تتحول
الجغرافيا حين تُختطف، إلى أداة صريحة للهيمنة. وفي هذا السياق تبرز
جزيرة عبد
الكوري
اليمنية، الصغيرة والنائية، كحقل تجارب مكثف للسياسات العدوانية التي
تمارسها
الإمارات العربية المتحدة، الدولة الريعية حديثة النشأة، والتي تحاول عبر
مشاريعها الاستعمارية بالوكالة أن تؤسس لنفسها دورا يتجاوز حجمها الطبيعي.
وبالتالي
فإن ما يجري في هذه الجزيرة لا يمكن عزله عن سياق "الفوضى الخلّاقة"،
ولا عن مشاريع إعادة هندسة المنطقة وفق متطلبات الرأسمالية العالمية، حيث تلعب
الإمارات دور المقاول الإقليمي لصالح القوى الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات
المتحدة وإسرائيل.
عبد
الكوري اليوم تتحول إلى قاعدة في مشروع إماراتي أوسع، يربط الخليج بالقرن الأفريقي،
ويخلق ما يمكن تسميته بقوس الهيمنة الممتد من أبو ظبي إلى بربرة وعصب ومصوع. هذا
القوس لا يخدم اليمن ولا العرب، بل يخدم أولا وأخيرا المصالح الأمريكية
والإسرائيلية. فمنذ توقيع اتفاقيات التطبيع، صارت القواعد الإماراتية مفتوحة أمام
الخبراء العسكريين
الإسرائيليين، وصارت الجزر اليمنية منصات للتجسس ومراقبة خطوط
الملاحة، بما يحقق لإسرائيل ما عجزت عنه لعقود: الوصول إلى البحر الأحمر والمحيط
الهندي عبر بوابة عربية.
ما نشهده في عبد الكوري يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار الناعم" أو "الاستعمار بالوكالة"، حيث تقوم دولة عربية بممارسة الدور الاستعماري نيابة عن القوى الإمبريالية التقليدية. وهذا النمط من الهيمنة يتميز بقدرته على تجاوز المقاومة الشعبية التقليدية المناهضة للاستعمار
الإمارات،
التي لم تعرف تاريخا سياسيا ولا كفاحا تحرريا، تحاول أن تعوض غياب الشرعية الوطنية
بأدوار خارجية أكبر من حجمها. إنها دولة ريعية تبحث عن معنى في الخارج، فتتاجر
بالقضية الفلسطينية وهي أول من يطعنها، وتدّعي "الأخوّة" وهي تمزق الجسد
اليمني، وتغدق المال على شراء الولاءات والمليشيات بينما تتعامل مع اليمن كحديقة
خلفية لمشاريعها. نحن أمام استعمار بالوكالة: احتلال بوجه عربي لكنه يعمل لصالح
إسرائيل والولايات المتحدة.
وجزيرة
عبد الكوري ليست جزيرة عادية؛ موقعها المطل على باب المندب يجعلها كنزا
استراتيجيا. الإمارات تعرف ذلك، ولهذا أنفقت مئات الملايين على بناء مطارات وثكنات
عسكرية هناك؛ ليس حبا في الجزيرة، بل لأنها تريد أن تمسك برقبة التجارة العالمية،
وأن تصبح شريكا في تقرير أسعار الشحن والتأمين البحري. إنها تحاول أن تصنع لنفسها
دورا لا تستحقه، أن تتحول من دولة نفطية تابعة إلى "مقاول" للهيمنة
الغربية في المنطقة.
وحتى لا
يقال إن الاحتلال إماراتي فحسب، فتحت أبواب الجزيرة أمام إسرائيل، وهذا هو مربط
الفرس. التطبيع لم يتوقف عند السفارات والاتفاقيات، بل وصل إلى الجزر والموانئ..
وجود إسرائيل في عبد الكوري هو أخطر ما في المشهد، لأنه يعني أن المياه اليمنية
تحولت رسميا إلى ساحة نفوذ للعدو التاريخي. أبو ظبي تقدم الغطاء العربي، وتل أبيب
تجلب الخبرة العسكرية والتقنية، والنتيجة: سيطرة مشتركة على شريان المنطقة الحيوي.
والحال،
فإن ما نشهده في عبد الكوري يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الاستعمار
الناعم" أو "الاستعمار بالوكالة"، حيث تقوم دولة عربية بممارسة
الدور الاستعماري نيابة عن القوى الإمبريالية التقليدية. وهذا النمط من الهيمنة
يتميز بقدرته على تجاوز المقاومة الشعبية التقليدية المناهضة للاستعمار، إذ يتخفى
وراء قناع "الأخوة العربية" و"التضامن الإسلامي"، مما يجعل
فضحه وتعريته أكثر تعقيدا.
