مقابلات

خبير اقتصادي لـ"عربي21": سوريا تخطّت الانهيار الشامل ودخلت مسار تعافٍ هش

أكد الخبير أن ملف إعادة الإعمار يعدّ الأكثر تعقيدا لأنه يحتاج إلى مئات مليارات الدولارات- جيتي
أكد الخبير أن ملف إعادة الإعمار يعدّ الأكثر تعقيدا لأنه يحتاج إلى مئات مليارات الدولارات- جيتي
شارك الخبر
قال الأكاديمي والخبير الاقتصادي السوري، الدكتور زياد أيوب عربش، إن "سوريا، بعد عام على التحرير، نجحت في تجاوز مرحلة الانهيار الشامل التي عاشها الاقتصاد لسنوات طويلة"، مؤكدا أن "البلاد دخلت بالفعل مسار تعاف حقيقي، لكنه لا يزال هشا ومتقلبا نوعا ما، ويحتاج إلى إصلاحات عميقة واستقرار سياسي ومالي حتى يتحول إلى تعاف مستدام وملموس على حياة السوريين".

وأضاف عربش، في تصريحات خاصة لـ"عربي21"، أن "الاقتصاد السوري بدأ ينتقل من مرحلة الانهيار المزمن إلى مرحلة استعادة التوازن رغم التحديات المتراكمة التي ترافق هذه المرحلة الانتقالية" مشيرا إلى أن "تقييم الاقتصاد السوري اليوم يكشف عن مشهد بالغ التعقيد؛ إذ يتداخل فيه إرث الدمار الواسع مع بداية تشكّل مؤشرات تعاف حقيقية وقوية".

وأوضح أن "حجم الدمار الذي ورثته الحكومة الجديدة من النظام السابق كان صادما، لأن البنية التحتية التي كانت متهالكة أصلا تعرّضت لدمار مضاعف، خاصة في المناطق الصناعية في حلب ودير الزور وبعض مناطق ريف دمشق، مما أدى إلى شلل قطاعات كاملة كانت تمثل عماد الاقتصاد الوطني مثل الصناعات التحويلية والإنتاج الغذائي والأنشطة المرتبطة بالتصدير".

وأشار عربش إلى أن "أكثر من ثلث المخزون السكني في البلاد تضرر أو دُمّر، وهو ما أدى إلى أزمة إسكان عميقة ما تزال آثارها تتوسع، إضافة إلى انهيار واسع في شبكات المياه التي تعرض نصفها تقريبا لأضرار خطيرة"، معتبرا أن "إصلاح هذه الشبكات ضرورة إنسانية واقتصادية، لأنها تُشكّل العمود الفقري لاستعادة دورة الإنتاج الزراعي والخدمي".

اظهار أخبار متعلقة



وأكد أن "قطاع الكهرباء كان من بين الأكثر تضررا؛ فقد انخفض إنتاج الطاقة إلى الخمس أو أقل من الحاجة الفعلية، ما أدى إلى تعطيل المصانع وخدمات النقل والورش الإنتاجية، وجعل التعافي أكثر بطئا"، منوها إلى أن "استعادة القدرة الإنتاجية للطاقة تتطلب استثمارات ضخمة وتكنولوجيا حديثة لا يمكن توفيرها دون رفع حقيقي للعقوبات والانفتاح على التمويل الخارجي".

ولفت الخبير الاقتصادي، إلى أن "هذه التركة الثقيلة أربكت خطط الحكومة خلال العام الأول للتحرير، لأنها تعمل ضمن بيئة اقتصادية شديدة التعقيد، تتداخل فيها آثار الحرب مع غياب الموارد المالية ومع استمرار العقوبات"، موضحا أن "الحكومة وجدت نفسها مُضطرة لتوجيه معظم مواردها نحو الاحتياجات الطارئة بدلا من الاستثمار في مشاريع التنمية طويلة المدى".

مؤشرات إيجابية وتحديات كبيرة
وقال إن "المؤشرات الإيجابية، رغم محدوديتها، تعكس بداية انكسار حالة الانكماش الطويل الذي مرّت به البلاد؛ حيث أظهرت الأشهر الأخيرة استقرارا نسبيا في سعر صرف الليرة وعودة بعض الأنشطة الإنتاجية للحياة"، لافتا إلى أن "هذا التحسن ما يزال هشّا ولا يمكن البناء عليه بشكل حقيقي وجاد ما لم تترافق معه إصلاحات مؤسسية واسعة تعيد ضبط آليات السوق ومنظومة الإدارة المالية".

