مقالات مختارة

شحّة المياه: الأزمة الدولية الصّامتة

سعيد الشهابي
فيسبوك
فيسبوك
من القضايا الحيوية التي تحظى بنقاش على نطاق واسع أزمة المياه في العالم. وليس معلوما بعد ما إذا كانت قمة المناخ المستمرة في البرازيل ستتطرق لهذه المشكلة بشكل يتناسب مع حجمها، برغم عدم تحوّلها إلى قضية ساخنة في الإعلام العالمي.

ومن المؤكد أن للمناخ دوره في تكوّن المياه سواء الجارية في الأنهار أم المستخرجة من جوف الأرض. كما أن للإنسان كذلك دورا في شحّتها خصوصا إذا استنزفت بمعدلات تفوق سرعة تكوّنها. وما أكثر ما يتردد في الأخبار عن معاناة بعض الدول من شحّة مواردها المائية أو نضوبها. فمثلا برغم ما لديها من مصادر مائية طبيعية ذكرت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي أن «إيران تعاني من أسوأ أزمة مياه منذ عقود». وحذّر المسؤولون أن العاصمة طهران قد تصبح غير صالحة للسكن قريبا إذا استمر الجفاف الذي يجتاح البلاد. وإيران ليست وحدها التي تعاني من ذلك. فالعراق الذي غمرته المياه في العصور السابقة من نهري دجلة والفرات، هو الآخر يعاني أزمة مياه حادّة. وقام ببناء عدد من السدود، ولكنه لم يستطع ملئها لعدة عوامل رئيسية: انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات نتيجة بناء سدود ضخمة في دول المنبع (خاصة تركيا) ونقص الأمطار والتغيرات المناخية، وزيادة التلوث، وضعف البنية التحتية الداخلية. وتؤدي هذه الأزمة إلى نقص حاد في مياه الشرب والري، وجفاف الأهوار، وهجرة السكان، وتدهور الوضع الاقتصادي والغذائي.

والسؤال هنا: ما مدى خطر أزمة المياه في الشرق الأوسط؟ ثمة توقّعات بأن تلك الأزمة سوف تتفاقم وتؤدّي إلى صراعات شديدة قد تنجم عنها حروب دامية. أليس هذا ما كاد يحدث في القرن الأفريقي بسبب الصراع على مياه النيل؟ فمع تصاعد معدلات استنزاف مياه النيل ابتداء من مصبه في مرتفعات أثيوبيا، بدأت مستويات المياه فيه بالانخفاض بشكل تدريجي خصوصا عندما يصل إلى مصر وينتهي في البحر المتوسط. النزاع بين مصر وإثيوبيا حول نهر النيل يرتكز بشكل أساسي على بناء إثيوبيا لـ «سد النهضة». فمصر ترى أن السّدّ يمثل تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي، بينما تعتبره إثيوبيا ضروريًا للتنمية الاقتصادية وتحقيق الأمن القومي. يتركز الخلاف في جوهره على قواعد ملء السد وتشغيله وتأثير ذلك على حصص مياه دولتي المصب، مصر والسودان، بينما لم يتم التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم حتى الآن برغم سنوات من المفاوضات.

ومن المتوقع حدوث نزوح بشري من بعض المناطق بسبب أزمة المياه. فها هو الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يقول: «حتى لو رشّدنا (الاستهلاك) ولم تهطل أمطار، فلن يكون لدينا مياه على الإطلاق. وسيضطر (المواطنون) إلى إخلاء طهران». فقد أثار نقص المياه احتجاجات عنيفة بإقليم خوزستان في الجنوب في عام 2021. واندلعت احتجاجات متفرقة أيضا في عام 2018 حين اتهم المزارعون تحديدا الحكومة بسوء إدارة المياه. ولذلك أسبابه: فانخفاض معدل هطول الأمطار ليس هو السبب الوحيد في أزمة المياه التي تشهدها إيران بعد صيف شديد الحرارة. فقد كان هناك إفراط في بناء السدود والحفر غير القانوني للآبار والممارسات الزراعية غير الفعالة، كل ذلك أدى إلى استنزاف الاحتياطيات. بينما أرجعت الحكومة سبب الأزمة إلى عوامل مختلفة، مثل «سياسات الحكومات السابقة وتغير المناخ والاستهلاك المفرط».

وثمة أسباب عديدة لتضاؤل منسوب المياه على ظهر هذا الكوكب. ولا شك أن للتغيرات المناخية دورا في ذلك، ولكن هناك أسبابا أخرى من بينها ارتفاع الاستهلاك مع زيادة عدد سكان العالم، ونضوب بعض الموارد الأخرى خصوصا الأنهار الكبيرة. فمثلا انتشرت صور عديدة لنهر الفرات عند مروره بالأراضي العراقية، حتى أن الأولاد يمرحون فيه بدراجاتهم، وهو أمر مؤلم لمن اعتاد رؤية المياه تتدفق فيه. كما أن بناء السدود عند مصب الأنهار الكبرى يساهم في تقليص معدلات انسيابه في اتجاه المصب.

وكان هناك لغط كبير عندما قامت تركيا ببناء السدود بالقرب من مصب نهر الفرات. وينبع الصراع على المياه بين العراق وسوريا وتركيا أساسًا من سياسات تركيا المائية وبناء السدود على نهري دجلة والفرات، مما يقلل تدفق المياه إلى الدولتين اللتين تقعان في المصب.
يواجه العراق وسوريا نقصًا حادًا في المياه بسبب انخفاض تدفق النهرين

ويواجه العراق وسوريا نقصًا حادًا في المياه بسبب انخفاض تدفق النهرين، وهو ما يؤثر سلبًا على الزراعة والأمن الغذائي، وحتى مياه الشرب، ويثير توترات دبلوماسية واحتجاجات شعبية. وقد أدى ذلك إلى توقيع اتفاقيات بين الدول الثلاث، مثل بروتوكول 1987 بين تركيا وسوريا، لكنها لم تُنفذ دائمًا بشكل كامل، وما زالت القضية مستمرة.

