مرّة أخرى فرض المناخ نفسه على العلماء وأعاد السجال حول آثار التغيرات البيئية على الحياة الإنسانية بشكل عام. كما فتح باب النقاش حول مستقبل الآثار التاريخية في ظل التغير المناخي الذي بدأ ينعكس سلبا عليها. فالعاصفة العملاقة التي ضربت القارّة الأمريكية الأسبوع الماضي وبلغت سرعة رياحها أكثر من 150 ميلا في الساعة كانت إنذارا آخر للمجتمع البشري لكي يتعامل بإيجابية مع أسباب
التغيرات المناخية ودور الممارسات البشرية في ما يحدث.
وما أكثر الظواهر البيئية المدمّرة التي أصبحت تتحدّى أمريكا، تلك القوة العملاقة التي يعتقد زعماؤها أنهم بلغوا مستويات غير مسبوقة من العلم والتكنولوجيا، حتى قال أحد مسؤوليها: لا يستطيع أحد تحدّينا بعد اليوم. وأمام هذا الشعور بالقوة، سرعان ما تفرض البيئة (التي تتحرك وفق القانون الإلهي) نفسها في شكل عواصف وإعصارات وأمطار وبراكين لا يستطيع البشر منع حدوثها أو الوقوف بوجهها.
إنه أحد فصول السنن الإلهية التي أصابت الأقوام السابقين كما ذكرت الآية 40 من سورة العنكبوت: «فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» إنها سنن نافذة تتكرر عبر التاريخ البشري، فلعلّ هناك من يتعظ. وبرغم ازدياد الخسائر المادّيّة والبشرية، أصبح علماء الآثار يخشون كثيرا من انعكاس تلك الظواهر على الآثار التاريخية ذات القيمة العلمية والإنسانية الكبرى.
في الأسبوع الماضي دق المسؤولون العراقيون ناقوس الخطر لإنقاذ آثار مهد الحضارات. إذ يواجه تاريخ يمتد لآلاف السنين خطر الاندثار بسبب التآكل الناتج عن تغير المناخ الذي يهدد المدن القديمة في جنوب العراق. هذا البلد الغنيّ بتراثه الإنساني يخشى تآكل التراث بعوامل البيئة. إنه تراث تحدّى القرون وبقي صامدا أمام العواصف والأمطار ردحا من الزمن، ولكنه اليوم يخشى من تعاظم تلك الظواهر بشكل غير مسبوق.
ومع تواتر الظواهر المصاحبة للتغيرات المناخية، تتأثر البنى التحتية والأنظمة البيئية والاجتماعية للعديد من المناطق. ففي أرض الرافدين نشأت حضارات عديدة أبرزها الحضارة السومرية، والأكدية، والآشورية، والبابلية. وقد ازدهرت هذه الحضارات على ضفاف نهري دجلة والفرات، واشتهرت بإنجازات مهمة في مجالات مثل الكتابة (الكتابة المسمارية) والقانون، والهندسة، وعلم الفلك. وبقيت آثار تلك الحضارات ماثلة أمام عيون الأجيال المتعاقبة لكي يقرأوها ويتعظوا بمدلولاتها، ويدركوا مغزى الآية الكريمة: «فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين»
والحديث عن التغيرات المناخية جديد ـ قديم، وقد أصبح يستحوذ على اهتمام السياسيين وعلماء البيئة وأخصائيي الآثار.
وقد عقدت قمم عديدة لمناقشة البيئة، وهو تطور في الاستيعاب البشري لآثارها، ووقّعت الدول على اتفاقات وبروتوكولات عديدة تهدف للحد من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون الذي يعتبر من أهم المؤثرات البيئية. ووضعت أهداف لذلك على أمل احتواء ما يسمى «الانبعاث الحراري» ومنع صعود درجة حرارة هذا الكوكب. في البداية كان هناك حرص على إبقاء الحرارة ضمن المعدلات السائدة، ثم أصبح
العالم مجبرا على القبول بارتفاع لا يتجاوز درجة مئوية واحدة، واليوم وضع سقف أعلى بدرجة ونصف. فارتفاع الحرارة يؤدي لارتفاع منسوب البحار ويؤدي إلى الفيضانات والسيول، ويجعل البيئة في حالة اضطراب مستمر.
وتذكر دراسة منشورة في دورية «كلايمت» (Climate) في فبراير/شباط 2023، أنّ هناك 20 موقعًا في الجزء الأوروبي من روسيا تعاني ـ بالفعل ـ من التغيرات المناخية، وقيّم الباحثون تأثيرات التغير المناخي على تلك المناطق؛ استنادًا إلى بيانات الصقيع والتجوية الملحية بين عامي 1960 ـ 2020، وخلصوا إلى أنّ تأثيرات التغير المناخي على المناطق الأثرية ستستمر هكذا وستتجه نحو الأسوأ.