وأكد أن "الاقتصاد السوري ما يزال يعاني من مستويات عالية من الفقر؛ إذ يعيش أغلب السكان تحت خط الفقر، وهو مؤشر خطير يعكس عمق الأزمة الاجتماعية الناتجة عن الحرب واستمرار ضعف القدرة الشرائية"، مؤكدا أن "أي تحسن اقتصادي لا يكتمل ما لم ينعكس مباشرة على واقع الدخل وفرص العمل والخدمات العامة، وهو ما يتطلب منظومة تدخلات مدروسة لا تقتصر على الخطط الحكومية التقليدية".

وبيّن عربش أن "أبرز التحديات التي واجهت الحكومة السورية الحالية كانت مالية ونقدية، نتيجة انهيار النظام المصرفي وفقدان الثقة بالمؤسسات المالية"، مشيرا إلى أن "التضخم بقي مرتفعا لأن الاقتصاد فقد أدواته الكلاسيكية في ضبط الأسعار، بينما تراجعت الإيرادات العامة نتيجة ضعف التحصيل الضريبي وتراجع النشاط التجاري والاستثماري بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية".

ونوّه إلى أن "جزءا من هذه التحديات ناتج عن السياسات الحالية التي تحاول التكيّف مع الظروف، مثل الاعتماد الزائد على التمويل الداخلي وطباعة العملة لتغطية النفقات الطارئة، وهو ما زاد الضغوط على الليرة، لكن الحكومة تحاول الحفاظ على حدّ من الاستقرار النقدي رغم أن الأدوات المتاحة لا تزال محدودة للأسف".

وأوضح أن "من الإنجازات المفصلية خلال العام الأول وقف التدهور الحاد في المؤشرات الاقتصادية، وبدء تسجيل معدلات نمو إيجابية ولو بشكل محدود، مع عودة جزء من الحركة التجارية والصناعية والخدمية إلى النشاط"، منوها إلى أن "عودة الثقة النسبية لسوق العمل مؤشر مهم، لأنه يعكس بدء دوران عجلة النشاط الاقتصادي ولو بأقل سرعتها الممكنة".

اظهار أخبار متعلقة



ورأى أن "البيئة الاقتصادية شهدت تخفيفا ملموسا للقيود البيروقراطية التي كانت تعرقل العمل؛ إذ أُلغيت بعض الإجراءات المعيقة وتم توسيع نطاق التراخيص التجارية والصناعية، ما أعطى هامشا أكبر للقطاع الخاص للتحرك"، مضيفا بأن "القطاع الخاص بدأ يستعيد دوره تدريجيا، لكنه يحتاج إلى إصلاحات أعمق تضمن له بيئة منافسة عادلة ورؤية واضحة".

مرحلة جديدة من الانفتاح المالي

وأشار إلى أن "عودة سوريا إلى نظام سويفت بعد 14 عاما من العزلة تُشكّل تحوّلا مفصليا لأنها تعيد ربط النظام المالي السوري بالشبكة العالمية، ما يعني عودة التحويلات الدولية وتسهيل عمليات الدفع والتجارة"، موضحا أن "سويفت يوفر قناة تواصل مالية آمنة وشفافة، وهي أساس لاستعادة ثقة الشركاء الدوليين والجهات المانحة والمستثمرين".

وأضاف أن "هذا التطور يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الانفتاح المالي، لكنه يحتاج إلى إصلاحات متوازية داخل المصارف السورية، تشمل تحديث الأنظمة المالية والرقابة الداخلية والالتزام بالمعايير الدولية، حتى لا تتحول العودة إلى سويفت إلى خطوة شكلية لا تحقق عائدا اقتصاديا حقيقيا".

