نقف اليوم مع قائد فذّ بقي على صهوة جواده
رغم أنف سجّانه، لم يفتّ في عضده أن يصبح معتقلا في
سجون الاحتلال بعد مسيرة حافلة
بالعطاء والعمليات الفدائية التي أثخنت جسد المحتل، ولم ينحن أمام عاصفة السجون السوداء
التي ألقت عليه كل قضّها وحديدها. بقي هناك في أعماق رأسه عقل متّقد يشع تخصيبا عاليا
مع الفكرة، وما يعتمل في قلبه من عنفوان روحي يصنع إرادة وهمّة عالية تناطح كل حديد
السجن.
كان قائدا قبل السجن، وبقي قائدا في السجن.
قادته الفكرة العظيمة إلى عليائها، فزادها صقلا وعظّم من عنفوانها. فهم وحفظ القرآن
في زنزانته، فزاد ذلك اشتعالا ورغبة في تحطيم كل مستحيلات الحياة. لم يعد يرى أن هناك
ما يستحق أن يعتبر ذا شأن أمام شكيمة روحه، ومضى في طريقه ليذلل عقبات السجن فيجعل
منه ليس فرصة ذهبية فحسب، وإنما عدة فرص. فكان السجن لمحمود أكاديمية عسكرية تنتج الثورة
وأفكار الثورة وتصنع رجال الثورة، وكان السجن متابعة للبناء الثوري ليستوي على سوقه
في أصعب الظروف وأحلك الأماكن.
طال عزله في زنازين انفرادية عدة مرات،
وكانت له فرصة لسبر غور الذات المؤمنة وإعادة ترتيب أوضاعها وشحنها من الداخل بكل قدرات
الوقود الإيماني المخصب. ازداد صلابة في الفكر والروح والأدب، وحلّق عاليا في ميادين
العلم والمعرفة، فتعلّم وعلّم وألّف العديد من الكتب التي ينبغي أن نقف عند كل واحد
منها طويلا لنرى عمق ما وصل إليه، منها: الرواحل، وفقه الجهاد، وتأثير الشيخ الغزالي
على حركة الجهاد الإسلامي في
فلسطين.
وكانت الفرصة التي بلغت عنان السماء وترجمت
ذروة سنام الثورة إلى معركة خالدة غير متكافئة، بل شاسعة الهوة في الإمكانات، من عمق
ترسانة أمنية استخدم الأعداء في تشييدها كل تقنيات العالم المتطور وأحاطوها بكل ما
وصل إليه العقل البشري من تحويطات إلكترونية وكهربائية وبشرية؛ الجدار تلو الجدار،
والتدبير الأمني المكين تلو التدبير. كانت فخرا ورمز التفوق الأمني الرهيب.
وقف أمامها شخص معتقل مجرد من كل الأسباب،
لا حول له ولا قوة إلا إيمان بالله راسخ وثقة بنصره وتوفيقه، مع عقل ثاقب يشتعل بقدرات
بشرية عالية، يلتحم بقلب تقوده إرادة لا يرد أمامها ولو خاطر سريع يشي بالانكسار.
والتقى الجمعان: جمع مزود ومحاط بكل الإمكانات
والقدرات، وجمع متمثل بشخص واحد لا يملك إلا نفسه وثقة عالية بربه. وهنا يقف السؤال:
كيف تدار هذه المعركة؟ وكيف تسير خطواتها؟
مصلحة سجون بفِرق وأجهزة أمنية توظَف فيها
كفاءات مهنية عالية وخبرات لا حدود لها، مع توفير كل ما يلزم من إمكانات بشرية ومادية.
أما الفريق الثاني، فيوظف عقله وروحه، وتتوافر له من الأدوات ملعقة وبعض المعدات اليدوية،
التي لو قيل عنها لأحد قبل أن تُثبت ذاتها في المعركة وتحقق ما حققت من نجاح وانتصار،
لمات من الضحك ولسخر منها أيّما سخرية.
