يعيش
السودان أجواء
التقسيم مجددا، بعدما عاشه سابقا حال استقلال جنوب السودان بدولته
التي أعلنها في تموز/ يوليو 2011، تأتي المحاولة الجديدة من الغرب السوداني هذه
المرة، حيث أدي قائد "مليشيا الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"
حميدتي"،
اليمين الدستورية رئيسا لمجلس رئاسي لحكومته الموازية التي شكلها في شهر تموز/ يوليو
الماضي، وضمت رئيس الحركة الشعبية "شمال" عبد العزيز الحلو نائبا لـحميدتي
كما ضمت 13 عضوا آخرين.
تمت
هذه الخطوة بعد صراع مسلح بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح
البرهان
رئيس المجلس السيادي السوداني المعترف به دوليا، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي
الذي انشق عن المجلس السيادي في وقتٍ سابق، منقلبا على البرهان، وهو ما خلَّف مجازر
تعرض لها المدنيون السودانيون، أعقبتها مجاعة طاحنة وأوبئة "الكوليرا"
و"حمى الضنك" التي تفتك بآلاف السودانيين في عدة مدن.
تطرح
هذه الخطوة العديد من الأسئلة المهمة، حول: ماذا وراء الإعلان؟ وهل يؤدي إلى تقسيم
جديد؟ وما الموقف الدولي وأهم الفاعلين منه؟
إدانة
دولية واعتراف غائب
حكومة
حميدتي التي مر على إعلانها بضعة أيام، لم يعترف بها أحد، لكن ليس هذا هو المهم، المهم
هنا هو إعلان المؤسسات الدولية الرئيسية رفض الاعتراف بهذه الحكومة، والتحذير من
ذلك، حيث عبرت الأمم المتحدة عن قلقها من الخطوة، ورفض مجلس الأمن الاعتراف بالحكومة، واعتبرها خطوة نحو
تفكك السودان، والاتحاد الأفريقي بدوره دعا إلي عدم الاعتراف بالحكومة الموازية
التي أعلنتها قوات الدعم السريع، حيث دعا مجلس السلم والأمن، التابع للاتحاد
الأفريقي، "جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي إلى رفض
تقسيم السودان، وإلى عدم الاعتراف بما يُسمى الحكومة الموازية التي شُكّلت؛ لما
لذلك من عواقب وخيمة على جهود السلام ومستقبل السودان". وأدانت الجامعة العربية الإعلان، حيث اعتبرته "تحديا
صارخا لإرادة الشعب السوداني، ومحاولة لفرض أمر واقع بالقوة العسكرية دون اكتراث
بما يمكن أن تؤديه هذه الخطوة من تعقيد أي أمل في حل سياسي شامل للأزمة السودانية،
وزيادة دوامات العنف والتشريد التي يعاني منها ملايين الأبرياء من الشعب السوداني".
وفق
هذه التحركات الصادرة بالإدانة من المجالس الإقليمية والدولية المعنية، تصبح فرص
الاعتراف بهذه الحكومة بالغة الصعوبة، لكنها ليست مستحيلة، فمن المحتمل أن تقوم
بعض الدول بالاعتراف وفق محاولات يحفزها داعمو هذه الحكومة، قد يصادف بعضها نجاحا لدى
بعض الدول الأفريقية الفقيرة التي تمكن مساومتها عبر المساعدات أو تبادل المصالح.