إن
الاستراتيجية الإماراتية في اليمن عموما، وفي عبد الكوري خصوصا، تقوم على مبدأ
"فرّق تسد" الذي طوره الاستعمار الأوروبي الكلاسيكي. فبدلا من الاحتلال
المباشر الذي يثير المقاومة الشعبية، تعمد الإمارات إلى تفتيت النسيج الاجتماعي
والسياسي اليمني من خلال دعم الانفصاليين في الجنوب، وتجنيد المرتزقة المحليين،
وشراء ولاءات النخب التقليدية. هذه الاستراتيجية تهدف إلى خلق كيانات سياسية هشة
وتابعة، غير قادرة على ممارسة السيادة الفعلية على أراضيها.
من
الناحية النظرية، يمكن فهم ما يجري في عبد الكوري في إطار نظرية "الجغرافيا
النقدية" التي طورها الجغرافي البريطاني ديفيد هارفي. فالمكان، وفقا لهذه
النظرية، ليس مجرد حيز جغرافي محايد، وإنما منتج اجتماعي وسياسي يتشكل من خلال
علاقات القوة والهيمنة. وعبد الكوري، في هذا السياق، تتحول من جزيرة يمنية نائية
إلى عقدة استراتيجية في شبكة الهيمنة الإقليمية والعالمية.
علاوة على
ذلك، فإن الأهمية الاستراتيجية لعبد الكوري لا تكمن فقط في موقعها الجغرافي المطل
على مضيق باب المندب، بل في دورها كحلقة وصل في سلسلة القواعد العسكرية الإماراتية
الممتدة من الخليج العربي إلى القرن الأفريقي، حيث تشكل هذه السلسلة ما يمكن
تسميته بـ"قوس الهيمنة الإماراتي" الذي يهدف إلى السيطرة على طرق
التجارة البحرية وممرات الطاقة، وهو ما يخدم في نهاية المطاف المصالح الاستراتيجية
للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة.
والواقع
أن التحالف الإماراتي-الإسرائيلي في عبد الكوري يمثل نموذجا متقدما لما يسميه
المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بـ"الهيمنة الثقافية". فبدلا من الاعتماد على القوة العسكرية المجردة، يسعى هذا التحالف
إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي للسكان المحليين من خلال آليات الإغراء الاقتصادي
والثقافي؛ المساعدات الإنسانية، والمشاريع التنموية الصغيرة، والمنح الدراسية،
كلها أدوات في خدمة هذا المشروع الهيمني.
لكن هذا
المشروع يواجه تناقضا جوهريا يكمن في طبيعة الهوية اليمنية ذاتها. فاليمن، بتاريخه
العريق وثقافته المقاومة، يشكل تربة غير صالحة لنمو مشاريع الهيمنة الخارجية،
والشعب اليمني، الذي قاوم الاستعمار البريطاني وغيره، لن يقبل بسهولة بالهيمنة
الإماراتية-الإسرائيلية، مهما كانت الإغراءات المقدمة.
ما يجري
اليوم في عبد الكوري يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل اليمن ومفهوم السيادة الوطنية
في عصر العولمة. فإذا كان بإمكان دولة خليجية صغيرة أن تحتل أراضي دولة عربية أخرى
دون أن تواجه أي رد فعل جدي من الجامعة العربية أو المجتمع الدولي، فهذا يعني أن
مفهوم السيادة قد أصبح مجرد شعار أجوف في منطقتنا. والحقيقة أن الصمت العربي
والدولي على ما يجري في عبد الكوري هو جزء من استراتيجية مدروسة لإعادة تشكيل
المنطقة وفقا لمتطلبات النظام الرأسمالي العالمي؛ لأن القوى الكبرى تدرك أن
السيطرة على الممرات المائية الاستراتيجية أصبحت أكثر أهمية من السيطرة على
الأراضي الواسعة في عصر الاقتصاد المعولم.
يمكن فهم الدور الإسرائيلي في مشروع عبد الكوري كجزء من استراتيجية أوسع لتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية. فإسرائيل، التي فشلت في تحقيق الاندماج الإقليمي من خلال القوة العسكرية المباشرة، تسعى الآن إلى تحقيق هذا الهدف من خلال التحالف مع الأنظمة العربية الريعية التي تشاركها المصالح الاستراتيجية
من هذا
المنظور، يمكن فهم الدور الإسرائيلي في مشروع عبد الكوري كجزء من استراتيجية أوسع
لتطبيع الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية. فإسرائيل، التي فشلت في تحقيق
الاندماج الإقليمي من خلال القوة العسكرية المباشرة، تسعى الآن إلى تحقيق هذا
الهدف من خلال التحالف مع الأنظمة العربية الريعية التي تشاركها المصالح
الاستراتيجية.
