شهدت الأيام القليلة الماضية انتهاء الحرب على
غزة بعد عامين من
العدوان الذي لم يُبقِ حجرا على حجر، تاركة وراءها جراحا عميقة ودمارا شاملا طال
كل جوانب الحياة. ومع انقشاع دخان الحرب، ووقف أصوات القصف التي كانت تملأ السماء،
برزت مهمة أخرى لا تقل صعوبة ولا قدسية: مهمة إعادة
الإعمار وبناء الحياة من جديد.
لقد طويت صفحة الحرب -وإن لم تُنسَ فلها ما بعدها- لتُفتح صفحة أخرى عنوانها
الصمود والإعمار، إعمار الإنسان الذي أنهكه العدوان وإعمار البنيان الذي هدمه
الاحتلال.
وإذا كان وقف الحرب في غزة تم في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر
الجاري، فإنه قبل ذلك التاريخ بأقل من أسبوعين وفقني الله تعالى وفريق عمل مجتهد لتنظيم
مؤتمر عن "إعادة الإعمار في الاقتصاد الإسلامي بين التراث والمعاصرة" في
جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم التركية، شارك فيه أكثر من خمسين عالما وباحثا،
وكان محور المؤتمر إعادة إعمار غزة التي ابتليت فصبرت وضربت أروع الأمثلة في
الثبات والرباط في ظل محيط عالمي ما بين متآمر ومتخاذل.
إنه حتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2025 بلغ عدد الشهداء نحو 67،938
شهيدا، بينما تجاوز عدد الجرحى 170 ألفا، وتحوّل أكثر من 1.9 مليون فلسطيني إلى
نازحين داخليين، يشكّلون ما يقارب 90 في المئة من سكان القطاع. وقد أعلنت الأمم
المتحدة رسميا المجاعة في قطاع غزة في الثاني والعشرين من آب/ أغسطس 2025، بعد أن
سجّلت منظمة الصحة العالمية وفاة 361 شخصا، بينهم 130 طفلا، بسبب سوء التغذية ونقص
الدواء والماء.
وفي خضم هذه المأساة، دُمّر أكثر من سبعين ألف مبنى بالكامل وتضرّر
أكثر من 120 ألفا بدرجات متفاوتة، وأُصيبت أكثر من 91 في المئة من المدارس بأضرار
جسيمة، فيما يعمل اليوم فقط قرابة 14 مستشفى من أصل 36. أما الخسائر الاقتصادية
فتُقدّر وفق التقارير الأممية والبنك الدولي بنحو 52 إلى 70 مليار دولار، وفي
رأينا أنها تتجاوز المائة مليار دولار، وهي أرقام تعكس حجم المأساة وضخامة التحدي
الذي يواجه غزة في رحلة إعادة الإعمار.
وأمام هذا الواقع، فإن المساعدات الطارئة لا يمكنها أن تفي باحتياجات
السكان، فما هي إلا أمور إسعافية، ومن ثم تبدو أهمية التخطيط للانتقال من الإغاثة
إلى التمكين، ومن الاعتماد على المساعدات إلى بناء اقتصاد قادر على النهوض الذاتي.
وهنا يبرز دور
التمويل الأصغر الإسلامي كخيار عملي وإنساني للمساهمة في تحقيق هذه
الغاية. فالتمويل الأصغر الإسلامي ليس مجرد وسيلة مالية، بل هو رؤية حضارية
متكاملة تستمد روحها من مقاصد الشريعة الإسلامية التي تجعل من المال وسيلة للإعمار
لا وسيلة للاستغلال.
ويقوم هذا التمويل على صيغٍ شرعية غير ربحية (خيرية) وأخرى ربحية ولكنها
بربحية متواضعة لاستدامة التمويل، وما يهمنا في وضع غزة هو الصيغ التمويلية
الخيرية من زكاة وصدقات وقرض حسن، وتوجيه ذلك التمويل نحو المشروعات الصغرى التي
لا يتجاوز عدد العاملين فيها أربعة أشخاص، بهدف تحويل الأسر المتضررة إلى أسر
منتجة، تُسهم في الاقتصاد المحلي وتحقق الاستكفاء لنفسها، بل وتمد يدها بالخير لمن
حولها.
