مقالات مختارة

المارد الصيني يطلّ من الشرق

سعيد الشهابي
جيتي
جيتي
كانت الذكرى الثمانون لانتهاء الحرب العالمية الثانية فرصة لمشاهدة قوة الصين العسكرية التي يدعمها ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

وانتاب الكثيرين شعور بالذهول وهم يشاهدون الاستعراض العسكري العملاق الذي شاركت فيه كافة قطاعات القوات الأرضية والجوّيّة. كما انتابهم شيء من الاطمئنان بأن الصين، على خلاف أمريكا ودول الغرب، ليست معروفة بالعدوان والمغامرات العسكرية الطائشة، برغم وجود خلافات حدودية مع الهند، واللغط السياسي المتواصل حول التبت وتايوان. فقد استولت الصين في أربع مناسبات بين عامي 2013 و2020 على أجزاء من الأراضي على طول الحدود الهندية الصينية في جبال الهيمالايا.

ووصل الصراع الحدودي إلى ذروته بين الجارتين في ربيع 2020 بعد اشتباكات عنيفة في وادي جالوان في منطقة لاداخ الحدودية في أقصى شمال الهنـد مما أدى إلى سقوط قتلى من الجانبين لأول مرة منذ 45 عاما.

وفي القمة الأخيرة تعهد البلدان باحتواء الخلاف الحدودي وحله بالطرق السياسية وليس المواجهات العسكرية. فالصين تدرك أن الصراعات العسكرية تدمّر البلدان وتعوّق نهضتها وتعطّل سياسات التنمية فيها، ولذلك تبذل جهدها لعدم الانخراط في أي صراع عسكري مسلّح على نطاق واسع، لكي لا تتعرض إنجازاتها وبناها التحتية لتخريب واسع يعيد البلاد إلى مرحلة ما قبل النهضة التكنولوجية التي حققتها. فبعد انتهاء حقبة «عصابة الأربعة» في السبعينيات، بدأت الصين مسيرتها نحو النهضة الصناعية العملاقة، ولا تريد العودة إلى سياسة السلطة الشيوعية المطلقة.

اللقاء الذي ضم رئيس الصين بنظيره الروسي مؤخرا ساهم في بث قدر من الاطمئنان بعدم حدوث صراع بين البلدين الكبريين في آسيا، اللذين يمتلكان سلاحا نوويا عملاقا.

وكان اللقاء على هامش قمة «شنغهاي» هذا الشهر فرصة لتأكيد المشتركات بين البلدين، برغم تراجع دور الأيديولوجيا في التأثير على سياسات البلدين ومواقفهما. فبرغم الأيديولوجيا الشيوعية، فقد أظهرت التطورات السياسية والاقتصادية في روسيا والصين أن الاقتصاد يحظى بالأولوية سواء في سياسات التنمية الوطنية أم على صعيد العلاقات الخارجية. مع ذلك ما تزال أمريكا تنظر ألى أي تقارب بين موسكو وبكين بارتياب وتشكيك.

وكانت هناك احتمالات متأرجحة لحدوث تغير في السياسة الأمريكية بعد وصول ترامب إلى الرئاسة، ولكن اتضح الآن أن هذه الحقبة من أسوأ الفترات في التاريخ الأمريكي في مجال كسب الأصدقاء وتوسيع العلاقات واستيعاب التطورات في العلاقات الخارجية.

صحيح أن قدرا من التفاهم مع روسيا قد تحقق في مجال التخفيف من حدّة السباق النووي، ولكن أمريكا لم تستطع طرح مشروع جديد لعلاقاتها الخارجية يتجاوز تركة زعمائها المعاصرين خصوصا إزاء التسلح والسلم العالمي والمواثيق الدولية ومفاهيم العدوان والعدالة. وجاء العدوان الإسرائيلي على غزّة ليكشف هشاشة السياسات الأمريكية ومدى التزامها بمقولات العدالة والحياد إزاء الصراعات السياسية. ويعتبر ذلك من أكبر التحدّيات التي لم تنجح أمريكا فيها.

هناك شعور عام بأن الصين قطعت مسافات شاسعة في مجالات عديدة، في مقدمتها الاقتصاد. فقد قطعت الصين أشواطا كبيرة في بناء اقتصاد عملاق يعتبر الثاني في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى صعيد الدخل القومي يقدّر دخل الصين بقرابة 19 تريليون دولار (في العام 2024) في مقابل الولايات المتحدة الأمريكية (حوالي 29 تريليون دولار).

هذا التفاوت في الدخل القومي لا يقلّل القلق الأمريكي، وكذلك الغربي، من توسع دائرة النفوذ الصيني في العالم، وتوسع اقتصادها الذي أصبح مهيمنا على اقتصادات الدول النامية خصوصا في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولا شك أن حقبة «التحرر الوطني» في هذه البلدان التي سبقت يقظة المارد الصيني من سباته ساهمت في تمهيد الأرضية لعلاقات منفتحة مع الصين. يضاف إلى ذلك ملف الصين في علاقاتها الخارجية، وعدم احتواء ذلك الملف على تاريخ أسود من التعاطي مع شعوب العالم الثالث. فما تزال التركة الاستعمارية تخلق الشكوك في حقيقة النوايا الغربية عند التعاطي مع الدول النامية. بينما تبدو العلاقات مع الصين أقل إثارة لمشاعر الغضب والتشكيك لدى قادة الدول النامية.
كانت الحيرة واضحة في تصريحات زعماء الدول الغربية في الأيام القليلة الماضية