ولا يخلو نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية من اللغط حول منسوب مياهه، خصوصا بعد أن امتدت أيدي الإنسان إلى غابات الأمازون الاستوائية. وينبع الصراع على مياه نهر الأمازون من مزيج من الجفاف الناجم عن تغير المناخ، والاستخدام المفرط للموارد، والتلوث، والصراعات على الأراضي. هذه التحديات تسببت في انخفاض مستويات المياه، وشلّت النقل النهري الضروري للسكان، وهدّدت إمدادات مياه الشرب وصيد الأسماك، وكشفت عن المخاطر التي تواجه النهر الذي يعتمد عليه ملايين الأشخاص.

وتجدر الإشارة إلى أن للأنهار حياة قد تنتهي. ويقال إن الجزيرة العربية كانت بها أنهار نضبت مياهها عبر الزمن. فالأدلّة العلمية تشير إلى أن الأنهار والبحيرات كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية في الماضي، خاصة خلال الفترات المطيرة التي تخللتها عصور الجفاف. وقد دلّت الأقمار الصناعية والمسوحات الجيولوجية على وجود شبكات واسعة من مجاري الأنهار القديمة التي جفت مع مرور الزمن. ومن جانبها تسعى «إسرائيل» للسيطرة على مصادر المياه المحدودة في المنطقة والتحكم في الأنهار الرئيسية، واستغلال المياه الجوفية في الضفة الغربية وهضبة الجولان، وحرمان الفلسطينيين من الوصول الكافي لها.

العوامل الطبيعية ليست هي المشكلة الوحيدة التي يتحدث العالم عنها في المؤتمرات التي تناقش قضية المياه، بل الاستخدام غير المقنّن لما هو موجود منها، وكيف أن ذلك يساهم في شحّتها من جهة ويؤثر على المناخ من جهة أخرى.

وفي العقود الأخيرة انتشرت محطات تحلية المياه في العديد من البلدان، خصوصا دول الخليج التي تعاني من شحّة الموارد المائية. وتشغيل هذه الوحدات يضيف إلى المشاكل البيئية وانبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون. ولكن ليس هناك بديل لها. ولا شك أن «استصلاح» الأراضي البحرية في بعض بلدان الخليج يساهم في تسرّب مياه البحر إلى أحواض المياه الجوفية، فتصبح مياهها مالحة. وهذا ما حدث لعدد من دول الخليج التي كانت تعتمد على الآبار لاستخراج مياه الشرب سابقا، ولكن هذه المياه لم تستمر، فسرعان ما تسربت المياه المالحة إليها فأصبحت غير صالحة للشرب. فقد استنزفت تلك المياه بمعدلات تفوق معدلات تكوّنها، خصوصا أن بعض دول الخليج تبني مشاريع زراعية تستهلك كميات كبيرة من المياه. فمثلا قامت المملكة العربية السعودية بزراعة الرز على نطاق واسع.

ما ساهم في شح المياه في السعودية بسبب احتياجها لكميات كبيرة من المياه. هذه الحقيقة دفعت السلطات إلى حظر زراعة الأرز وبعض المحاصيل الأخرى كثيفة الاستهلاك للمياه. وعلى الرغم من ذلك، هناك جهود بحثية حالية لإنتاج أرز يتحمل الملوحة والجفاف، بالإضافة إلى الاعتماد على تقنيات الري الحديثة مثل الري بالمياه المعالجة (مياه الصرف الصحي).

لقد كان من نتيجة استنزاف المياه الجوفية بسرعة تفوق كثيرا سرعة تكوّنها تضاؤل معدلات تلك المياه وبروز الحاجة لمصادر أخرى للمياه الصالحة للشرب.

وهنا تصاعد بناء محطات تنقية المياه في الجزيرة العربية وبقية بلدان الخليج. هذه البلدان الغنيّة بالنفط تفتقر لما هو أهم منه، وهو الماء الذي لا تستقيم الحياة بدونه. وتؤثر محطات تحلية المياه سلبًا على البيئة بشكل رئيسي من خلال تصريف المحلول الملحي عالي التركيز الناتج عن عملية التحلية في البيئات البحرية، مما يضرّ بالحياة البحرية ويخلّ بالنظم البيئية، بالإضافة إلى التأثيرات الناتجة عن سحب مياه البحر والتلوث الكيميائي واستهلاك الطاقة.

وعلى مدى العقود الأربعة الأخيرة انصب التفكير على البحث عن موارد مائية أخرى، يبدو بعضها أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. فقد حدثت محاولة لاستخدام المياه المتجمّدة في القطب الشمالي، وكانت هناك محاولة لجرّ قطع ثلجية كبرى عبر المحيطات للاستعمال كمصدر مائي في منطقة الخليج.

وكان واضحا أنها كانت فكرة تعبّر عن الشعور باليأس. كما حدثت محاولات لإنتاج «مطر صناعي» وذلك باستخدام تفاعلات كيماوية في الطبقات المنخفضة من الجو تؤدّي إلى تكوّن السحاب الذي هو مصدر المطر. وقد يبدو بعض هذه المحاولات منطقيا أو يستند إلى حقائق علمية واضحة، ولكن قدرة الإنسان على التدخل في الظواهر الطبيعية محدودة وليست مضمونة النجاح. فهناك عوامل في المعادلات الرياضية غير معروفة لدى الإنسان، وتجعل حلّ تلك المعادلات شبه مستحيل.

القدس العربي
التعليقات (0)