نمذجة
التفكيك
لم
تكن حكومة حميدتي المحاولة الأولى من نوعها دوليا، فقد سبقتها عشرات التجارب عبر
تواريخ مختلفة وجغرافيا متعددة، لكنها ما يميزها أنها محاولة مضافة في سياق "نمذجة"
تفكيك الدول، استجابة لإرادات قوى إقليمية داعمة لخريطة جديدة للإقليم، تمرر تلك
الإرادة عبر أطراف مسلحة تدعمها لتشكيل حكومات الأمر الواقع، مستفيدة من حالة
السيولة التي تعانيها الدولة الأصلية بسبب ظروف عدة، كالثورة، أو الحرب. حدث هذا
في اليمن عندما قامت "جماعة الحوثي" بإعلان حكومتها بعد سلسلة معارك
شنتها قوات تحالف "عاصفة الحزم" الذي أسسته المملكة العربية السعودية،
بالتوازي مع معارك داخلية بين مفردات المشهد اليمني الذي تشرذم بين حكومة
"ضعيفة" معترف بها دوليا، وحكومة موازية "قوية" لا يعترف بها
أحد، لكنها حكومة الأمر الواقع المسيطرة على القرار والجغرافيا اليمنية. تجربة
أخري جرى تمريرها في ليبيا عبر مجموعة معارك ضد الحكومة المعترف بها دوليا أسفرت
عن سيطرته على الشرق الليبي. وتعد محاولة حميدتي "ثالثة الأثافي" التي
أكدت هذه النمذجة عبر استغلال حالة السيولة وإحداث انشقاق باستخدام القوة والسيطرة
على مواقع جغرافية، ومن ثم إعلان حكومة تسعى للحصول على الاعتراف الدولي.
يحتاج
تنزيل النموذج إلى ثلاثة عناصر رئيسية؛ العنصر الأول: قوة مسيطرة على جزء من إقليم
الدولة ومعها تسليح يوازي أو يفوق تسليح الحكومة الشرعية، العنصر الثاني: تركيبة
داخلية مناسبة للانشقاق تتمثل في القبلية أو العصابات المرتبطة بمصير متقارب،
العنصر الثالث: داعم دولي له مصلحة في إحداث الانشقاق للسيطرة على الثروات أو
التمتع بمكانة متقدمة في جغرافيا الدولة المرتبطة بالموانئ أو مركزية الموقع أو
وجود الثروات الكثيفة، أو كل ذلك معا. بعد توفر هذه العناصر، تنطلق الحكومة
الموازية في بناء شرعيتها، منتظرة الوقت المناسب لتقديم خدمات أو تطمينات واقعية
للمجتمع الدولي أو بالأحرى للقوى الرئيسية فيه حتى تنال الرضا والاعتراف، وفي غضون
ذلك تسعى بكل الطرق لإضعاف الطرف الشرعي ونزع نقاط قوته والمشاغبة عليه، وذلك على
حساب المواطنين الذين يعانون القتل والعدوان والتجويع والفتك بالأمراض والكوارث
الطبيعية، وكلها أمور اجتمعت في الحالة السودانية.
الإمارات
والسودان ومحكمة العدل الدولية
رفعت
الحكومة الشرعية في السودان دعوى أمام محكمة العدل الدولية في آذار/ مارس الماضي،
متهمة الإمارات بارتكاب انتهاكات تخرق التزاماتها باتفاقية منع جريمة الإبادة
الجماعية تجاه مجموعة المساليت في السودان، وخاصة في غرب دارفور، لكن رفضتها
المحكمة رغم قيام الدلائل على جديتها؛ لسبب راجع إلى تحفظ الإمارات على اتفاقية الإبادة
الجماعية وولاية محكمة العدل الدولية عليها، وهو ما أدى فيما بعد لإعلان السودان قطع العلاقات الدبلوماسية مع
الإمارات واستعادة طاقم السفارة من أبو ظبي. في المقابل، أكدت الإمارات عدم
اعترافها بقرار "سلطة بورتسودان" باعتبارها لا تمثل الحكومة الشرعية
للسودان، معتبرة الحكومة السودانية بقيادة البرهان أحد الطرفين المتحاربين في
السودان، حسب بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الإماراتية.
