ملفات وتقارير

بعد عامين على الإبادة في غزة.. كيف تآكل نفوذ اللوبي الصهيوني؟

من بروكسل إلى باريس.. تنكسر هالة اللوبي الصهيوني أمام جرائم الإبادة في غزة- جيتي
من بروكسل إلى باريس.. تنكسر هالة اللوبي الصهيوني أمام جرائم الإبادة في غزة- جيتي
يسجل النفوذ التقليدي للوبي الصهيوني داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي والبرلمانات في أوروبا، تراجعا ملموسا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

ويكشف المشهد الأوروبي تحولا واضحا في القرارات ضد سياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي ، وارتفاعا في الدعوات البرلمانية لتقييد التعاون التجاري والبحثي، وفرض عقوبات على مستوطنين ومسؤولين إسرائيليين، إلى جانب قرارات حظر أو مراجعة لتصدير السلاح في عدد من الدول.

ويواصل اللوبي الاعتماد على أدوات ضغط في بروكسل مثل المؤتمر اليهودي الأوروبي ومعهد اللجنة اليهودية الأمريكية عبر الأطلسي وشبكات “أصدقاء إسرائيل”، لكنه يواجه اليوم انقسامات داخلية أوروبية وضغطًا قانونيا وإعلاميا وشعبيا غير مسبوق، بما قلص من قدرته على تشكيل إجماع أوروبي شبيه بما يحدث في واشنطن.

ويثبّت المؤتمر اليهودي الأوروبي مقره في بروكسل بصفته مظلة تمثيلية للجاليات اليهودية، ويتواصل بانتظام مع حكومات الاتحاد ومؤسساته ويعلن عمله في ملفات معاداة السامية وسياسات الشرق الأوسط، ويظهر حضوره في سجلات الشفافية الأوروبية بعناوين واضحة في العاصمة مع أنشطة تمتد إلى ستراسبورغ وباريس كما توضح European Jewish Congress وLobbyFacts.

ويعمل معهد اللجنة اليهودية الأمريكية عبر الأطلسي AJC Transatlantic Institute مكتبًا نشطًا في بروكسل يتواصل مع مسؤولي الاتحاد والناتو والبعثات الدبلوماسية ويصدر بيانات بخصوص إيران ومكافحة معاداة السامية وقضايا الشرق الأوسط وفق ما يورده موقع المعهد وموقع AJC.

اظهار أخبار متعلقة



وتتحرك كيانات محلية الطابع مثل European Jewish Association ضمن “المجمّعات اليهودية الأوروبية” في بروكسل للتدريب وبناء العلاقات مع البرلمانيين وصياغة رسائل ضغط مخصّصة للجان البرلمان كما تظهر بيانات LobbyFacts ومواقع هذه الكيانات.

يعتمد اللوبي الأوروبي على مذكرات سياسات موجهة لصناع القرار، ويستخدم حملات إعلامية وعلاقات مع رؤساء تحرير، ويستثمر فعاليات الهولوكوست كمدخل ضغط أخلاقي، كما يوظف المصالح الاقتصادية والأمنية ومنها الدفاع والأمن السيبراني والطاقة لربط الشراكات السياسية.

ومن جانبه، قال علي أغوان، أستاذ العلاقات الدولية، في تصريح لـ"عربي21"  إن اللوبي الصهيوني في أوروبا يمتلك شبكة نفوذ واسعة ومتعددة القنوات، تجمع بين العمل المنظماتي والتبشيري ودعم بعض القضايا الحقوقية، ما يمكّنه من التغلغل داخل مؤسسات القرار، بما فيها البرلمانات الأوروبية.

ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.. نفوذ متزايد

يرسّخ اللوبي نفوذا عبر السياسة والإعلام والاقتصاد في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ويبرز في فرنسا مثال إمبراطورية الإعلام التي يديرها فانسان بولوريه، حيث صعدت قناة CNews إلى صدارة قنوات الأخبار منتصف 2024، بينما شهدت تغطياتها تدقيقا تنظيميا وبرلمانيا متزايدا، ولا يختزل هذا المثال المشهد الفرنسي لكنه يوضح كيف تتداخل البيئة الإعلامية مع مساحات الضغط السياسي.