ومع التحول الرقمي الهائل الذي يشهده العالم، باتت
المنصات الرقمية
للتمويل الجماعي (Crowdfunding) تمثل ثورة في جمع
الموارد واستخدامها. وهذه المنصات، حين تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية وتُدار
برؤية تنموية، يمكن أن تصبح أداة فاعلة في إعادة إعمار غزة عبر تعبئة التمويل
الشعبي من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فبضغطة زر، يستطيع أي مسلم أو مؤسسة خيرية
المشاركة في تمويل مشروع أصغر في غزة، من زكاته أو صدقاته، ضمن منظومة رقمية شفافة
تُعرض فيها المشاريع وتقاريرها وأثرها الإنساني والاقتصادي في الوقت نفسه.
وتقوم المنصة الإسلامية المقترحة على ثلاثة أسس رئيسة؛ أولها: المصداقية
الشرعية التي تضمن أن التمويل يتم وفق الأحكام الإسلامية، وثانيها: الكفاءة
الاقتصادية التي تربط المشروعات الصغرى في سلاسل إنتاجية متكاملة، وثالثها: الكفاءة
الاجتماعية التي تعزز مبدأ التكافل والتوازن داخل المجتمع. كما تضم المنصة خمسة
أطراف: الممولين من الأفراد والمؤسسات، والمستفيدين من أصحاب المشروعات الصغرى،
والمنصة نفسها التي تربط الطرفين، ورقابة مالية وشرعية لضمان الشفافية، فضلا عن الرعاة
الذين يقدّمون الدعم التقني والإعلامي والتسويقي.
وتتميّز المنصة باعتمادها على التحول الرقمي الكامل، من إدارة
البيانات والتحليل إلى تنفيذ التمويل ومتابعة الأداء. كما يمكنها استخدام العملات
الرقمية المشفرة الملتزمة بالضوابط الشرعية لتجاوز الحصار المالي، وتسخير الذكاء
الاصطناعي في تقييم المشاريع واختيار الأنسب من حيث الجدوى والأثر الاجتماعي. ومن
خلال هذه الآلية، يتحوّل التمويل من جهد موسمي إلى منظومة تنموية دائمة تسهم في
بناء اقتصاد مقاوم، يستمد قوته من المجتمع.
ومع أهمية هذه المنصة فإنه لا يمكن أن نتجاهل ما تواجهه من تحديات
سياسية وقانونية وفنية، لكنها في جوهرها تجسّد الاقتصاد المقاوم الذي يقوم على
الاعتماد الذاتي والإنتاج المحلي والتعاون المجتمعي، ويحوّل المعاناة إلى طاقة
بناء. فالإعمار لا يقتصر على إعادة الجدران، بل يبدأ بإحياء الإنسان نفسه، وتأهيله
ليكون شريكا في التنمية وصانعا لمستقبله. ومن هنا، فإن نجاح هذه المنصة يتطلب
إطلاق برامج تدريبية لريادة الأعمال والتقنية المالية داخل غزة، وتمكين الشباب
والنساء من اكتساب مهارات العمل والإدارة والإنتاج.
إن المنصة الرقمية للتمويل الأصغر الإسلامي ليست مجرد مشروع مالي أو
تقني، بل هي مشروع حضاري يجمع بين العلم والإيمان، بين الفقه والاقتصاد، بين
التقنية والإنسان. إنها تجسيد لمبدأ "وتعاونوا على البر والتقوى"،
وتحويل عملي لفكرة الاقتصاد الإسلامي إلى واقع رقمي حيّ يسهم في نهضة الأمة. ومن
خلال هذه المنصات، يمكن لكل شخص في العالم أن يكون شريكا في إعمار غزة بضغطة زر،
ليصبح التمويل الشعبي المتناثر طاقة جماعية تزرع الحياة من جديد.
إن انتهاء الحرب لا يعني نهاية المعاناة، لكنه يعني بداية الطريق نحو
الأمل. ومن بين الركام ينهض الإنسان الفلسطيني حاملا معوله وإيمانه، ليثبت للعالم
أن غزة لا تُهزم، وأن الإعمار الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان قبل أن يمتد إلى
الجدران. وهكذا تتحول المنصات الرقمية الإسلامية إلى جسرٍ بين التقنية والرحمة،
بين المال والمقاصد الشرعية، بين الأمة وأهلها في فلسطين، لتكتب فصلا جديدا من
فصول الصمود والثبات والبناء والكرامة.
x.com/drdawaba