شغلت مفاوضات جينيف بين الرئيس عبد الفتاح البرهان
ومستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا مسعد بولس
الرأي العام
المهتم بما يدور في
السودان داخليا وخارجيا، بالرغم من سريتها وعدم إعلان أجندتها
رسميا من الجانبين، إلا أن توقيت اللقاء ومشاركة الرئيس البرهان شخصيا كانت عوامل
مهمة في تحديد الملامح الرئيسية لكواليس مباحثات جينيف غير المعلمة، وبغض النظر عن
نتائجها الحالية والمستقبلية فهي
تعني بداية صفحة جديدة في مستقبل
العلاقات
الثنائية بين البلدين في عهد الرئيس ترامب، واتجاه الإدارة الجديدة لتجاوز وكلائها
في المنطقة.
ولم يأت ذلك من فراغ، بل نتيجة لدراسات
اعدتها مؤسسات أمريكية مهمة مثل ال CIA والبنتاغون كانت نتاجا
لحوار تمهيدي مع مؤسسات سودانية نظيرة، واستطلاعات رأي أجريت مع سودانيين بالداخل
والخارج دفعت بالملف السوداني إلى صدارة أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة بعد أن
كان مهملا في بداية مهمتها.
ومما يعزز هذا الإتجاه فشل اجتماع الآلية
الرباعية الذي دعت له وزارة الخارجية الأمريكية قبل شهر من الآن، بمشاركة السعودية
والإمارات ومصر بجانب البلد المستضيف، لوقف الحرب في السودان، إلا أن عدم مشاركة
الحكومة السودانية وأصحاب المصلحة الحقيقيين بجانب تحفظ السودان على مشاركة
الإمارات في أي وساطة لإيقاف الحرب، ومطالبة البعض بإشراك قطر وآخرين في الإجتماع وغيرها
من الأسباب دفعت الخارجية الأمريكية إلى تأجيل الاجتماع في المرة الأولى وإلغائه
نهائيا بعد إيقانها بعدم جدواه بصورته الحالية، مما جعلها تفكر جديا في التواصل
المباشر مع الحكومة السودانية وفتح صفحة جديدة من التعاون في ملفات ظلت مفتوحة
طيلة السنوات الماضية تتعلق بمكافحة الإرهاب في المنطقة بجانب إيجاد دور جديد
للإدارة الأمريكية في وقف الحرب وطموحات ترامب الشخصية كمؤثر في التوصل إلى سلام ووقف الحرب المستمرة لعامها
الثالث في السودان.
ومما يعزز هذا الإتجاه أن مفاوضات البرهان
وبولس التي تمت بتيسير قطري تجاوزت وقف الحرب إلى القضايا الإستراتيجية المتعلقة بأمن
البحر الأحمر والمنطقة بكاملها امتدادا لمسيرة تعاون ممتدة منذ عهد النطام السابق
في السودان توجت برفع العقوبات الاقتصادية، وتعثرت وفقا للتطورات السياسية في
المشهد السوداني المرتبك الذي انتهى إلى
حرب الخامس عشر من أبريل، بجانب رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في تجاوز أخطاء
إدارة (بايدن) التي أدت إلى مزيد من التعقيدات حين تبنت (الإتفاق الإطاري) أحد
أسباب إشتعال الحرب في السودان.
قرار الرئيس البرهان بقيادة المفاوضات المباشرة بنفسه قد ساهم في التوصل إلى نتائج سريعة من خلال التقرير الأمني الموثق لإنتهاكات وفظائع الدعم السريع، و تحركات العواصم العربية والإفريقية الداعمة له، فبعد أيام من لقاء جنيف أدان (بولس) انتهاكات الدعم السريع في الفاشر وطالبه بفك الحصار عنها، بالتزامن مع إدانة مجلس الأمن لحصار الفاشر ورفضه لأي مساعي لإقامة حكومة انفصالية في دارفور، مقرونا مع تحركات داخل الكونغرس الأمريكي لتصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية.
ووفقا لما دار في كواليس اللقاء فإن فإن
الرئيس البرهان جدد رفضه الكامل لوجود الدعم السريع في المشهد السياسي نظرا لتمرده
على قيادة الجيش بجانب الإنتهاكات الواسعة المستمرة بحق الشعب السوداني وتدمير
البنية التحتية للدولة السودانية وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في كردفان ودارفور، وطرح البرهان تصوره لمستقبل
الدعم السريع المتمثل في دمج ما تبقى من قواته في الجيش السوداني وتقديم قادته
للمحاكمة، بينما سلمت الإدارة الأمريكية مقترحاتها للبرهان بشأن وقف إطلاق النار
وفتح ممرات إنسانية لإيصال المساعدات الإنسانية للمواطنين المحاصرين بواسطة الدعم
السريع في الفاشر وكادوقلي وبابنوسة والبدء في عملية سياسية لإنتاج حلول سودانية
دون تدخلات خارجية لا تستثني سوى المطلوبين جنائيا.
وعلى الجانب المقابل فإن الإعلام الموالي
للدعم السريع حاول التقليل من لقاء البرهان وبولس بإطلاق شائعات حول لقاء مماثل
لمستشار الرئيس الأمريكي مع زعيم التمرد حميدتي لم يثبت حدوثه حتى الآن، وكذلك
الإيحاء بأن جملة شروط أمريكية وضعت على طاولة البرهان على رأسها إنهاء الدور
المزعوم للإسلاميين في المشهد الحالي وإزاحتهم من قيادة الجيش، ويبدو أن من يروجون
لهذه المزاعم وجدوا ضالتهم في التغييرات الروتينية والإحالات والترقيات في صفوف
الجيش السوداني في عيده الحادي والسبعين، وهي إجراءات تقليدية تجريها قيادة الجيش
لتجديد الدماء والاستعداد لمرحلة جديدة تستهدف تحرير كردفان وفك حصار الفاشر هذه
المرة.
ويبدو أن قرار الرئيس البرهان بقيادة
المفاوضات المباشرة بنفسه قد ساهم في التوصل إلى نتائج سريعة من خلال التقرير الأمني الموثق لإنتهاكات
وفظائع الدعم السريع، و تحركات العواصم العربية والإفريقية الداعمة له، فبعد
أيام من لقاء جنيف أدان (بولس) انتهاكات الدعم السريع في الفاشر وطالبه بفك الحصار
عنها، بالتزامن مع إدانة مجلس الأمن لحصار
الفاشر ورفضه لأي مساعي لإقامة حكومة انفصالية في دارفور، مقرونا مع تحركات داخل
الكونغرس الأمريكي لتصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية.
وفوق ذلك كله فإن نتائج حوار جينيف تؤكد أن اختراقا
مثمرا قد حدث معززا شرعية الحكومة السودانية ومجلس السيادة وصعوبة تجاوزهما
في أي خارطة سياسية لمستقبل السودان.