ويعزز افتتاح وتوسيع مكاتب المنظمات اليهودية والأذرع العابرة للأطلسي في بروكسل حضور اللوبي داخل اللجان البرلمانية ودوائر المفوضية وخدمة العمل الخارجي الأوروبي EEAS، مع تنظيم وفود وزيارات ميدانية ولقاءات مغلقة لصناع القرار وفق ما تنقله سجلات الشفافية الأوروبية.

وأوضح أغوان أن هذا اللوبي يتحرك عبر أدوات متنوعة، منها التأثير في مسار بعض التشريعات، ودعم الحملات الانتخابية، وتشويه صورة السياسيين الذين يعارضون السياسات الإسرائيلية، مشيراً إلى أنه رغم كل الانكشاف الذي أحدثته الحرب على غزة، "ما يزال هذا اللوبي قوياً وقادراً على تزييف بعض الحقائق وتوجيه النقاشات داخل أروقة القرار الأوروبي".

وبالتالي، تتحول القرارات البرلمانية إلى منصات مباشرة لتشكيل الكتل المؤيدة ضمن “أصدقاء إسرائيل” داخل البرلمان الأوروبي، ويندفع المسار الدبلوماسي عبر تواصل مكثف مع بعثات الاتحاد الأوروبي والخارجيات الوطنية وعقد اجتماعات ثنائية منتظمة وتنسيق رسائل مشتركة خلال الأزمات كما تذكر بيانات المعهد عبر الأطلسي.


ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.. مشهد متغاير على وقع الحرب

غيّرت حرب غزة 2023 ملامح خارطة الطريق التي لطالما سارت عليها آلة النفوذ الصهيوني في أوروبا، تلك الخارطة التي بدأ رسم خطوطها الأولى تيودور هرتزل، وهو يطرق أبواب القصور الأوروبية حالما بوطن لليهود في فلسطين، وتحولت لاحقا إلى مشروع عملي بدعم سخي من آل روتشيلد، الذين لم يقتصر نفوذهم على المال، بل امتد إلى دهاليز السياسة والعلاقات الدبلوماسية الرفيعة.

وبين قلم المفكر وأوراق المال، شيدت لبنات اللوبي الصهيوني في العواصم الأوروبية، فكان الحضور الإسرائيلي في بروكسل وباريس ولندن يبدو  لعقود أمرا بديهيا لا يمس، لكن رياح الحرب الأخيرة كشفت تصدعات عميقة في هذا النفوذ، وأعادت تشكيل نظرة الأوروبيين إلى المشروع الصهيوني برمته، لا بوصفه ضحية، بل كقوة استعمارية باتت على المحك.

اظهار أخبار متعلقة



يتراجع رصيد إسرائيل الشعبي في أوروبا إلى مستويات قياسية، ويعرض استطلاع “يوغوف” في 3 حزيران/يونيو 2025 أدنى مستويات للصورة الإيجابية لإسرائيل في أوروبا الغربية منذ بدء القياس، مع تسجيل ألمانيا وفرنسا والدنمارك وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا أرقاما سلبية حادة، وتأكيد نسب تأييد لا تتجاوز عشرين بالمئة في معظم العينات المنشورة على yougov.co.uk.

وفي المقابل، لفت الأكاديمي إلى أن العالم بدأ يدرك تدريجياً حجم الجرائم والانتهاكات التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، قائلاً إن "جزءاً مهماً من الرأي العام العالمي بات يقتنع بأن ما يجري هو إبادة جماعية وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان".

