تتصدر الموقف الدبلوماسي والسياسي الغربي، فيجب أن لا تُتاح لها فرصة التأثير على القرار الدولي الذي يتعاطى مع قضية الاحتلال ويتحدث عن «تحرير فلسطين». فهل هذا ما يبحث عنه عالم القرن الحادي والعشرين؟
القدس العربي