من جهة
أخرى، فإن فهم الطبيعة الجدلية للعلاقة بين الإمارات وإسرائيل يتطلب تحليلا عميقا لبنية
النظام الرأسمالي العالمي وآليات عمله في المنطقة العربية. فالإمارات، بوصفها دولة
ريعية تعتمد على تصدير النفط وإعادة تدوير البتروليرات في الأسواق المالية
العالمية، تجد نفسها مضطرة للبحث عن أدوار جديدة تضمن لها الاستمرارية في عالم ما
بعد النفط. ومن هنا يأتي اندفاعها نحو لعب دور الوسيط الإقليمي والوكيل الأمني
للقوى الكبرى.
أما
إسرائيل، فتجد في هذا التحالف فرصة ذهبية لكسر طوق العزلة الجغرافية والسياسية
الذي فرضه عليها الرفض العربي التاريخي لمشروعها الاستيطاني. فمن خلال الشراكة مع
الإمارات، تحصل إسرائيل على عمق استراتيجي في المحيط الهندي، وتؤمن خطوط إمدادها
التجارية والعسكرية، وتحقق حلمها القديم في السيطرة على الممرات المائية الحيوية.
إن
التحليل الماركسي لهذه العلاقة يكشف عن طبيعتها الطبقية والاقتصادية. فالتحالف
الإماراتي-الإسرائيلي هو تحالف بين برجوازيتين كمبرادوريتين تشتركان في المصالح
الاقتصادية والاستراتيجية، وتسعيان معا إلى ضمان استمرارية النظام الرأسمالي
العالمي الذي تستفيدان منه. وعليه، فإن هذا التحالف يقوم على أساس تقسيم الأدوار:
الإمارات توفر المال والغطاء العربي، وإسرائيل توفر التكنولوجيا والخبرة الأمنية
والعسكرية.
في هذا
السياق، تبرز أهمية فهم الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة كراعية ومنسقة لهذا
التحالف. فواشنطن، التي تواجه تحديات متزايدة من القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا،
تسعى إلى تقليل تكاليف هيمنتها العالمية من خلال الاعتماد على حلفاء إقليميين
يتولون مهام الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في مناطق نفوذها. والتحالف
الإماراتي-الإسرائيلي يخدم هذا الهدف بامتياز، إذ يوفر للولايات المتحدة أداة
فعالة للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر ومكلف.
فالإمارات،
منذ بداية تدخلها في اليمن عام 2015، اعتمدت على نهج متدرج يبدأ بالمساعدات
الإنسانية والمشاريع التنموية الصغيرة، ثم ينتقل تدريجيا إلى بناء النفوذ السياسي
والعسكري. وهذا النهج يهدف إلى تجنب المقاومة الشعبية المباشرة التي عادة ما تواجه
أشكال الاحتلال التقليدية، كما يوفر غطاء قانونيا ومعنويا للوجود الإماراتي في
المنطقة.
ومن
الناحية الاقتصادية، تشير البيانات المتاحة إلى أن الإمارات أنفقت ما يزيد عن 200
مليون درهم إماراتي (حوالي 54 مليون دولار أمريكي) على مشاريع أمنية في جزيرة عبد
الكوري، وهي مشاريع ذات طابع أمني وعسكري، مثل بناء المطارات والموانئ والثكنات
العسكرية؛ لأن الإمارات تنظر في السيطرة على جزيرة عبد الكوري بأنها ستوفر لها
مزايا اقتصادية كبيرة تتجاوز بكثير التكاليف المباشرة للمشروع.
فالجزيرة،
بموقعها الاستراتيجي، يمكن أن تصبح محطة مهمة لإعادة التزود بالوقود والإمدادات
للسفن العابرة، مما يوفر إيرادات كبيرة للإمارات. كما أن السيطرة على هذا الموقع
الاستراتيجي تعطي أبو ظبي قدرة على التأثير في أسعار الشحن والتأمين البحري في
المنطقة، مما يمكن أن يحقق لها مكاسب اقتصادية غير مباشرة كبيرة. وتشير التقديرات
الاقتصادية إلى أن الإيرادات المحتملة من هذه المصادر يمكن أن تصل إلى مليارات
الدولارات سنويا.