وأضاف أن التحول المتنامي في الوعي الدولي ظهر جلياً في المواقف الصادرة عن بعض الدول والجمعيات العامة، التي بدأت تتراجع في دعمها الأعمى لإسرائيل، مؤكداً أن "تياراً متصاعداً في العالم بات يقول كلا وكفى لهذه الجماعات التي تبني نفوذها ومشاريعها على دماء الأبرياء".

وتعكس استطلاعات بريطانية متقاربة خلال 2024 و2025 دعما متزايدا لتعليق أو حظر صادرات السلاح إلى إسرائيل، مع أغلبية واضحة تؤيد الحظر وفق تقارير “ذا غارديان”.

قرارات وإجراءات أوروبية.. من عقوبات على مستوطنين إلى بحث تعليق الامتيازات

ويعتمد مجلس الاتحاد الأوروبي حزمتين من العقوبات على مستوطنين وكيانات مرتبطة بالعنف ضد الفلسطينيين في نيسان/أبريل وتموز/يوليو 2024، وتشمل تجميد أصول وحظر سفر كما أوردت “تايمز أوف إسرائيل” في تغطياتها.

وتعرض المفوضية الأوروبية في 17 أيلول/سبتمبر 2025 مقترحًا لتعليق تفضيلات جمركية على سلع إسرائيلية ضمن اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية إلى جانب تدابير إضافية تطاول مسؤولين متطرفين ومستوطنين.

ويصوّت البرلمان الأوروبي في 11 أيلول/سبتمبر 2025 على قرارات تدعو إلى تحقيقات كاملة في جرائم الحرب وفرض عقوبات على وزيرَي الحكومة الإسرائيلية بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وإلى تعليق جزئي للدعم والاتفاق، وهو ما تثبته مواد البرلمان الأوروبي وتغطيات “الأناضول”.

قيود وطنية على تجارة السلاح

من جانبها، قررت محكمة الاستئناف الهولندية في شباط/فبراير 2024 وقف توريد مكونات F-35 إلى إسرائيل، ثم تصدر المحكمة العليا في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2025 حكمًا يقضي بإعادة تقييم الترخيص مع إبقاء التعليق ساريًا إلى حين استكمال المراجعة الحكومية كما تنقل “رويترز”.

وتعلن سلوفينيا في 1 آب/أغسطس 2025 حظرا شاملا على تجارة السلاح مع إسرائيل في خطوة أولى من نوعها داخل الاتحاد الأوروبي وفق “أسوشييتد برس”. وتثبّت إسبانيا تجميد صادرات السلاح خلال الحرب وتدفع مع أيرلندا والنرويج نحو الاعتراف بدولة فلسطين في 28 أيار/مايو 2024 بحسب “رويترز” والبيانات الحكومية الإيرلندية المنشورة على gov.ie.

الاعتراف بفلسطين.. كلفة سياسية على حساب اللوبي

يتحوّل الاعتراف بدولة فلسطين إلى موضوع رسمي مطروح على الطاولة الأوروبية بعد إعلان ريطانيا، فرنسا، بلجيكا، لوكسمبورغ، مالطا، أندورا، إسبانيا، البرتغال، النرويج، إيرلندا، سلوفينيا الاعتراف بدولة فلسطين، وتتسع في التكتلات المؤيدة ضمن مسار غير ملزم لجميع الدول الأعضاء، بما يفاقم الاستقطاب ويدفع اللوبي إلى تكتيكات احتواء في بروكسل والعواصم.

ضغط الشارع والإعلام

تتواصل موجات احتجاج حاشدة في عواصم أوروبية دعمت مطالب وقف إطلاق النار وقيّدت حرية الحكومات في الانحياز المفتوح لإسرائيل، وتكثّف صحف ومحطات رئيسية من لندن إلى برلين وباريس تغطيات نقدية للحرب على غزة، ما يغذي تشددًا برلمانيًا ومراجعات قانونية لتراخيص السلاح وللاتفاقيات.