أحد
أهم الدروس المستفادة التي خرجت بها الإمارات من هذه الجولة في محكمة العدل
الدولية، كان السعي نحو إيجاد "شكل قانوني" لمليشيا الدعم السريع، وهو
ما يؤكده سياق الأحداث، فالحكم الذي أصدرته العدل الدولية لم يتطرق إلى صحة
الاتهامات، كما لم ينفها، وقطع العلاقات الذي أعلنته حكومة السودان كان تمهيدا
لاتخاذ خطوات قانونية أخرى، ربما في اتجاه الجنائية الدولية، وإعلان الإمارات التساوي
بين طرفي الصراع واعتبارهما على قدم المساواة، يدفع في اتجاه دعم الإمارات لخطوة
إعلان "حكومة حميدتي"، وهو ما ينضم لدعم عسكري ولوجستي أثبتته تقارير
دولية أشرنا إليها في مقال سابق.
مصر
والسودان والأمن القومي
في آذار/
مارس 2025 أعلنت مصر موقفا استباقيا يرفض إعلان حكومة موازية في السودان، معربة في بيان أصدرته وزارة الخارجية المصرية عن أن
"تشكيل حكومة موازية يعقّد المشهد في السودان، ويعوق الجهود الجارية لتوحيد
الرؤى بين القوى السياسية السودانية، ويفاقم الأوضاع الإنسانية"، لكن الحكومة
المصرية أحجمت عن التعليق بعد إعلان هذه الحكومة حيث لم يصدر بيان رسمي حتى كتابة
هذا المقال.
تعد
مصر الدولة الأكثر تضررا من تقسيم السودان في حال حدوثه، كونه يتم على حدودها
الجنوبية، وفي منطقة تؤثر بشكل كبير على أمنها القومي في اكثر من اتجاه، عسكريا حيث تدور معركة أهلية لا تهدأ ملاصقة لحدودها الجنوبية، وسياسيا حيث ترتبط مصر
بالسودان في أكثر من ملف؛ أبرزها وأهمها ملف "مياه النيل" الذي أخفقت
محاولات الدولتين في إقناع إثيوبيا بالحفاظ على حصتيهما، والتقسيم لو تم سيضعف
الموقف الضعيف أصلا، وينضم الاختراق الجنوبي للأمن القومي المصري إلى اختراقٍ غربي
يمثله "انقسام ليبي"، وخطر شرقي تمثله حرب ضروس مستمرة لعامين، مع
تهديدات باحتلال إسرائيلي لقطاع غزة ومن ثم إهدار لشروط اتفاق السلام، بالإضافة
لتهديدات بتهجير الفلسطينيين إلي سيناء، وفوق ذلك حدود شمالية تحمل أطماعا
اقتصادية في شرق المتوسط تقودها إسرائيل. كل هذه الأخطار تجعل من نجاح تقسيم جديد
في السودان خطوة بالغة الخطورة على الأمن القومي المصري.
ماذا
بعد؟
هذه
الأزمة في اتجاهها لأحد طريقين، إنهاء الانقسام عبر سيطرة أحد الطرفين على كامل
الأراضي السودانية، وهو ما يحتاج من حلفاء أحد الطرفين إعانته على ذلك، وهو مستبعد
في الوقت الراهن، الطريق الآخر: تعزيز خطوات الانقسام الواقعي والسعي نحو ترسيخ
قيادة حميدتي السياسية وإضعاف قبضة البرهان على الأمور، وهو ما قد ينتهي بالتقسيم
القانوني في نهاية المطاف. ونجاح أحد الطريقين مرتبط بالإجراءات التي يتخذها حلفاء
الحكومتين، وليس للسودانيين -مع الأسف- قدرة على حسم مصيرهم في عالم لا يتحرك
لإيقاف إبادة جماعية تتم على البث المباشر، كما لا يتحرك لإنهاء مجاعة مهندسة
بآليات مصطنعة، والسودان في هذا لا يختلف عن غزة، كلاهما منسيان، حزينان، مظلومان.