مريم
فتاة غزاوية في سن العاشرة، تتمتع بحيوية عالية، تتسامى على الجراح مهما بلغت،
تعمل جهدها على التخفيف من وطأة الحرب على من دونها سنّا، تحاول أن تتقمّص شخصية
الكبار خاصة بعد استشهاد أمّها بداية الحرب، لم يكن أمامها من خيار إلا أن تتبوأ
دور أمّها، صنعت الحرب منها أمّا رغم نعومة أظفارها، مولعة في سماع الأخبار ومولعة
أكثر في التحليل والسخرية وتناقلها بطيّبها وخبيثها، بسعيدها وتعيسها وغثّها
وسمينها.
ذات
يوم قريب من أيام التجويع والقصف والقهر، غفت وجه الصبح دون أن تتمكّن من نومة
طويلة، سيمفونية هذه الليلة كانت قاسية، إيقاعات القصف وزمجرة الطائرات الحاملة
لقنابل الألفي رطل لم تستطع آخر الليل من أن تمنع مريم من النوم، هيمنة سلطان
النوم أخيرا غلبت بعد صراع طيلة الليل زمجرة سلطان المعركة. بعد ساعة نوم أو
ساعتين لسع بطنها جوعها فتذكّرت
جوع صغارها، ثلاث بنات وولد تتوزّع أعمارهم دونها،
فنهضت قبل نهوض الشمس من ليلها، حملت طنجرتها وغدت مبكّرة إلى حيث تكيّة الطعام قبل
أن يعلوه الزحام.
تناهت
لسمعها عبر جوّالها الصغير أخبار زيارة الرئيس الأمريكي
ترامب للمملكة العربية
السعوديّة وتلك الحفاوة البالغة التي حظي بها وما ينتظر هذه الزيارة من نهب فظيع
للخزينة السعوديّة، وكانت تنظر من حولها لركام الأبنية التي كانت يوما شاهقة
فأصبحت قاعا صفصفا، الخراب والدمار وهلاك الحجر والشجر وكل ما فيها من حياة وخبر.
وراح
خيالها لمائدة الضيافة حسب الكرم السعودي الأصيل، تلقي نظرة هناك حيث ما أخرجت به
المائدة أثقالها يكفي أضعاف من هم حولها، كلّ ما لذّ وطاب وكلّ عجائب الشراب،
اللحوم بأشكالها وأنواعها، الخضروات والسلطات وما تعرفه مريم وما لا تعرفه إلا في
خيالها، ثم يرتدّ لها البصر حيث انتظار ما تجود به هذه القدر الضخمة المليئة
بالبقوليات الجافّة بعد أن يتمّ نضجها على النار الموقدة، لا تعرف لها قرارا ولا
لونا ولا طعما ولا رائحة، فقط هو شيء يؤكل ويسدّ بعض فراغ المعدة الفارغة، هذا إن
لم يخرجك التدافع عن دورك فتعود أدراجك خالي الوفاض والطنجرة.
ستبقى
مريم متسمّرة في مكانها كشجرة ثابتة وفرعها يرقب القدور الغالية، بينما تنخر رائحة
المائدة السعودية البهيّة مسامات أمعائها الخاوية، خطرت ببالها فكرة، تصوير مقطع
فيديو، اليوم نحن في عالم سريع لعلّ فدائيا من مشرفي تلك الشاشات المحيطة بمائدة
السلطان يلتقط ما أصوره مباشر الآن فيرفعه على تلك الشاشات فتصل رسالتي، والله
فكرة جهنميّة من عندك تبدأ الحكاية يا مريم. فتحت كاميرتها وجموع الأطفال مع
طناجرهم خلفها وشرعت في التسجيل بعفويّة متلوّعة:
- سيّد ترامب، لقد أكلت وشبعت مما لذّ وطاب، هنيئا
مريئا، نحن أطفال غزّة نتضوّر جوعا، لم نأكل اللحم والخضار والفاكهة منذ 550 يوما،
نأكل الخبز العفن وما في هذه القدر من شوربة بلا طعم، وحتى هذا الخبز لا نجده منذ
سبعين يوما، لقد ذاب الشحم واللحم من أجسادنا، وغزا المرض أعماقنا وضرب الموت
أرواحنا، ننتظر الموت ونتمنّاه موتا رحيما في كل لحظة قادمة، من فعل هذا بنا؟
ستقولون الإجابة المعروفة: حماس السبب، وأنا طفلة فلسطينيّة بريئة ستتوّقعون مني
أن أقول لكم:
الاحتلال هو السبب، ولكنّي سأقول لكم: أنتم السبب، أمريكا والعرب، لو
أنّ أحدكم قرّر غير ذلك لما وصلت حالنا إلى هذا الكرب والكلل، لمّا تمكن منا هذا
الاحتلال القذر ولما تجرّأ على كلّ هذه الدناءة والألم. لن نرجو منكم شيئا إذ لو
أن في صدوركم قلوب بشر لما فعلتم هذا بنا، أنتم في صدوركم قلوب ذئاب لا تعرف مشاعر
البشر، لذلك لن نجو الا ربنا وربّكم الخلاص والفرج.
ثم إنّها أودعت هذا المقطع مع سيمفونية من الموسيقى
الخلفية من أصوات الأطفال الجوعى المتلهّفين على مغرفة من الشوربة الفقيرة. عادت
أدراجها مع بلوغ الشمس الزوال وانتشار لهيبها، كانت منهكة وكان ثقل الفيديو الذي
سجّلته وألقته هناك في عالم يوتيوب أشدّ عليها من ثقل الألم النفسي للاصطفاف
والمزاحمة على فتات طعام.
وضعت الطعام بين يدي أطفالها لتغرق هي في سِنة من
النوم، رأت في المنام المقطع الذي سجّلته يلعلع على شاشاتهم، كان ترامب يمدّ رأسه
ويزمّ شفتيه ويتقطّر جبينه عرقا وغضبا، بينما كان مضيفه يذوب خجلا ويود لو أن
الأرض تنشق فتبتلعه وتغيّبه عن هذا المشهد.
انتبهت من نومها، نظرت إلى الطنجرة فوجدتها خاوية على
عروشها، أختها الصغيرة مدلّلتها، جاءت بصحن فيه بضع لقيمات وهتفت:
-
خبأت لك هذه، هي حصّتك يا مريم.