ملفات وتقارير

من هزيمة الصورة إلى انهيار السردية.. كيف خسرت الاحتلال حربه الدعائية؟

فشل السردية الإسرائيلية وارتفاع ضغط الرأي العالمي ضد جرائم الاحتلال - الأناضول
فشل السردية الإسرائيلية وارتفاع ضغط الرأي العالمي ضد جرائم الاحتلال - الأناضول
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد اندلاع معركة "طوفان الأقصى"، لم يخفق الاحتلال الإسرائيلي عسكرياً فحسب في تحقيق أهدافه المعلنة، بل تكبد خسارة غير مسبوقة في جبهته الأكثر حساسية٬ وهي جبهة "السردية" أو ما يُعرف بحرب العلاقات العامة.

فعلى مدى عقود، نجح الاحتلال في رسم صورته أمام الغرب كـ"دولة صغيرة محاطة بالأعداء" تخوض معركة وجودية دفاعاً عن النفس، بينما جرى تهميش الرواية الفلسطينية في الإعلام الغربي و إقصائها من الخطاب العام. لكن صور المجازر اليومية في غزة، التي تُبث مباشرة على الهواء منذ عامين، قلبت المشهد رأساً على عقب، وعرت المشروع الإسرائيلي أمام العالم.

ترامب: إسرائيل خسرت
في أواخر آب/أغسطس الماضي، لخص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشهد بوضوح حين قال في مقابلة مع صحيفة "دايلي كولر" إن إسرائيل "قد تنتصر عسكرياً، لكنها تخسر معركة العلاقات العامة". وأضاف: "سيضطرون إلى إنهاء الحرب، لأنها تضر بإسرائيل. لقد تراجع نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن بشكل لم نره من قبل."

ترامب، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع تل أبيب، أقر بأن اللوبي الإسرائيلي الذي كان يوصف يوماً بـ"الأقوى في الكونغرس"، فقد الكثير من نفوذه خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع صعود الأصوات التقدمية داخل الحزب الديمقراطي وتبدل مواقف الأجيال الجديدة من الجمهوريين.

واستشهد ترامب باستطلاع لمركز بيو للأبحاث أظهر أن 50% من الجمهوريين تحت سن الخمسين يحملون نظرة سلبية تجاه الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة بـ35% فقط في عام 2022. وقال: "قبل عشرين عاماً كانت إسرائيل تملك أقوى جماعة ضغط في الكونغرس، أما اليوم فلم تعد كذلك. إنه أمر مدهش."

وثيقة تفضح فشل المنظومة الدعائية
وأيضا بعد أكثر من عام على اندلاع حرب الإبادة في غزة، أكدت وثيقة رسمية صادرة عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – وكشفها موقع "شومريم" الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 2024 – أن المنظومة الدعائية الإسرائيلية تمر بأسوأ أزمة في تاريخها.

وتحدثت الوثيقة صراحة عن "ضرر واضح يزداد سوءاً كل يوم"، مشيرة إلى غياب القيادة في "نظام المعلومات" المسؤول عن إدارة الخطاب العام ونقل الرسائل السياسية والإعلامية للعالم.

وأوضحت أن منصب رئيس الفريق الدعائي شاغر منذ أيار/مايو 2024، وأن العقود مع الناطقين والمحللين والمتحدثين باللغة الإنجليزية "غير منظمة"، مما جعل الرواية الإسرائيلية مشتتة ومتضاربة.
وقالت الوثيقة: "لا يوجد مسؤول يتولى تحرير وتمثيل الرواية الإسرائيلية برسالة موحدة وواضحة داخل إسرائيل أو خارجها، ولا إطار استراتيجي لإدارة الصورة العامة للحرب."


من رواية "الضحية" إلى صورة "الجلاد"
منذ قيامها عام 1948، بنت دولة الاحتلال الإسرائيلي شرعيتها على سردية "الضحية الدائمة"، واستثمرت في عقدة الذنب الأوروبية تجاه المحرقة النازية لتبرير ممارساتها ضد الفلسطينيين.

وكما يقول المؤرخ اليهودي ضد الصهيونية٬ إيلان بابيه: "قلما نجد دولة في العالم تبذل مثل هذا الجهد لإقناع العالم بشرعية وجودها."

لكن حرب غزة الأخيرة جردت هذه السردية من غطائها. فصور الأطفال المحترقين، والنساء الممزقات، والعائلات التي تستخرج من تحت الركام، لم تترك مجالا لتجميل الجرائم.

وباتت الرواية الفلسطينية أكثر حضورا وتأثيرا، وانهارت صورة الاحتلال الإسرائيلي التي طالما روج لها بوصفها "منارة ديمقراطية في الشرق الأوسط".

كما تقول الكاتبة الإسرائيلية نوا لانداو في مقال نشرته صحيفة هآرتس: "إسرائيل تخوض حرباً إعلامية خاسرة، لأنها فقدت السيطرة على صورتها الأخلاقية."

اظهار أخبار متعلقة


تراجع الدعم الشعبي للاحتلال في أمريكا
الأرقام التي نشرتها مراكز الأبحاث الأمريكية تُظهر انقلابا تدريجيا في الرأي العام. فبحسب مؤسسة بروكينغز٬ ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين يحملون آراء سلبية تجاه الاحتلال الإسرائيلي من 42% إلى 53% خلال عام واحد.