وذكر عربش أن "استئناف التراسل عبر سويفت سيتيح للمستثمرين إمكانية تحويل رؤوس الأموال بصورة آمنة، وهو ما يشجع الاستثمار المباشر، إضافة إلى تسهيل تمويل المستوردات، مما يقلل من التكاليف ويرفع جودة المعروض السلعي، وهذه الخطوة ستنعكس أيضا على حياة المواطنين عبر تعزيز تدفق الأموال وتخفيف أزمات التحويل والخدمات المصرفية".

ونوّه إلى أن "عودة الاندماج المالي يمكن أن تدعم استقرار الليرة من خلال تحسين تدفق العملات الأجنبية وتقليل الاعتماد على الأسواق الموازية"، لكنه شدّد على أن "العملة تحتاج إلى منظومة إصلاحات متكاملة تشمل تحسين الصادرات، وتنشيط الاستثمار، وتخفيف العجز المالي، وإعادة بناء الثقة بالمصارف، لأن الاستقرار النقدي لا يتحقق عبر الإجراءات الظرفية".

وفي حزيران/ يونيو المنصرم، نفذت سوريا للمرة الأولى منذ 13 عاما، تحويلا مصرفيا دوليا مباشرا من بنك محلي إلى بنك إيطالي عبر نظام "سويفت"، في إطار قرارات أوروبية وأمريكية لتخفيف ورفع العقوبات عنها.

وشكّل هذا الإجراء استثناء سياسيا وقانونيا جاء بعد ترتيبات ورفع قيود، ما مهد الطريق أمام البنوك الأجنبية لقبول المعاملة، من خلال إتاحة العودة الجزئية إلى القنوات المالية الرسمية.

ويعرف النظام المالي العالمي بأنه شبكة من المؤسسات المالية الدولية والأسواق والبنوك المركزية التي تنظم حركة الأموال ورؤوس الأموال عبر الحدود، وتشمل مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى جانب أنظمة الدفع الدولية مثل "سويفت".

تعافي القطاع الخاص
وأضاف عربش أن "القطاع الخاص بدأ يشهد تعافيا تدريجيا بعد التحرير، مع ظهور مبادرات جديدة في الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي، إلا أن هذا التعافي لن يكتمل دون رقمنة البيئة الاستثمارية، وتطوير التشريعات لتسهيل تأسيس الشركات، وتبسيط الإجراءات الجمركية والضريبية، وتحسين القضاء التجاري بما يجذب المستثمرين".

وأشار إلى أن "ملف إعادة الإعمار يعدّ الأكثر تعقيدا لأنه يحتاج إلى مئات مليارات الدولارات، بينما تعتمد الحكومة حاليا على موارد داخلية محدودة ودعم من بعض الدول الصديقة"، موضحا أن "الصين برزت كشريك موثوق بفضل قدرتها التمويلية الهائلة وخبرتها في بناء البنية التحتية الكبرى، خاصة في مجالات الطاقة والطرق والنقل".

وذكر أن "دخول الصين إلى إعادة الإعمار يوفر فرصة اقتصادية غير مسبوقة، لأن الشركات الصينية تمتلك القدرة على تنفيذ المشاريع الضخمة بسرعة وتكلفة أقل من المعدلات العالمية، إضافة إلى نقل التكنولوجيا والخبرات، وهو ما قد يساهم في خلق بيئة إنتاجية جديدة تدعم النمو وتعيد تشكيل خريطة الاقتصاد السوري".

ونوّه إلى أن "الحكومة بحاجة إلى تحقيق توازن دقيق بين الانفتاح على الصين والانفتاح على الغرب، لأن الاعتماد على طرف واحد يعرض البلاد لمخاطر جيوسياسية"، مؤكدا أن "تخفيف العقوبات الغربية سيكون حاسما في إعادة بناء الاقتصاد، لأن المؤسسات الدولية لن تنخرط بشكل فعّال دون وجود بيئة قانونية ومالية مفتوحة".

اظهار أخبار متعلقة



وأكد أن "المداولات داخل الكونغرس حول رفع العقوبات ما تزال غير مستقرة، لكنها تشهد ضغوطا من أطراف ترى أن الانفتاح الاقتصادي في سوريا يتطلب تخفيف القيود"، لافتا إلى أن "الديناميات الإقليمية، خاصة دور السعودية وتركيا، قد تساهم في دفع هذا المسار خلال الأشهر المقبلة، متوقعا إمكانية الوصول إلى رفع نهائي للعقوبات خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري أو في كانون الثاني/ يناير المقبل".

