حرص رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد
ترامب، منذ عودته إلى البيت الأبيض، أن يقدم نفسه على أنه "رجل السلام" الذي يعرف كيف ينهي الحروب ويصنع الصفقات، على خلاف سنوات حكمه التي رسمت صورة مشابهة لوزير الخارجية الأمريكي السابق، هينري كيسنجر.
وشهد العالم في حقبتي رئاسة ترامب، أزمات متجددة في في ملفات إقليمية متعددة من القضية الفلسطينية مرورا بالحرب الروسية الأوكرانية إلى ملف النووي الإيراني، إلى جانب تحالفات متقلبة وصورة متناقضة بين ما يعلنه وما يفعله.
ويدعي ترامب أن أمريكا يجب أن تقلّص تدخلها الخارجي، ويستخدم شعار “أمريكا أولًا”، لكن في نفس الوقت، يُصدر قرارات ضربة عسكرية أو يهدد بالتدخل أو يحافظ على قواعد عسكرية في مناطق إستراتيجية.
وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن ترامب اعتاد إطلاق تصريحات شديدة اللهجة، تصل أحيانًا إلى حد التهديد بشن حرب أو فرض سياسات متطرفة، لكنه سرعان ما يعود ليصفها بأنها مجرد "تلميحات تكتيكية" أو جزء من أسلوبه في التفاوض، قبل أن يخفف من حدة الخطاب لطمأنة حلفائه أو احتواء ردود الفعل السلبية.
وعلى سبيل المثال، تختصر علاقة ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان جانبا من هذه الازدواجية، حيث امتدحه مرارا ووصفه بـ"الصديق العظيم"، معتبرا أن العلاقة الشخصية بينهما جنبت واشنطن وأنقرة الانهيار، لكن هذه المجاملة لم تدم طويلا.
وحين أطلقت
تركيا عمليتها العسكرية ضد الأكراد شمال سوريا عام 2019، وجّه ترامب رسالة قاسية إلى أردوغان قال فيها: "لا تكن متصلبا.. لا تكن أحمق!"، مهددا بـ"تدمير الاقتصاد التركي".
المفارقة، جاء هذا التحذير جاء بعد ساعات فقط من قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وهو ما اعتُبر ضوءا أخضر لتركيا لمهاجمة حلفاء واشنطن الأكراد.
اظهار أخبار متعلقة
وفي سياق متصل، أشارت الأكاديمية الوطنية للاستخبارات في تركيا، والتابعة لجهاز المخابرات MIT، بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إلى أن العلاقات الشخصية بينه وبين الرئيس التركي قد تلعب دورا محوريا في تفكيك أزمات البلدين.
ووصف التقرير علاقة أردوغان بترامب خلال ولايته الأولى بأنها اتسمت بـ"تطابق الكيمياء"، محذراً في الوقت نفسه من "فردانية" ترامب وتقلباته الحادة في اتخاذ القرارات بشكل منفرد بعيداً عن معاونيه.
وجلس ترامب في مركز الطاولة إلى جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماع عقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعلن قائلاً: "سوف نُنهي الحرب في
غزة".
وأثار جلوس الزعيمين جنبًا إلى جنب في موقع بارز من الاجتماع تساؤلات حول دلالاته السياسية، وما إذا كان يعكس تقاربا استثنائيا أو ترتيبا مقصودا يبرز موقعهما في نقاشات ملف العدوان على غزة.
بحسب تحليلات دولية نشرها موقع Better World Campaign، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن منذ تأسيس الأمم المتحدة نحو 86 مرة، وكان أكثر من نصف هذه المرات لعرقلة قرارات تنتقد "إسرائيل" أو تتعلق بالقضية الفلسطينية.
"اتفاقيات أبراهام"
ظهر ترامب في البيت الأبيض عام 2020، في مشهد استعراضي وهو يستضيف الإمارات والبحرين و"إسرائيل" لتوقيع اتفاقيات تطبيع، قال يومها: "نحن هنا لنغير مجرى التاريخ".