إن ما
يحدث في عبد الكوري يكشف أيضا عن أزمة عميقة في الدولة اليمنية، التي تفتقر إلى
القدرة على حماية سيادة البلاد وتجد نفسها عاجزة عن مواجهة التحدي الإماراتي. أبو
ظبي التي دخلت كحليف لمواجهة الحوثيين أصبحت اليوم تمارس هيمنتها على الجزر
والسواحل اليمنية، وأبعد من ذلك، عملت الإمارات على إضعاف الشرعية عبر أدواتها
وتشكيل مليشيات خارج إطار الدولة.
لكن هذا
لا يعني أن الشعب اليمني محكوم عليه بالهزيمة أمام مشاريع الهيمنة الخارجية؛
فالتاريخ اليمني مليء بالأمثلة على قدرة هذا الشعب على المقاومة والصمود في وجه
أعتى القوى الاستعمارية. والمطلوب اليوم هو تطوير استراتيجية مقاومة شاملة تأخذ في
الاعتبار طبيعة التحديات الجديدة وخصوصيات المرحلة التاريخية الراهنة.
إن تطوير
استراتيجية مقاومة شاملة في مواجهة المشروع الإماراتي في عبد الكوري لا يمكن أن
ينجح إلا من خلال إعادة النظر في خريطة التحالفات داخل اليمن وفي المنطقة على حد
سواء. فالتجربة التاريخية تُظهر أن القوى الخارجية لا تستطيع أن ترسخ هيمنتها إلا
إذا وجدت في الداخل حلفاء محليين يقبلون لعب دور الوكيل، مقابل مصالح ضيقة أو دعم
خارجي. لذلك فإن الرهان الأساسي ينبغي أن ينصبّ على خلق جبهة وطنية-شعبية عابرة
للانقسامات التقليدية، قادرة على توحيد قوى المقاومة اليمنية في مواجهة الاحتلال
الناعم. وفي هذا السياق تبرز أهمية الانفتاح على القوى المتحررة في الداخل، وفي
مقدمتها أنصار الله (الحوثيون) الذين تمكنوا خلال السنوات الماضية من تطوير تجربة
مقاومة مسلحة أثبتت قدرتها على مواجهة التحالف السعودي-الإماراتي وصموده أمام
الآلة العسكرية الحديثة. إن هذه الحركة، بما تمثله من قوة فعلية على الأرض، يمكن
أن تشكل ركيزة لأي مشروع مقاوم جديد إذا ما جرى التعامل معها من منظور وطني جامع
يتجاوز الحسابات المذهبية أو الأيديولوجية الضيقة.
إن
التحالف مع الحوثيين يجب أن يُفهم ضمن منطق الضرورة الاستراتيجية، لا من باب
التماهي الأيديولوجي، فالقضية الأساسية اليوم هي الحفاظ على السيادة الوطنية ومنع
تحويل اليمن إلى ساحة نفوذ مفتوحة أمام المشاريع الإقليمية والدولية. والحوثيون،
بما يمتلكونه من بنية تنظيمية صلبة وقدرة عسكرية متنامية، يشكلون حجر زاوية في أي
معادلة ردع يمكن أن توقف التوسع الإماراتي وتكبح طموحاته في الجزر والموانئ
اليمنية. وإذا كانت الإمارات قد نجحت في بناء شبكة من التحالفات الهشة مع قوى
محلية ضعيفة، فإن مواجهة هذا المشروع تتطلب بناء شبكة مضادة من التحالفات مع قوى
حقيقية على الأرض، لا تقبل التبعية ولا يمكن شراؤها بالمال السياسي.
فالمشروع الإماراتي يقوم على محاولات ممنهجة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي لليمنيين من خلال أدوات "القوة الناعمة"، سواء عبر المساعدات أو برامج التنمية المشروطة أو حتى من خلال نشر ثقافة استهلاكية غريبة عن السياق اليمني
المسألة
هنا ليست مجرد مواجهة عسكرية مع الإمارات، بل هي أيضا مواجهة سياسية وثقافية
واقتصادية. فالمشروع الإماراتي يقوم على محاولات ممنهجة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي
لليمنيين من خلال أدوات "القوة الناعمة"، سواء عبر المساعدات أو برامج
التنمية المشروطة أو حتى من خلال نشر ثقافة استهلاكية غريبة عن السياق اليمني. ومن
أجل مواجهة ذلك، لا بد من إعادة بناء خطاب وطني-مقاوم يفضح الطابع الاستعماري لهذه
السياسات ويعيد الاعتبار لقيم الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية. هذا الخطاب لا
يمكن أن يكون فعالا إلا إذا انطلق من الواقع اليمني ذاته، من تاريخ المقاومة ضد
الاستعمار البريطاني، ومن التراث الثقافي والاجتماعي الذي يشكل هوية اليمنيين.