ويؤكد استطلاع “يوغوف” انخفاض الشعبية، بينما توثّق “فرانس24” تحولات المشهد الإعلامي الفرنسي وصعود CNews إلى الصدارة مع استمرار مساءلات تنظيمية حول معايير التعددية.

رصد مراكز النفوذ داخل أجهزة الاتحاد والدول

يتخذ البرلمان الأوروبي موقعًا مركزيا عبر لجان الشؤون الخارجية وحقوق الإنسان والتجارة، وتتحرك المجموعات للأحزاب مثل Transatlantic Friends of Israel و“حل الدولتين” في مساحات الوساطة والتعديل داخل الجلسات واللجان.

وتدير المفوضية وخدمة العمل الخارجي الأوروبي قنوات ضغط وصياغة لورقات خيارات السياسة الخارجية، وقد برزت في صيف 2025 ورقة خيارات حول تعليق الامتيازات التجارية كما نقلت “رويترز”.

ويصوغ المجلس الأوروبي موازين القرار وفق تحالفات بين دول جنوب وغرب أوروبا الدافعة للتصعيد مثل إسبانيا وأيرلندا والدنمارك ودول متحفّظة مثل ألمانيا والمجر والتشيك، وهو ما تنشره “يورونيوز” في تقارير الانقسام.

اظهار أخبار متعلقة



وتباشر المستويات الوطنية القرارات التنفيذية في تراخيص السلاح والعقوبات ومكافحة خطاب الكراهية، وقدّمت هولندا وسلوفينيا مثالين دالّين على قدرة القرار الوطني على تجاوز بطء آليات الإجماع الاتحادي بحسب “رويترز” و“أسوشييتد برس”.

ويتحرك نواب داخل البرلمان الأوروبي لدفع إدراج “بتسلئيل سموتريتش” و“إيتمار بن غفير” على لوائح العقوبات بدعم قرارات ومشروعات قرار، غير أن التنفيذ النهائي يبقى على عاتق إجماع المجلس.

ويواصل مسار تعليق الامتيازات التجارية تقدمه عبر مقترح المفوضية الذي قدّرته تقارير إعلامية بمليارات اليورو سنويًا، لكنه يصطدم بتحفّظ دول محورية وفق “رويترز”.

وتؤكد القرارات الوطنية في هولندا وسلوفينيا قدرة العواصم على إرسال إشارات سياسية قوية لشركات الدفاع والجيش الإسرائيلي خارج بطء آليات الاتحاد كما تورد “رويترز” و“أسوشييتد برس”.

تثبت الوقائع أن اللوبي الصهيوني في أوروبا لم يعد يمتلك القدرة السابقة على تسويق خيارات إسرائيل داخل مؤسسات الاتحاد والبرلمانات الوطنية كما كان قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ويقود هذا التحوّل ثلاثة عوامل رئيسية تتمثل في تبدّل الرأي العام ضد الحرب كما تثبت استطلاعات “يوغوف”، وارتفاع الكلفة السياسية على الحكومات المنتخبة في تبني مواقف منحازة لإسرائيل ما يدفعها إلى مسارات عقابية أو إلى أقل تقدير تعليق جزئي ومؤقت للشراكات كما تُظهر مداولات البرلمان الأوروبي، إضافة إلى الانقسام البنيوي داخل الاتحاد الذي يضيق ممرات القرار ويمنح دولا منفردة قدرة على تحريك الملف عبر المحاكم والتراخيص الوطنية بعيدا عن الإجماع الاتحادي وفق تقارير “رويترز”.

ولا يعني ذلك اختفاء النفوذ، إذ تواصل الشبكات المؤسسية  في بروكسل مثل جماعات الأصدقاء التأثير في بطء أو تعطيل مسارات عقابية وتعزيز أولويات أمنية واقتصادية، غير أن ميزان القوى في بصورة عامة والمسارات القانونية والانتخابية يميل تدريجيا نحو قيود أكبر على هذا النفوذ كلما طال أمد الحرب واشتدت كلفتها الإنسانية..
التعليقات (0)

خبر عاجل