الاتفاقيات وُصفت بأنها خطوة كبرى لصنع السلام، وفعلا قدمت لترامب صورة الزعيم الذي جمع خصوما قدامى على طاولة واحدة.
لكن خلف الكواليس، لم تُعالج هذه الاتفاقيات جوهر القضية الفلسطينية، ورأت القيادة الفلسطينية في حينها أنها تمثل "خيانة"، بينما كانت صواريخ تُطلق من غزة أثناء مراسم التوقيع. وبدا "السلام" في تلك اللحظة أقرب إلى إعادة ترتيب التحالفات ضد إيران منه إلى تسوية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي.
وكانت وزارة الخارجية الفلسطينية قد قالت في بيان صدر من رام الله يوم التوقيع إن هذه الاتفاقيات "خيانة للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة"، مؤكدة أنها "لن تُضفي أي شرعية على الاحتلال أو على استمرار سياساته العدوانية".
كوريا الشمالية
في ملف آخر، تفاخر ترامب بأنه منع حربًا نووية مع كوريا الشمالية. عقد ثلاثة لقاءات مع كيم جونغ أون، صافحه في المنطقة المنزوعة السلاح، وصرّح أنه "انسجم بشكل رائع" معه.
لكن بعد كل هذه القمم، لم يقدّم كيم أي تنازل. المفاوضات تعثرت، وبرنامج بيونغ يانغ النووي واصل التوسع. ما بدا أنه نجاح إعلامي كان مجرد هدنة قصيرة انتهت بعودة التوترات إلى الواجهة.
أفغانستان
من وعوده الانتخابية إنهاء أطول حرب أمريكية. وبالفعل، وقّع اتفاقًا مع طالبان وانسحب آلاف الجنود، غير أن الانسحاب تمّ بلا تسوية سياسية داخلية.
تركت إدارة ترامب حكومة كابول ضعيفة، وأفرجت عن آلاف الأسرى من طالبان. لم يمض وقت طويل حتى عادت الحركة للسيطرة على البلاد بعد مغادرته، في انهيار وُصف بأنه فوضوي ومهين.
وأخيرا، طالب ترامب بإعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجوية التي انسحب منها الجيش الأمريكي عام 2021، معتبرا أن العودة إليها ضرورية لأسباب استراتيجية، خاصة قربها من المناطق الحساسة، وهدد بأن "أمورًا سيئة ستحدث" إذا لم تُعاد القاعدة سريعًا.
ورفضت حكومة طالبان المطلب تماما، مشددة على سيادة أفغانستان ورفض التنازل عن الأراضي، مطالبة باتباع نهج "الواقعية والعقلانية" بدل التهديدات العسكرية.
إيران
انسحب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، ثم شدد العقوبات فيما سماه "الضغط الأقصى". وتصاعدت الأحداث، من هجمات على ناقلات، إلى إسقاط طائرة مسيرة أمريكية، ثم اغتيال قاسم سليماني، ردّت طهران بقصف قواعد أمريكية في العراق.
واتجهت "إسرائيل" بعد خمس سنوات من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، إلى "التعامل" مع النووي الإيراني بصورة مباشرة، حيث شرعت بهجوم جوي واسع استهدف علماء الطاقة النووية وقادة عسكريين بارزين في طهران ومنشآت حيوية.
أمر ترامب، وبعد 12 يوم من القصف المتبادل بين "إسرائيل" وإيران، بتوجيه ضربات بقاذفات إستراتيجية لتدمير المفاعلات النووية الإيرانية ليلعن بعدها بإحلال عملية السلام.
القضية الفلسطينية
قدّم ترامب نفسه كوسيط للسلام، لكنه استخدم الفيتو عشرات المرات لمنع قرارات في مجلس الأمن تدين دولة الاحتلال أو تطالب بحماية الفلسطينيين.