هذه التغيرات وما يصاحبها من احتمالات تتصل بتدمير التراث الإنساني في مجال الآثار أصبحت مصدر قلق ليس للحكومات فحسب، بل للمنظمات المهتمة بالتراث الإنساني، وعلى رأسها اليونيسكو. وقد أجرت هذه المنظمة دراسة مهمة أبرزت بوضوح مدى خطورة هذا الوضع، حيث تم الكشف عن قائمة الخمسين موقعًا من مواقع التراث العالمي الأكثر عرضة للخطر بسبب التغيرات المناخية.
كما فتحت نافذة على الأزمة التي تعصف بالمواقع الثقافية العريقة التي تمثل رموزًا تاريخية وإنسانية لا تقدر بثمن. وتم تقييم جميع مواقع التراث العالمي البالغ عددها 1223 موقعًا عالميًا، باستخدام نماذج متقدمة للتنبؤ بكيفية تأثير المخاطر المناخية المختلفة على هذه المواقع على مدار القرن المقبل. النتائج، التي تأتي في وقت حاسم، تسلط الضوء على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية من قبل القطاع الثقافي لمواجهة هذه التهديدات التي تزداد حدة مع مرور الوقت.
وليس سرًّا القول إن علماء الآثار يعيشون لحظة تاريخية مفصلية حيث يجدون أنفسهم عاجزين عن منع التأثيرات المناخية المدمّرة على مجال عملهم. ويتصدر قائمة المواقع الأكثر تعرضًا للخطر نظام الري سوباك في إندونيسيا، الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع، ويعتبر هذا النظام، الذي يشكل معجزة هندسية قديمة، من أبرز المواقع المهددة بالجفاف، والحرارة الشديدة، والفيضانات. فإذا لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة فإن استدامة هذا النظام الذي يعكس براعة الإنسان في التكيف مع البيئة قد تكون مهدّدة.
وهذا من شأنه أن يضغط على التراث الإنساني ويضعف التواصل بين الأجيال، ويوقف انتقال العلوم والتكنولوجيا التاريخية. فما تزال أهرامات الجيزة التي مضى على إنشائها أكثر من 4500 سنة تتحدّى العقل البشري في المجال الهندسي، وما يزال العلماء يحاولون فكّ طلاسمها والاستفادة من العلوم التي ساهمت في بنائها.
ومن بين المواقع الأخرى المعرضة للخطر كهف بون دارك في فرنسا، الذي يحتوي على بعض من أفضل الرسوم التصويرية المحفوظة في العالم، هذا الكهف، الذي يعتبر كنزًا ثقافيًا ثمينًا، يواجه الآن مخاطر جادة من الفيضانات والانهيارات الأرضية التي قد تؤدي إلى تدهور غير قابل للتعويض في محتوياته الفريدة. وهناك كهوف عديدة في العالم تضم تراثا فنونا وتراثا حضاريا مهدّدا بالتلاشي نتيجة التغيرات المناخية المتواصلة.
وكذلك تتعرض دار الأوبرا في سيدني، التي لم تكن محصنة من تأثيرات تغير المناخ، لمخاطر تتعلق بالبنية التحتية نتيجة لتغير الظروف المناخية. هذا الكيان الهندسي العجيب أصبح مرتبطا في أذهان العالم ببدء العام الميلادي الجديد، نظرا لموقعه الجغرافي في شرق الكرة الأرضية.
الأمر الإيجابي أن هناك تزايدا في الوعي حول الحاجة الملحة لإجراءات فعالة من قبل القطاع الثقافي لمواجهة هذه التهديدات. وتشير مديرة مؤسسة جولي بايسكل الخيرية أليسون تيكيل، إلى أن الثقافة تعتبر عنصرًا حاسمًا في التعامل مع الأزمات المناخية، لكنها غالبًا ما تُهمل في النقاشات حول تغير المناخ» مضيفة: «إن الدمار الذي يلحق بالأماكن والمجتمعات بسبب تغير المناخ يتطلب استجابة قوية ومشاركة أكبر من قطاع الثقافة».
والسؤال هنا: هل الجهود البشرية المبذولة لتقليص الظواهر البيئية المقلقة تكفي للحد من تفاقم الأزمة؟ لا شك أن هناك قلقا عميقا في دوائر القرار الدولية خصوصا المهتمّة بالبيئة، وهناك جهود ومبادرات عديدة لمناقشة ذلك. هذه الجهود تسعى لبث ثقافة المسؤولية خصوصا لدى الحكومات والدول لانتهاج سياسات تخفّف من تدمير البيئة. ولكن نجاح تلك المبادرات مرتبط بشكل وثيق بمدى استعداد العنصر البشري لإجراء تعديلات جوهرية في أنماط الحياة المعاصرة، وهذا أمر ليس من السهل تحقيقه. فما أكثر النقاش حول ضرورة الحدّ من استخدام مادة البلاستيك ذات الاثر المدمّر على البيئة. ولكن لا يبدو ان هناك تغيرا حقيقيا في الثقافة الشعبية التي اعتادت الاستخدام المفرط للأدوات والأواني البلاستيكية خصوصا ذات الاستخدام الواحد. إنه واقع لا يبعث على الأمل باحتواء الأزمة البيئية التي بدأت آثارها تدمّر الآثار ذات القيمة التاريخية العالية والبعد الإنساني الكبير.
القدس العربي