إن بناء
التحالفات مع القوى المتحررة في الداخل، وعلى رأسها الحوثيون، يتطلب أيضا انفتاحا
على قوى أخرى لم تنخرط بالكامل في المشروع الإماراتي بعد، مثل بعض فصائل الحراك
الجنوبي الرافضة للوصاية الخارجية، أو القوى القبلية التي لا تزال تحتفظ بقدر من
الاستقلالية، وكذلك النخب الثقافية والفكرية التي تشعر بخطر التبعية للإمارات.
فالمطلوب هو نسج شبكة واسعة من القوى الاجتماعية والسياسية التي تشترك في هدف
واحد: مقاومة الاحتلال الناعم ومنع تفتيت اليمن. هذه الشبكة يجب أن تُبنى على قاعدة
برنامج سياسي واضح يضع في أولوياته استعادة السيادة على الجزر والموانئ والممرات
البحرية، ورفض أي ترتيبات أمنية أو اقتصادية تفرض من الخارج.
وما يجب
إدراكه هو أن المشروع الإماراتي في عبد الكوري ليس سوى جزء من مخطط أكبر يستهدف
السيطرة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتحويل المنطقة إلى فضاء مفتوح أمام
النفوذ الإسرائيلي والأمريكي. ومن هنا فإن المواجهة مع هذا المشروع ليست خيارا
تكتيكيا مؤقتا، بقدر ماهي معركة استراتيجية طويلة الأمد تحدد مستقبل اليمن كدولة
ذات سيادة أو كمحمية تابعة.. وهذه المواجهة لن تكون سهلة، لكنها ممكنة إذا ما
توفرت الإرادة السياسية والقدرة على توحيد الجبهة الداخلية.
الخطوة
الأولى في هذا الاتجاه هي تجاوز الانقسامات الداخلية التي غذتها الإمارات
والسعودية طوال سنوات الحرب؛ فبدلا من أن تتحول القوى اليمنية إلى أدوات متصارعة
في أيدي الخارج، يجب أن تعيد صياغة علاقتها ببعضها البعض على قاعدة المصلحة
الوطنية العليا..
وإذا كان
الحوثيون قد تمكنوا من الصمود أمام العدوان الخارجي، فإن دمجهم في مشروع وطني جامع
سيعطي للمقاومة زخما أكبر، ويجعلها قادرة على استعادة الجزر والموانئ المحتلة، بما
في ذلك عبد الكوري وسقطرى والمخا.
إن التحدي
الأكبر يكمن في خلق وعي شعبي واسع بخطورة المشروع الإماراتي. فالمعركة ليست فقط
بين النخب السياسية أو القوى المسلحة، وإنما هي أيضا معركة على عقول الناس
وقلوبهم. لذلك يجب الاستثمار في الإعلام المقاوم، وفي التعليم، وفي الثقافة
الوطنية، وفي بناء شبكات مجتمعية قادرة على إفشال محاولات الاختراق الإماراتي.
أخيرا،
فإن تجربة الشعوب الأخرى تُظهر أن أي مشروع استعماري ينهار عندما يفقد القدرة على
كسب الشرعية الشعبية، وهذا ما يجب العمل عليه في اليمن.
وبالنتيجة،
فإن مواجهة المشروع الإماراتي في عبد الكوري لا يمكن أن تُختزل في البعد العسكري
وحده، ولا يمكن أن تُترك لمعادلات القوى الخارجية، وإنما يجب أن تقوم على بناء
تحالفات متينة مع القوى المتحررة في الداخل، وعلى رأسها الحوثيون، وعلى تعبئة
شاملة للشعب اليمني حول مشروع وطني مقاوم يعيد الاعتبار للسيادة والاستقلال. هذه
هي الطريق الوحيدة لإفشال "الاستعمار الناعم" وتحويل عبد الكوري من
قاعدة للهيمنة إلى رمز جديد للمقاومة اليمنية، كما كانت عدن والجنوب في مواجهة
الاستعمار البريطاني قبل عقود. وبقدر ما ينجح اليمنيون في تحويل هذه المواجهة إلى
معركة وعي وكرامة، بقدر ما ستنهار المشاريع الإمبريالية مهما بدت قوية ومحصنة.