واعترف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ونقل السفارة إليها رغم الرفض الدولي، إلى جانب طرحه "صفقة القرن"، لكنها وُصفت بأنها منحازة بالكامل لـ"إسرائيل"، وفي كل مرة، ابتعدت واشنطن عن صورة الوسيط النزيه، واقتربت أكثر من طرف على حساب آخر.
اظهار أخبار متعلقة
ذكرت وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 1.9 مليون شخص، أي ما يقارب 85 في المئة من سكان غزة، نزحوا داخليًا جراء الحرب. وأوضحت منظمة الصحة العالمية أن غالبية المرافق الصحية في القطاع خرجت عن الخدمة بسبب القصف ونقص الوقود، فيما أكد برنامج الغذاء العالمي أن جميع سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد بنسبة 100 في المئة.
أوكرانيا
أشارت وسائل إعلام دولية إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدد قبيل القمة بأن موسكو ستواجه "عواقب شديدة" إذا واصلت عدوانها على أوكرانيا، غير أن تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) أوضح أن القمة نفسها لم تشهد إعلان عقوبات قوية جديدة، ولم تُترجم التهديدات إلى خطوات عملية، ما يعكس التباين بين الخطاب المتشدد والتنفيذ المتردد في استراتيجيته.
وذكرت صحيفة واشنطن بوست أن ترامب صرّح خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن أوكرانيا قادرة على استعادة جميع أراضيها المحتلةـ لكن تقارير صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أوضحت أن قمة ألاسكا شهدت نقاشًا حول قبول احتمال التنازل عن بعض الأراضي كشرط للتسوية، في تناقض واضح مع الموقف السابق الذي أكد رفض أي تنازل.
واستخدم ترامب في وقت سابق المساعدات العسكرية لكييف كورقة ضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مما أدى إلى محاكمته في الكونغرس بتهمة إساءة استخدام السلطة.
وفي الوقت الذي زوّد فيه أوكرانيا بأسلحة نوعية، تبنى خطابا متساهلا مع موسكو، بل ولامح إلى أن سكان القرم "يميلون إلى روسيا".
وأشار تقرير لوكالة رويترز أن ترامب هدّد في كانون الثاني/يناير بزيادة العقوبات على روسيا إذا رفضت التفاوض، لكنه عاد لاحقًا ووجّه دوائر وزارة الخزانة ووزارة الخارجية لإعداد خطط تتعلق بتخفيف العقوبات عن بعض الكيانات الروسية، وذلك في إطار مفاوضات محتملة.
الصين والحرب التجارية
رفع ترامب الرسوم الجمركية على مئات مليارات الدولارات من البضائع الصينية، وردّت بكين بالمثل. الأسواق اهتزت، وسلاسل التوريد تعطلت، والمستهلك الأمريكي دفع الثمن.
اظهار أخبار متعلقة
ولم يحقق ترامب سوى "اتفاق مرحلة أولى" مؤقت، بينما بقيت معظم الرسوم قائمة. في الوقت نفسه، تصاعدت التوترات الدبلوماسية: إغلاق قنصليات، عقوبات على شركات، دعم أوضح لتايوان. العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم خرجت من عهد ترامب أكثر حدة وتعقيدًا.
لم يبدأ ترامب حربًا جديدة، ولكنه أيضا لم ينه أي حرب قائمة، الإنجازات التي تباهى بها جاءت إما ناقصة أو قصيرة الأمد، بينما الأزمات الكبرى – إيران، فلسطين، أوكرانيا، الصين – بقيت مشتعلة أو ازدادت تعقيدًا.
كشف الفجوة بين الخطاب والواقع عن رجل يصف نفسه بـ"صانع السلام"، لكنه يترك العالم أمام أزمات متجددة، ويكتفي بمشاهد احتفالية أمام الكاميرات بدل تقديم حلول دائمة.