ومن الموارد البشرية وظّف محمود خمسة كانوا
في بيئة السجن الأمنية التي تبدو تحت مجاهر لا تترك شاردة ولا واردة، حيث التنصت السمعي
والبصري الإلكتروني في كل زاوية، في الغرف والزنازين والفورة، بالإضافة إلى التجسس
البشري.
لم تكن عملية التحرر عنوة من سجن يعتبر
خزنة الأمن الصهيوني؛ مجرد عملية هروب من سجن تضاف إلى محاولات الهرب العالمية التي
صدمت العقل البشري بعبقريتها وقدرتها على تحقيق النجاح، بل كانت عملية تحمل من الرسائل
ما تحمل. لقد كسر أسطورة الأمن الصهيوني المحاطة برعاية العقل الغربي بكل إمكاناته،
وأثبت للعالمين أن هذه المنظومة العاتية هزيمتها ممكنة، وأثبت للفلسطيني بالذات، الذي
وضعوه في حالة من الاستجداء السياسي الفاشل دون تحقيق أي جدوى مع هذا المحتل الفاشي
المتغطرس بقوته وقوة الإمبريالية التي تقف خلفه ومعه، أن هزيمة هذا المارد الشرير ممكنة
وبأقل الإمكانات المتاحة. فإذا كان هذا المعتقل المقيّد قد تمكن من هزيمته، فما بال
من هم خارج هذه السجون؟!
لقد نجح محمود في تحريك الطوفان في نفوس
الفلسطينيين الأحرار، ولعل هذا من عوامل تحريك مكامن طوفان الأقصى الذي انطلق بعد هذه
المعركة الخالدة بوقت قصير.
لقد وصلت رسائلك يا محمود، وأدرك كل من
يقيم وزنا للحرية ولو مثقال ذرة أن الحرية ليست مطلبا إنسانيا فطريا فحسب، بل هي ضرورة
حياة كضرورة الأكسجين لكل حي. يا عاشق الحرية، لقد أوصلت للناس معنى الحرية وأعدت توصيفها
ومنحت الإحساس بجلالة قدرها.
ولعلنا نستذكر مقولة علي شريعتي: إن الإحساس
بالفكرة لا يقل أهمية عن الفكرة نفسها. لقد نجح محمود أيما نجاح في إيصال هذا الإحساس
العظيم للناس، الإحساس بقيمة الحرية. فمن يحفر نفقا بملعقة ويتحدى أسطورة الأمن الصهيوني
وينجح في اختراقها من أجل الحرية، ويجعل الناس يتابعون المعركة لعدة أيام وقلوبهم معلّقة
مع الروح التي شقت حريتها من الصخر، فإن في ذلك ما فيه من توليد الإحساس بالحرية والتحليق
عاليا في سماء هذه القيمة العظيمة في الحياة، القيمة الأعظم والأجمل والأروع والأهم
والأخطر.
لقد علّم عمر رضي الله عنه البشرية معنى
الحرية بما عمل مع القبطي، وفي قوله الخالد: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحرارا؟ ولقد علم تلميذ عمر،
محمود العارضة، البشرية معنى الحرية من خلال ما صنع
في معركة خلدت في سفر التاريخ.
حررت المقاومة الفلسطينية فيمن حررت من
أسرى الحرية؛ هذا القائد الفذّ للحرية الذي دق بابها بيد وهبت قلوب الناس أجمعين إحساسا
عميقا بالحرية، وعزفت لحنا لا يغادرها أبدا. وهكذا تتعانق قلوب العاشقين في سماء الحرية
العظيمة.
تحط رحال هذه التغريبة للمؤبد الفلسطيني
في مصر الكنانة لتواصل شق الطريق، ولكن هذه المرة ليس بملعقة، وإنما بعقول ثاقبة وإرادات
لا تلين.