وقد استطاعت دول عربية وأفريقية عديدة تطوير أوضاعها الاقتصادية وبناها التحتية بمساعدة الصين التي وفرت ذلك بنفقات متواضعة مقارنة بتكاليف الخدمات التي يقدمها الغربيون. وبينما كان الغربيون على مدى العقود الثلاثة الأخيرة ينتهجون سياسات اقتصادية جشعة ويتعاملون مع الدول النامية بأساليب الاستعلاء والتنمّر، كان زعماء الدول النامية يشعرون بقدر من المساواة عندما يتحاورون مع المسؤولين الصينيين. وكان واضحا أن الجيل الجديد من زعماء الصين قد تعلّموا من تجربة روسيا التي عانت خلال حقبة الحرب الباردة من التركة الثقيلة للحزب الشيوعي في علاقاتها وسياساتها الخارجية، بل حتى على صعيد التصنيع المحلّي من جهة والعلاقات مع الدول الأخرى من جهة أخرى.

كانت الحيرة واضحة في تصريحات زعماء الدول الغربية في الأيام القليلة الماضية. فالاستعراض العسكري الصيني في الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية أظهر الصين قوة عملاقة لا يمكن منافستها إلا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فلديها من الأسلحة التقليدية والأساطيل البحرية والتكنولوجيا النووية ما يدخل الرهبة في نفوس زعماء أوروبا ويدفعهم لإعادة صياغة استراتيجياتهم العسكرية والاقتصادية، بل والسياسية كذلك.

هؤلاء الزعماء يعلمون أن لدى الصين مشكلة سياسية وعسكرية واحدة، تتمثل بإصرارها على اعتبار تايوان جزءا من الصين التي لم تخف يوما استعدادها لاستخدام القوة لتحقيق ذلك. وقد اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية ذلك خطا أحمر وأعلنت استعدادها لمواجهة الصين عسكريا فيما لو استخدمت بكين القوة لتحقيق ذلك.

كان ذلك يمثل العقيدة السياسية والاستراتيجية لدى الغربيين في حقبة الحرب الباردة، عندما كانت الصين تضع أولى خطواتها على طريق التصنيع الجاد. وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، استطاعت الصين تحقيق ما لم يكن في حسبان الغرب من توسع في بناء اقتصاد عملاق تدعمه مشاعر وطنية طالما التزمت الصمت أمام العالم إزاء ما تهدف لتحقيقه. فمنذ مطلع التسعينيات بدأت الصين مشروع التصنيع الذي لم يتوقف، بل أصبح يمثل التحدي الأكبر للغرب في مجال الصناعة.

وقبل ذلك كان الغربيون يواجهون المارد الصيني باتهامه بالتقليد التكنولوجي وعدم القدرة على الاختراع والإبداع وافتقار المنتجات الصينية للجودة والمتانة. وعزوا التقدم في مجال التصنيع لعوامل في مقدمتها توفر اليد العاملة الرخيصة. ولكن أصبح واضحا أن الصين أصبحت ماردا لا يُطاول، وأصبح الغربيون يحسبون لها حسابا خاصا. وتعتبر الصين رائدا في مجال الذكاء الصناعي والاقتصاد الرقمي، وتدعو لاقتصادات دولية تحتوي الجميع ولا تستثني أحدا.

على مدى عقود كانت مواقف الغربيين وسياساتهم تجاه الصين تتميز بالهدوء والحذر.
وجاء الاجتماع الخامس والعشرون لمجلس رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون، الذي عُقد في الفترة من 31 أغسطس إلى 1 سبتمبر 2025، كصاعق تفجير غير محسوب ليفتح لدى زعماء الغربيين مجالا لإعادة النظر في سياساتهم تجاه الصين. عقدت تلك القمة في مدينة تيانجين في أجواء مهّد لها السيد وانغ يي، عضو المكتب السياسي العشرين للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية المركزية للحزب الشيوعي الصيني.

وكان واضحا أن هناك اهتماما غير مسبوق من قبل الحزب الشيوعي الصيني بتلك القمة التي خرجت فيها الصين متوّجة كزعيمة لعالم جديد يتوفر على قوة اقتصادية غير مسبوقة وتفاهم إقليمي ودولي اعتبره الغربيون التحدّي الأكبر لنفوذهم منذ انتهاء الحرب الباردة.

وليس مستبعدا أن يكون ذلك مدخلا لحرب باردة أخرى تمثل الصين والدول الصديقة محورها الأساس تحت مسمّى «الجنوب العالمي». فإذا كانت الحرب الباردة الأولى التي نشبت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قد سجّل الغربيون فيها غلبة ساحقة على المعسكر الشرقي، فإن الأجواء الحالية مختلفة تماما. فأمريكا بدأت في عهد ترامب متجهة نحو الداخل، بينما الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر انشغالا بهمومه الإقليمية، وبدأت حالة الإنهاك تظهر على وجوه زعمائه بعد فشلهم في التصدي للاجتياح الروسي لأوكرانيا، أو طرح مبادرات ذات معنى لحل القضية الفلسطينية التي كان لهم يدٌ في إثارتها قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل