ملفات وتقارير

لماذا طغى الاستقطاب السياسي على الحدث الثقافي في افتتاح متحف مصر؟

انتقد معارضون حالة "البذخ" في افتتاح المتحف- فيسبوك
انتقد معارضون حالة "البذخ" في افتتاح المتحف- فيسبوك
شهدت العاصمة المصرية القاهرة، مساء السبت، حفل افتتاح المتحف المصري الكبير، أحد أضخم المشاريع الثقافية في العالم، والمخصص بالكامل للحضارة المصرية القديمة، بحضور 79 وفدا رسميا من مختلف دول العالم، و450 مراسلا ومندوبا صحفيا من 180 مؤسسة صحفية أجنبية وعربية، تحت عنوان "هدية مصر للعالم".

فكرة إنشاء المتحف بدأت عام 1992، بتخصيص حوالي 500 ألف متر مربع (ما يعادل 117 فدانا) للمشروع عند هضبة الجيزة بالقرب من الأهرامات، ثم وضع حجر الأساس عام 2002، ليتوقف العمل حتى العام 2016, ثم يعود مجددا بتمويل الحكومة اليابانية عبر "وكالة جايكا"، التي قدمت قرضين ميسرين، الأول بقيمة 280 مليون دولار عام 2006، والثاني بقيمة 460 مليون دولار عام 2016.

تشير التقديرات الرسمية إلى أن تكلفة الإنشاء الإجمالية تتراوح بين 5. 1و 2 مليار دولار،  ليضم المتحف حوالي 100 ألف قطعة أثرية 50 ألف منها تعرض بشكل دائم في قاعات عرض تبلغ حوالي 18 ألف متر مربع، فيما تعد كنوز ومقتنيات الملك "توت عنخ آمون" -300.5 قطعة- أهم المعروضات.

وفي رسالة إلى قوة مصر القديمة يستقبل الزوار في البهو العظيم عند مدخل المتحف تمثال الملك رمسيس الثاني الذي يزن حوالي 83 طنا، كونه من أعظم من حكم مصر، ما يتبعه عرض 70 قطعة أثرية ضخمة مُنظمة زمنيا لتكون بمثابة بانوراما تاريخية للحضارة المصرية القديمة، فوق الدرج العظيم.

متوقع وفق تصريحات مجلس الوزراء، ووزارة السياحة والآثار، والمسؤولين عن المتحف، أن يستقبل نحو 15 ألف زائر يوميا، بأكثر من 5 ملايين سنويا، ما يساهم في قدوم  30مليون سائح إلى مصر بحلول عام 2032، لكنه الأرقام والتصريحات لم تشر لرقم رسمي متوقع أو محقق للدخل السنوي بعد الافتتاح.

اظهار أخبار متعلقة



مع فخامة حفل الافتتاح وعدد الوفود المشاركة، وعدد الفرق الموسيقية وفرق الاستعراضات بمشاركة فنانين مصريين وعازفين من أوركسترا عالمية باستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا، تساءل البعض عن تكلفة الحفل، التي لم يتم الإعلان عن رقم رسمي محدد لها بشكل منفصل عن تكلفة المشروع الكلية.

إشادة الموالاة

المتحف المصري الكبير (نصف مليون متر مربع)، والذي يفوق مساحة "لوفر" باريس (7.72 ألف متر مربع)، والمتحف البريطاني بلندن (92 ألف متر مربع)، تحول حدث افتتاحه العالمي في وطنه إلى حالة من حالات الاستقطاب السياسي، بين المصريين من الموالاة، والمعارضة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي.



البعض أشار إلى أهمية الحدث ودلالاته وإشارته إلى عظمة تاريخ مصر، في ظل ظروف إقليمية صعبة، بين أزمتي حرب "غزة" و"السودان"، وتعقد ملف "مياه النيل" مع افتتاح إثيوبيا "سد النهضة" أيلول/ سبتمبر الماضي، ومعاناة الاقتصاد المصري البنيوية والهيكلية المزمنة، وديون فاقت معدل 168 مليار دولار.

وذهبوا للحديث عن المكاسب المالية والمادية لمصر، في ظل توقعات بمشاهدة 2 مليار شخص على مستوى العالم حفل الافتتاح، وما يتبعه ذلك من قيم مضافة بزيادة نسب السياحة والدخل بالعملات الصعبة بقطاع حقق 17 مليار دولار إيرادات العام الماضي، ومتوقع أن تتجاوز 20 مليار دولار العام القادم.



وبينما أشاد البعض بالمتحف في إطار الحفاظ على آثار مصر من النهب وعرضها للمصريين وشعوب العالم، والكشف عن أندر الآثار وبينها "فأس" أثرية يرجع عمرها 700 ألف عام؛ طالبوا في المقابل، بوقف هدم السلطات مئات المباني الأثرية والتراثية في جبانات القاهرة الإسلامية.

انتقادات المعارضة
على الجانب الآخر، انتقد معارضون حالة "البذخ" في افتتاح المتحف، رابطين بينه وبين حفل افتتاح "الخديوي إسماعيل" لقناة السويس في ذات الشهر من عام 1869, وتسببه في ديون مصرية بلغت حينها 90 مليون جنيه استرليني، تبعها احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، ولمدة 74 عاما.

كذلك، تناقل البعض صورا من حفل شاه إيران رضا بهلوي، الأسطوري عام 1971، بتكلفة قُدرت وقتها بحوالي 100 مليون دولار، والذي نتج عنه "الثورة الإسلامية" والإطاحة بحكمه عام 1979.

كما عرضوا صورا ومقاطع من حفل افتتاح رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لتفريعة قناة السويس عام 2015، وحفل افتتاح طريق الكباش في الأقصر، ومشهد موكب نقل 22 مومياء ملكية من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط عام 2021.



قلل معارضون من قيمة وحجم العائد المنتظر للمصريين، مشيرين إلى "تكلفة المتحف العالية، وحجم ما خلفه ذلك من ديون لليابان وغيرها من الممولين والشركات المنفذة"، ضاربين المثل بـ"تصريحات وزير الآثار الأسبق زاهي حواس حول دخل المتحف".

في عام 2021، قال حواس: "الأفضل عمل متحف صغير لكنوز (توت عنخ آمون)، لأن المتحف الكبير لن يعطي ثمن تكلفته ولو بعد 500 سنة".



وألمح المعارضون إلى أن "حفل الافتتاح الأسطوري يتزامن مع شكاوى المصريين من الفقر، وسبقه بيوم واحد واقعة غرق 7 مصريين من محافظة الدقهلية في مركب هجرة غير شرعية أمام السواحل الليبية".

ولفتوا إلى أن "حفل الافتتاح المبهر سبقه قبل أسبوعين، قرار حكومي برفع أسعار الوقود بجميع أنواعه، ما فاقم حالة الغضب الشعبي وزاد شكاوى المصريين من الفقر والغلاء".

وأشار مراقبون إلى "حجم التشابه الكبير لوضع مصر الحالي الداخلي مع فترة ما قبل ثورة يناير 2011"، ملمحين إلى "تصاعد حراك (جيل زد)، بدول نيبال، ومدغشقر، وكينيا، وبيرو، وبراغواي، والمغرب، ومؤخرا تنزانيا".


سبق حفل الافتتاح وقفات احتجاجية وإضرابات عمالية لضعف الرواتب، منها إضراب 1500 عامل بشركة "القناة لرباط وأنوار السفن" التابعة لهيئة قناة السويس الحكومية، الأربعاء الماضي، بحسب "لجنة العدالة"، ومقرها جنيف.

تصاعد الجدل كذلك بين الموالاة والمعارضة، ففي الوقت الذي يحتسب أنصار النظام افتتاح المتحف إنجازا يضاف إلى سجل إنجازات رئيس النظام، يرى المعارضون أن السيسي، يستغل تلك المواقف لتثبيت أركان حكمه.

وأعربوا عن مخاوفهم أن تكون دعاية المتحف الكبير، وقبلها "مؤتمر السلام" في شرم الشيخ، مقدمة لأن يسعى السيسي، للحصول على مدد رئاسية جديدة، على طريقة التعديلات الدستورية عام 2019، والتي منحته مدة رئاسية جديدة حتى 2030.

اظهار أخبار متعلقة



وبينما حمل حفل الافتتاح إشارة "قوانين ماعت" الـ42 كرمز للعدالة، معلنا أن مصر القديمة قدمت أقدم قانون عدالة على وجه الأرض، لفت الأكاديمي المصري الدكتور عصام عبدالشافي، إلى انتهاكات رئيس النظام المصري لملف حقوق الإنسان منذ العام 2013، واعتقال أكثر من 60 ألف مصري معارض، وخرق جميع قوانين "ماعت".

حضور ضعيف وموسيقى غريبة

وفي السياق، انتقد البعض الحضور الضعيف من قادة وملوك ورؤساء دول العالم حفل الافتتاح والحضور الشرفي لمعظم الدول، وغياب أغلب حكام وملوك الدول العربية، كما انتقدوا فقرات الحفل والموسيقى، مؤكدين أنها غير مصرية ولا تعبر عن الحضارة التي يعرضها المتحف.



ووجه أستاذ العلوم السياسية مأمون فندي، عبر منصة "إكس"، عدة انتقادات لمخرج الحفل، ولحضور رجال أعمال جرى اتهامهم بالفساد وحبسوا في جرائم مخلة بالشرف، ملمحا إلى أحمد عز، وهشام طلعت مصطفى.

تشغيل جايكا
زعم البعض وجود عقد حق انتفاع بين الحكومة المصرية وبين وكالة اليابان للتعاون الدولي، "جايكا"، من المتحف المصري، مدة 10 سنوات، لم يشير الموقع الرسمي للمنظمة الحكومية اليابانية إلى شيء في هذا الشأن، لكنه يؤكد على دور المنظمة في التشغيل الجزئي للمتحف.

الصفحة الرسمية تقول: "تدعم جايكا المتحف المصري الكبير في تطوير نظام ابتكار شامل وتشغيل المتحف جزئيا من خلال تعزيز قدراته الإدارية"، مشيرة إلى إتاحتها قرضين؛ عامي 2008 و2016، بإجمالي 2.84 مليار ين ياباني (ما يوازي 800 مليون دولار).

عظيم رغم التحفظات
وفي رؤيته لأسباب تحول احتفالية المتحف المصري الكبير إلى ساحة من الجدل والخلاف السياسي بين المصريين، قال الإعلامي والمحلل السياسي المصري محمد السطوحي: "لا بأس من الجدل وطرح الآراء المختلفة مادام بأسلوب متحضر ودون تهويل أو تخوين".

وأضاف لـ"عربي21": "بالنسبة لي فبالتأكيد إنشاء هذا المتحف شيء عظيم بصرف النظر عن التحفظات التي يرددها البعض بشأن التكلفة، وتجب الإشادة بكل من شارك فيه".

وتابع: "ليس فقط لما يمثله من دعاية دولية ولكن -وهذا هو الأهم- تأكيد الشعور لدى المصريين بقيمة تاريخهم وضرورة الحفاظ على آثارهم التي تعرضت السنوات الأخيرة للكثير من عمليات التخريب والتهريب".

موضوع تاريخ وليس نظاما

وفي تقديره، قال السياسي والبرلماني المصري السابق الدكتور ثروت نافع: "لا أرى جدلا بين المصريين، ولكن أرى وحدة كبيرة جدا وفخرا واعتزازا بين الأغلبية، ولا أرى إلا تيارا واحد ضد الحضارة المصرية القديمة، وأعتقد أنه خلاف أيديولوجي وليس سياسي".

وفي حديثه لـ"عربي21"، حول "المناكفة السياسية الجارية مع النظام"، أضاف: "ناشدت الجميع وخاصة المعارضين في الخارج بالاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة، فالموضوع ليس موضوع نظام ولكن موضع تاريخ لابد أن نعتز به".

ويرى نافع، أن "المقارنة غير صائبة بين فكرة افتتاح المتحف الذي يحافظ على الحضارة المصرية القديمة والذي بدأت فكرته منذ عقدين، وجاء بمساعدة اليابان؛ وبين ما فعله شاه إيران رضا بهلوي، في حفله الشهير وما تبعه من تكاليف، وكذلك افتتاح الخديوي إسماعيل لقناة السويس الذي لا أراه معيبا؛ فمازال الأحفاد يأكلون من دخل القناة".

اظهار أخبار متعلقة



ويرى أنها "مناسبة ليحتفل المصريون، وخاصة بعدما نراه الآن من بعض دول إقليمية تهين المصريين بسبب حالتهم الاقتصادية، وتهين المصري كشخص وكتاريخ،  واشمئز وأغضب عندما يساعد بعض المصريين هؤلاء بكلمات ليس لها تدقيق علمي وتاريخي لأن الاعتقاد اعتقاد شخصي ليس له (أركيولوجية) تثبته في علم الآثار".

واجهة تلميع
الكاتب محمد حمدي، وفي مقال له في "عربي21"، قال: "بينما يقف الملايين من المصريين على حافة الفقر، تُشعل السلطة أضواء الاحتفال على واجهة جديدة من واجهات التلميع، بافتتاح المتحف المصري الكبير، المشروع الذي تحوّل من حلم ثقافي إلى نصبٍ تذكاري للإسراف والعبث بالأولويات".

وأضاف: "المتحف الذي تجاوزت تكلفته ملياري دولار، لم يكن مجرد مشروع أثري أو حضاري، بل مشهد سياسي متكامل، صُمم لتلميع صورة نظام فقد شرعيته في الداخل، ويبحث عنها الآن في أعين الوفود الأجنبية وعدسات القنوات العالمية".

وتابع: "في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، كان يمكن لهذا المبلغ المهول أن يغيّر وجه الاقتصاد الصناعي والزراعي في مصر".
 
وأشار إلى أنه "بأبسط الحسابات، يمكن لهذا الرقم أن يؤسس 500 مصنع صغير، يعمل بها نحو 100 ألف عامل بشكل مباشر، ويستفيد منها 250 ألف شخص بشكل غير مباشر. أي أن قرابة 350 ألف أسرة مصرية كانت ستجد قوت يومها وأمانها الاجتماعي لو أن الأولوية كانت للإنسان وليس للحجر".
التعليقات (0)

خبر عاجل