مشروع طريق الشرق الأوسط
وقال إن "مشروع طريق الشرق الأوسط يُمثل فرصة لوجستية هائلة لسوريا، لأنه يفتح ممرا تجاريا بريا يربط الخليج بتركيا وأوروبا عبر الأراضي السورية، مما يخفض زمن وتكاليف النقل مقارنة بالمسارات البحرية الطويلة، وهذا المشروع سيشكل نقلة نوعية في تحسين حركة البضائع والتجارة عبر سوريا، شرط وضع إستراتيجية طموحة لتلبية مصالحنا الاستراتيجية"، معتبرا أن "الموقع الجغرافي لسوريا يجعلها نقطة ارتكاز طبيعية وهامة لأي مشروع تجاري إقليمي".

وبيّن عربش أن "إعادة تفعيل الطريق البري عبر سوريا والأردن إلى الخليج يمكن أن يرفع حجم التجارة الإقليمية بصورة كبيرة، لأنه يعزز انسيابية مرور البضائع ويوفر بديلا عمليا وأكثر كفاءة من الشحن البحري"، منوها إلى أن "تطوير البنية التحتية المرتبطة بهذا الطريق سيعيد لسوريا دورها التاريخي كملتقى للتجارة الإقليمية".

وزاد: "إن مدى تأثير هذا الممر البري على تخفيض تكاليف النقل والزمن مقارنة بالمسارات البحرية والجوية الحالية سيكون هاما جدا؛ فحجم التجارة المتوقع سينمو بمعدلات غير مسبوقة، حيث يتيح الطريق البري اختصارا زمنيا وتكاليف للنقل مقارنة بالمسارات البحرية والجوية مع تحسين متواصل يسهل تدفق البضائع ويعزز التجارة بين الدول المشاركة".

وفي 28 حزيران/ يونيو الماضي، وقّع وزيري النقل في تركيا وسوريا اتفاقية النقل البري في مدينة إسطنبول، ومن المقرر أن يدخل الخدمة بكامل طاقته خلال العام المقبل بعد معالجة أوجه القصور مثل التأشيرات وإعادة تأهيل الطرق البرية داخل سوريا، بحسب تصريحات سابقة لوزير التجارة التركي عمر بولاط.

ويعتبر "الخط الحديدي الحجازي" سكة حديد تاريخية بناها العثمانيون أوائل القرن العشرين، وكان الهدف منها ربط دمشق بالمدينة المنورة، مرورا بعدد من المدن والبلدات في سوريا والأردن والسعودية، لتسهيل سفر الحجاج إلى الحجاز.

وتبلورت فكرة هذا الخط عام 1900، وبدأت أعمال تشييده في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه بأمر من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، قبل أن تنتهي الأعمال به عام 1908.

وإلى غاية اليوم، لا يزال الخط عاملا في الأراضي الأردنية، وقد تعطّلت رحلاته سابقا إلى سوريا نتيجة الأحداث التي مرت بها إبان فترة الثورة ضد النظام المخلوع (2011-2024).

وختم عربش بالتأكيد على أن "مستقبل الاقتصاد السوري خلال السنوات العشر المقبلة يعتمد على الاستقرار السياسي، ونجاح الإصلاحات، وإعادة الاندماج المالي الدولي، وتمكين القطاع الخاص، وجذب الاستثمارات"، مشدّدا على أن "التحديات هائلة، لكنها تترافق مع فرص استثنائية وواعدة، وأن سوريا، إذا أحسنت إدارة المرحلة الحالية، قادرة على إعادة بناء اقتصاد قوي وأكثر تماسكا".

ومنذ الإطاحة بنظام بشار الأسد أواخر عام 2024، تجري الإدارة السورية الجديدة إصلاحات اقتصادية وسياسية، وتبذل جهودا مكثفة لإطلاق وتعزيز التعاون مع دول عديدة.

وفي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بسطت فصائل سورية سيطرتها على البلاد، منهية 61 عاما من حكم حزب البعث، بينها 53 عاما من حكم أسرة الأسد.
التعليقات (0)