أما مركز بيو فقد رصد تحولات لافتة بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء:

- بين الجمهوريين الشباب (18–49 عاماً): ارتفعت النظرة السلبية من 35% إلى 50%.

- بين الديمقراطيين الشباب: من 62% إلى 71%.

- بين الديمقراطيين الأكبر سناً: من 43% إلى 66%.

ورصد مجلس شيكاغو للشؤون العالمية – إبسوس تراجعاً مشابهاً في المشاعر الإيجابية تجاه الاحتلال عبر الطيف السياسي:

من 69% إلى 63% بين الجمهوريين، ومن 56% إلى 50% بين المستقلين، ومن 51% إلى 41% بين الديمقراطيين.

هذا التحول، بحسب بروكينغز٬ يكسر السردية السائدة بأن انتقاد الاحتلال محصور في الأجيال الشابة، إذ باتت الشرائح الأكبر سناً ضمن الحزب الديمقراطي أكثر ميلاً لانتقادها.

اظهار أخبار متعلقة



لوبيات الإعلام: حين تكتب جماعات الضغط الأخبار
كشف تحقيق لموقع “مينتبريس نيوز” الأمريكي٬ أن مئات الموظفين السابقين في جماعات الضغط الصهيونية – مثل "أيباك" و"ستاند ويد آز" و"كاميرا" – يعملون حالياً داخل غرف الأخبار في وسائل الإعلام الكبرى، بما في ذلك "نيويورك تايمز"، و"سي إن إن"، و"إم إس إن بي سي"، و"فوكس نيوز".

وفي "إن بي سي"، عملت كايلا شتاينبرغ سابقاً في "أيباك"، قبل أن تصبح منتجة في الشبكة. أما سامانثا سوبين في سي إن بي سي، فكانت عضواً في مجموعة "تاميد" التي تربط الشركات الأمريكية بإسرائيل.
وفي المقابل، أوقفت الشبكة نفسها ثلاثة مذيعين مسلمين – أيمن محيي الدين، وعلي فيلشي، ومهدي حسن – في خطوة فهمها الموظفون كرسالة تكميم ضمنية.

أما شبكة فوكس نيوز اليمينية، فلم تكن مختلفة؛ إذ شغلت راشيل وولف، التي عملت سابقاً في "كاميرا"، منصب محررة الصفحة الرئيسية للشبكة.

وفي "سي إن إن" عملت منتجات مثل جيني فريدلاند٬ وهانا رابينوفيتز٬ سابقاً في منظمات موالية للاحتلال الإسرائيلي مثل "اللجنة اليهودية الأمريكية" و"رابطة مكافحة التشهير".

هذا التداخل البنيوي بين الإعلام واللوبي الصهيوني، كما يقول التقرير، يفسر التغطية المتحيزة التي منحت الاحتلال الإسرائيلي لسنوات تفوقاً في الرواية، لكنه لم يعد كافياً اليوم أمام طوفان الصور القادمة من غزة.

انهيار السردية في أوروبا.. الشوارع تنتفض
في المقابل، شهدت أوروبا واحدة من أوسع موجات التضامن الشعبي مع فلسطين في تاريخها الحديث.
فمن لندن إلى برلين، ومن باريس إلى مدريد، لم تهدأ التظاهرات المطالبة بوقف الإبادة، وفرض العقوبات على الاحتلال الإسرائيلي.

لكن المفارقة الكبرى جاءت من إيطاليا – ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى الاحتلال بعد الولايات المتحدة وألمانيا٬ حيث شل إضراب عام البلاد في 22 أيلول/سبتمبر 2024، بمشاركة نصف مليون شخص في أكثر من 80 مدينة تحت شعار: "Blocchiamo tutto" (لنوقف كل شيء).

وأغلقت الطرق السريعة، توقفت القطارات، وتعطلت الموانئ الكبرى في جنوة وترييستي والبندقية وليفورنو.

ولعب عمال الموانئ دوراً محورياً في تعطيل سلاسل التوريد العسكرية إلى الاحتلال الإسرائيلي، معلنين تضامنهم مع أسطول "الصمود العالمي" المتجه إلى غزة.

اظهار أخبار متعلقة


انكسار الهيمنة الدعائية
على مدار أكثر من سبعين عاماً، هيمنت السردية الإسرائيلية على الخطاب الغربي بفضل شبكات نفوذ سياسية وإعلامية واسعة، لكنها اليوم تواجه انهيارا أخلاقيا واستراتيجيا فالعالم لم يعد يرى في الاحتلال الإسرائيلي "دولة محاصرة"، بل قوة احتلال تنفذ إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة.

ولأول مرة منذ تأسيسها، تسائل قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي شرعيتها ووجودها ذاته.
لقد تحولت "حرب الرواية" إلى معركة بقاء رمزية، خسرها الاحتلال أمام ملايين الشهود الذين يشاهدون على الهواء مباشرة ما حاولت إخفاءه منذ 1948.

كما كتب أحد الصحافيين البريطانيين: "الاحتلال يمكن أن يقتل، لكنه لم يعد قادراً على الكذب."
التعليقات (0)